مفارقة فكر محمد إقبال

مفارقة فكر محمد إقبال


04/12/2019

محمد إقبال (1877-1938)؛ أول من استأنف طريقة تفكير سيد أحمد خان، ورسم نهجه التأويلي بمنطق أعمق، ورؤى أكثف وأبعد غوراً، فقد سعى لزحزحة علم الكلام القديم، وتمحورت جهوده حول محاولة بناء فلسفة بديلة للدين، ليست مكتفية بذاتها؛ بل اغتنت بما استوعبته وتمثّلته من معارف الآخر، وقد تنوعت مرجعيات التفكير الكلامي عند إقبال، فهو تارة يستلهم مقولات الفلاسفة، وأخرى يتعاطى مع خبرة اللاهوت المسيحي الجديد، وثالثة يستعين بعلماء النفس، أو الاجتماع، ورابعة ينهل من التصوف الفلسفي، وهو بذلك يتخلص من حالة الوجل والخوف حيال معطيات اللاهوت الجديد، والعلوم الإنسانية الحديثة، هذا الخوف الذي استبدّ بتفكير معظم الإسلاميين.


لكن إقبال كثيراً ما كان يتعاطى مع الفلسفة وعلوم الإنسان والمجتمع الحديثة بمجرد إشارات عاجلة؛ إذ لم تنعكس في آثاره بوضوح بيانات معمقة للفلسفة الحديثة وعلوم الإنسان والمجتمع، ولا نجده يوظفها بشكل تظهر فيه براعته وقناعته في ضرورة استعمال مناهجها وأدواتها في فهم التراث وتحليله ونقده، وإعادة بناء التفكير الديني في الإسلام في ضوء ذلك، غير أنّه عندما ينتقل إلى آثار العرفاء، كجلال الدين الرومي، نجده يغوص في الأعماق، وكأنّ الرومي تجلى فيه، كما يلمح لذلك، مثلما تجلّى ابن عربي بالرومي، فتسامت روحه في عوالم المعنى، إلى الحدّ الذي يصف إقبال أثر جلال الدين عليه بقوله:
صيّر الرومي طيني جوهرا    من غباري شاد كوناً آخر
كتب محمد إقبال "تجديد التفكير الديني في الإسلام"، وهو أول نصّ في فلسفة الدين وعلم الكلام الجديد، لكن حضوره وتأثيره ما يزالان هامشيَّين في الدراسات الدينية بالعربية، ففي كتابه هذا خصص محمد إقبال فصلاً عالج فيه "التجربة الدينية"، وصاغ مفهوماً للوحي يتمحور حول هذه التجربة، وميز بين تجربة الأنبياء وتجربة العرفاء، ذلك أنّ الثانية يبقى صاحبها حبيساً فيها، ولا يخرج من فضائها، فيما يتخطى النبي تجربته الشخصية؛ لأنّها تمنح شخصيته إرادة تغيير العالم، وجعل إقبال الحاجة لوحي الرسالة الإلهية تختص بمرحلة من مراحل الوعي البشري، فإذا بلغ عقله رشده اعتمد على نفسه، ولم يعد في حاجة إلى ما هو خارج عنه كي يتطور ويتكامل، بل يعتمد على وعيه وتجاربه وخبراته المتراكمة، وذلك ما لخصه محمد إقبال في قوله: "النبوة في الإسلام لتبلغ كمالها الأخير في إدراك الحاجة إلى إلغاء النبوة نفسها، وهو أمر ينطوي على إدراكها العميق لاستحالة بقاء الوجود معتمداً إلى الأبد على مقود يقاد منه، وأنّ الإنسان، كي يحصل كمال معرفته لنفسه، ينبغي أن يترك ليعتمد في النهاية على وسائله هو".

محمد إقبال صاغ فكرة الهوية الدينية للدولة ورسخها في ضمير المسلمين في الهند، وهو أول من أنشأها على الأرض

الحقيقة الدينية والقيمية أدركها الإنسان بالتدريج عبر التاريخ، فقد لبثت البشرية آلاف السنين يرشدها العقل وتهتدي بالنبوة في إدراك الحقيقة الدينية والقيمية، إلى أن ختمت النبوة بمحمد ﷺ، وبمرور الزمن اتضحت رؤية الإنسان ونضجت وتكاملت، تبعاً لنضج وتكامل الوعي ومناهج وأدوات المعرفة التي يوظفها في الفهم، بنحو تتمكن فيه البشرية من أن تعتمد في معرفة الحقيقة الدينية والقيمية على ما لديها من كتب مقدسة، وما تراكم خلال تاريخها الطويل من جهود الفلاسفة والعلماء، ما دامت حاجات الروح واحدة، حيثما وأنّى كان الكائن البشري، فلم تعد هناك حاجة إلى أنبياء جدد أو كتب مقدسة إضافية بعد ختم النبوة ."
إنّ محمد إقبال لم يطور أفكاره التي تحدث عنها في "تجديد التفكير الديني في الإسلام"، وكأنّه لم يشأ ذلك، أو لم تسعفه حياته في أن يثري جهوده نظرياً، ولم يكتشف مساراتها وتطبيقاتها في معارف الدين.

اقرأ أيضاً: خاتمية الرسالة والتاريخ المفتوح عند محمد إقبال
إقبال شاعر ظلت روحه تكتوي بآلام المسلمين في موطنه وعالم الإسلام، والشاعر بطبيعته الانفعالية المفرطة الحساسية لا يغويه العمل الفكري الذي يتطلب صمتاً متأملاً، وجلداً متريثاً، وصبراً طويلاً، ولعلّ انهماك إقبال في تأسيس وطن قومي للمسلمين في باكستان، واختصار كلّ أحلامه في ذلك الوطن، واستهلاك طاقته في العمل السياسي، وجه اهتماماته لمسار آخر، وأقعده عن خلق امتداد حيوي لآفاق الوعي الذي كان يعد به، وتأسيس مدرسة فكرية تعمل على إعادة بناء التفكير الديني، مثلما فعل مواطنه المودودي في تأسيس جماعته المعروفة بـ "الجماعة الإسلامية"، وإن كانت ظروف وعوامل بناء المدارس الفكرية تختلف عن بناء الجماعات السياسية، فهذه الجماعات لا تتطلب سوى شخصية تمتلك براعة في مخاطبة مشاعر الناس وإثارة عواطفهم وتحريض هوياتهم، في حين تتطلب المدارس الفكرية شخصيات استثنائية في نبوغها العقلي، وقدرتها على إحداث اختراق في بنية النظام المعرفي المتسلط، وصياغة رؤية لنظام معرفي بديل.

اقرأ أيضاً: محمد إقبال وحلم المعتزلة المتأخر أحد عشر قرناً
رغم كلّ ما تميز به التفكير الديني لمحمد إقبال من بصيرة ملهمة، لكنّه ربما كان أول مفكر مسلم يخترع هوية دينية للدولة، ويكرس كلّ جهوده من أجل وجودها، إلى أن ظفر بذلك عام 1947، عند تأسيس دولة باكستان، واقترن ذلك التاريخ زمنياً بإصدار الأمم المتحدة خطة تقسيم فلسطين، وبعد عام من ذلك التاريخ أعلنت الوكالة اليهودية استقلال دولة إسرائيل عام 1948، التي تأسست على فكرة تيودور هرتزل، مؤسس الحركة الصهيونية في القرن التاسع عشر، ومخترع الهوية الدينية لدولة خاصة باليهود.

اقرأ أيضاً: تجديد الفكر الديني بين مسارين
وقع التفكير السياسي لمحمد إقبال ضحية أحلامه السياسية، ونزعته العرفانية، وانفعالاته الشاعرية، فاحتجبت عنه أحياناً مقاصد الدين الكلية، وفقد القدرة على رؤية الأبعاد الكونية والأبدية في رسالة الإسلام القيمية، فتشوشت رؤيته لحظة قرأ النصوص الدينية في أفق انتظار الوعود المؤجلة لمسلمي شبه القارة الهندية، وشغفهم بدولة يستقلون بها عن موطنهم التاريخي والجغرافي الذي تعايشوا فيه قروناً طويلة مع مختلف الأديان والإثنيات والثقافات في الهند، فسقط فكر محمد إقبال في أفق تطلعات الهوية الدينية، وأصبح من أكثر مفكري الإسلام في العصر الحديث اهتماماً، وأحرصهم تنظيراً، وأشدهم حماسة لبناء هوية قومية للمسلمين الهنود، تقوم على الانتماء الديني، ويتأسس عليها وطن مادته وسرديته وجغرافيته دينية، فأثمرت جهوده تأسيس الوطن القومي للمسلمين في مشرق ومغرب الجغرافيا الهندية، الذي أعلن باسم دولة باكستان.

اقرأ أيضاً: محمد إقبال: تجديد الفكر الديني وتأويل الكون روحياً
مفارقة فكر إقبال أنّه فكر مزدوج، تلتقي فيه عناصر متضادة ينفي أحدها الآخر، فهو من جهة من أنضج مفكري الإسلام في القرن العشرين في بناء رؤية نظرية لتحديث التفكير الديني، وأكثرهم براعة في الكشف عن الأبعاد الكونية للقيم الروحية والأخلاقية في الإسلام، وبناء فهم للوحي وختم النبوة، لا يصادر فيه الوحي العقل، ويضع ختم النبوة في السياق التاريخي لتطور الوعي البشري وبلوغ العقل البشري لرشده وكماله، لكنّ إقبال من جهة أخرى؛ هو الذي صاغ فكرة الهوية الدينية للدولة ورسخها في ضمير المسلمين في الهند، وهو أول من أنشأها على الأرض، وإن كان نموذج دولة باكستان الذي أسهم بتأسيسه ولد ولادة مجهضة، وكان وما يزال نموذجاً هشاً معاقاً مشوهاً.
في الوقت الذي يعلن الفكر الديني لمحمد إقبال عالميته، وتشديده على كونية العناصر الجوهرية للقيم الدينية، وتجاوزها للخصوصيات المحلية والعرقية والثقافية والدينية، فجأة ينكفئ فكره على ذاته فيتخذ من بناء الهوية الدينية للدولة الهدف الأعظم الذي ينشده، ويظلّ مسكوناً بهذا الهاجس، الذي يكرس كلّ جهوده وحياته من أجله.

كتب محمد إقبال "تجديد التفكير الديني في الإسلام"، وهو أول نصّ في فلسفة الدين وعلم الكلام الجديد

وكأنّ فكر إقبال يحكم على نفسه بالنفي؛ لأنّ فكرة الهوية الدينية للدولة، التي عمل على صياغتها والدعوة إليها، ثم أسهم بتنفيذها، تمثل خلاصة دعوة الإسلام السياسي والجماعات الدينية، فخلاصة فكرة هذه الجماعات تبتني على اختراع هوية دينية لكلّ شيء في حياة الفرد والمجتمع والدولة، وما تنشده هذه الجماعات هو تعميم الهوية الإسلامية للعلوم والمعارف والآداب والفنون، وإدراج كلّ شيء في الحياة السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية في إطار تلك الهوية.
أما  فكر إقبال فيتمحور على اكتشاف الأبعاد الكونية للقيم الروحية والأخلاقية في الإسلام العابرة للخصوصيات الدينية والقومية والثقافية، وهي القيم المشتركة مع ما يماثلها من قيم يتضمنها جوهر الأديان، وهذه القيم هي اللغة الموحدة الضامنة لتفاهم الأديان، فلولاها لما أمكن حماية التنوع في بلاد شاسعة، تتسع لديموغرافيا سكانية عظيمة يعيش فيها أكثر من مليار وثلث مواطن، ولولاها لما تحقّق العيش المشترك في العالم الهندي الذي يسوده التعدد والاختلاف، ودولة الإسلام السياسي أساسها الهوية الدينية المشتقة من علم الكلام والفقه، وتتلخص كلّ أحلامها في تطبيق الأحكام الفقهية حرفياً، وهذه الأحكام تميز في الحقوق والمسؤوليات بين المسلم وغير المسلم، والحر والعبد، والرجل والمرأة .
ولم ينفرد فكر إقبال بذلك؛ إذ نجد مفارقة التضاد حاضرة في كتابات جماعة من مفكري الإسلام، الذين تعلن المفارقة في فكرهم عن حضورها بشكل واسع ومعلن؛ فإن كانت مفارقة التضاد هذه مضمرة في فكر محمد إقبال، فإنّها ظاهرة وصريحة في فكر علي شريعتي وحسن حنفي وغيرهما.

اقرأ أيضاً: هل نجرؤ على تجديد الفكر الديني؟
الإسلام الهندي التعددي الذي كان يتبناه إقبال ويدعو إليه، وانشغلت كتاباته في الكشف عن منابعه وإعادة بناء أسسه، لا يلتقي وفكرة الهوية الدينية للدولة، وكلّ مقولات أدبيات التيار الأحادي في الإسلام الهندي، الذي كرّس أبو الأعلى المودودي كلّ كتاباته في صياغة مفاهيمه المركزية المشتقة من مدونتَي علم الكلام والفقه في التراث، بغية تأسيس الدولة الإسلامية، وفي ضوء هذه المفاهيم أسس المودودي الجماعة الإسلامية، وأعلن هدفها الأكبر وهو تأسيس الدولة الإسلامية، وأوقف لها كلّ جهوده وأنفق حياته في سبيل إقامتها، حتى تأسست هذه الدولة الحلم على أرض باكستان، ومنذ تأسيسها حتى اليوم ظلت باكستان قلقة سياسياً، مضطربة أمنياً، فقيرة اقتصادياً، تضمحل فيها حقوق المواطن وحرياته تدريجياً.



انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات

آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية