"التفكير فريضة إسلامية" للعقاد: الدين والفكر هداية متبادلة

"التفكير فريضة إسلامية" للعقاد: الدين والفكر هداية متبادلة


06/07/2020

يعدّ التفكير، وليس التكفير، ضرورة لبقاء وتطور المجتمع المسلم، وقد أبان عباس محمود العقاد في كتابه المهم "التفكير فريضة إسلامية"، أنّ العقلانية وإعمال النظر والنُهى بحثاً عن انفراجٍ لمعضلات الحياة، وتدبر الظواهر من حولنا رغبة في إيجاد الحلول الأنسب للصعاب التي تواجه المجتمع الإسلامي، تعدّ كلها تكليفاً إلهياً لكافة المسلمين وعلمائهم.

ويستطرد العقاد في كتابه: القرآن الكريم يحتفي بالعقل؛ حيث تتكرر ذكر مفردات مثل "يعقل" و"يتفكر"، ومشتقاتهما كثيراً، والرشد يعدّ أعلى درجات العقل من منظور إسلامي، ويصنّف العقل في التصنيفات الإسلامية على عدة مستويات، حسب قدراته في التحليل والتقييم وإصدار الأحكام وحل المشكلات، ويقسم العقل المسلم إلى: عقل مدرك، وعقل حكيم، وعقل رشيد.

تكليف العقل المسلم بدوام التفكير والتبحر في علوم الحياة لا يتوقف إلا إذا أصيب العقل باختلال يمنعه

ويستدل العقاد بشواهد قرآنية تعزز طرحه الفكري؛ حيث يقول إنّ آيات مثل: {أفلا يعقلون}، و{وما يعقلها إلا العالمون}، و{أولي الألباب}، و{يتفكّرون}، و{لعلهم يفقهون} رفعت من قيمة التفكر والتدبر بقوانين الحياة ونواميسها، بحثاً عن حلول تسهل وتيسّر سبل الحياة، وتنتصر على الصعوبات والمعوقات التي تواجه الإنسان على هذه الأرض.

ثم يتابع: إنّ تكليف العقل المسلم بدوام التفكير والتبحر في علوم الحياة، لا يتوقف إلا إذا أصيب العقل باختلال عضوي يمنع عمله وعملياته الذهنية.

غلاف كتاب "التفكير فريضة إسلامية" لعباس العقاد

ثم يوضح العقاد في كتابه، أنّ ما يسمّى بموانع استخدام العقل المسلم ما هي إلا محض خيال وافتراءات، وما يغذي ذلك الاعتقاد الخاطئ هو الأعراف البالية، والبصيرة العمياء، والخوف من المحاولة، ومقاومة حبّ الاستطلاع والاكتشاف.

وجعل العقاد "المنطق" في الباب الأول من مبحثه في ضرورة إعمال العقل المسلم في فنون وعلوم الحياة، ويقول إنّ الأمة الإسلامية، مثل الأمم التي سبقتها، كانت أمة تستخدم العقل في كل مناحي حياتها، إلى أن انتقلت كما انتقل الذين من قبلها إلى مناقشة القشور دون الجوهر، ودخلوا في جدال يثير البغضاء والمشاحنات وإشاعة الخلاف، فضاعوا في التفاصيل الجوفاء.

الغزالي وابن تيمية لم يحرما المنطق بل ناقشا فيه للتصحيح والتنقيح وليس لهدم الأسس المنطقية

ويكشف العقاد سراً تاريخياً هنا؛ أنّ لجوء بعض فقهاء وعلماء الدين المسلمين لفتاوى تحرم الجدل، وعلوم الكلام والمنطق، كان مردّه ما شاهدوه من تخبط العامة في مناقشات ومشاحنات لا طائل منها، ويذكر كذلك رأياً مهماً: أنّ أبا حامد الغزالي، وابن تيمية، لم يحرموا المنطق بل ناقشوا فيه للتصحيح، والتنقيح، وليس مناقشة هدم للأسس المنطقية، أو تفنيداً للأصول، ويورد أقوالاً للغزالي في هذا الصدد تحرّم التقليد، وتعتمد الدرس، والتمحص، والاهتداء بالتفكير السليم من أجل الوصول لحقائق الدين وعلومه، بل إن الغزالي يقول: "المنطق أودعه الله في نفوس خلقه، ومن يلغيه أو يحرّمه يكون كمن يريد أن يلغي الفطرة التي فطر الله الناس عليها".

اقرأ أيضاً: يوسف ربابعة: لن نبدع مادمنا نرفض أي تفكير خارج المألوف

ثم يعرج العقاد في كتابه على ضرورة الفلسفة في حياة الإنسان المسلم، ويقول إنه درس القرآن الكريم، والسنة النبوية، ولم يجد أيّة كلمة تحجر التفكير في شأن من شؤون الفلسفة، أو مذهب من مذاهبها، ما لم تتعارض تلك الفلسفة مع صريح العقيدة، أو تفرق جماعة المسلمين.

ويقدم العقاد فرضية، قد تكون صحيحة إلى حدّ بعيد، في تفسير نكبة بعض الفلاسفة والمفكرين والشعراء المسلمين؛ حيث يقول إنّ الشاعر بشار بن برد، والفيلسوف ابن رشد لم يواجها أوقاتاً عصيبة، وترفض أفكارهما بسبب آرائهما؛ بل بسبب علاقتهما بالسلطة السياسية، التي لم تكن على ما يرام، والدليل أنّ الفيلسوف ابن باجة الذي اتُّهم بالزندقة، كان موضع احترام كبير في دولة المرابطين السلفية، وتقلّد مناصب مهمة منها قاضي مراكش، وكذلك نجد قصة مشابهة من المشرق؛ حيث كان مطيع بن إياس شاعراً متهماً بالزندقة ونشر الخلاعة، لكنّ صداقته بأبي جعفر المنصور قدمت له الحماية من أعدائه وانتقاداتهم طيلة عمره.

تحريم بعض الفقهاء للجدل وعلوم الكلام والمنطق كان مردّه ما شاهدوه من تخبط العامة

ويشيد العقاد، في نهاية مبحثه، في الفلسفة الإسلامية بالفارابي الذي حاول التوفيق بين الدين والفلسفة، ومن ثم يثني على جهود فلاسفة مسلمين مهمين، من أمثال: ابن سينا، وابن رشد.

وفي باب آخر، يشير العقاد إلى الحديث النبوي الذي يقول: "من خرج في طلب العلم فهو في سبيل الله حتى يرجع"، ومن ثم يناقش أهمية العلم في حياة المسلم؛ حيث يقول إنّ العلم الذي يحثّ عليه القرآن الكريم؛ هو جملة المعارف التي يدركها الإنسان بالنظر في ملكوت السماوات والأرض، وما خلق الله من شيء، حيّ وغير حيّ، وهذا ما دفع العلماء المسلمين لدراسة الفلك والجغرافيا والهندسة وغيرها من العلوم، ويذكر هنا أنّ كثيراً من الكواكب والنجوم سماها مسلمون، وحدّدوا وصفها وحركاتها، وهذه العلوم كانت مرجعاً أساسياً لنهضة أوروبا العلمية.

اقرأ أيضاً: التفكير "المتدين" كنمط عابر للتيارات الحزبية العربية!

وهناك باب للفنّ الجميل في كتاب العقاد؛ حيث يبين أنّ الإسلام يحلّ الزينة، ويأمر بها حتى في المساجد، وكما تشير آيات كثيرة إلى الجمال والزينة في الحياة المسلمة، كما في الآية: {إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَاْ} (الكهف: 7)، والآية: {إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ} (الصافات: 6)، و{أَفَلَمْ يَنظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا} (ق: 6)، و{يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ} (الأعراف: 31)، ويشير العقاد للحديث في صحيح مسلم: (إنّ الله جميل يحبّ الجمال)، وأهميته في الفنّ الإسلامي.

ليس في عقيدة المسلم ما يصده عن التفكير وإعمال العقل والأخذ بالأفكار الجديدة المجربة الصائبة

وفي الباب قبل الأخير من الكتاب، يتطرق العقاد للاجتهاد في الدين، ويعرّفه بأنه: إعمال العقل في المسائل الفقهية للخروج بإجابات عن الأسئلة الملحة التي تواجه المسلم كل يوم، ويذكر هنا أنّ عمر بن الخطاب، رض الله عنه، اجتهد وأسقط حدّ السرقة في عام المجاعة، وتكلم في هذا الباب أيضاً عن "الاستحسان"؛ وهو ترجيح العقل لأحد الحكمين عن الآخر، لأنّ الراجح أقرب للسبب المشروط في الإجراءات، وعرج أيضاً على المصالح المرسلة، وهي المصالح التي لم تتقيد بنصّ، ولم يسبق لها نظير.

اقرأ أيضاً: عن سفينة تحمل 26 خروفاً و10 من الماعز!

وفي الباب الأخير من كتابه، يميط العقاد اللثام عن حقيقة التصوف؛ حيث يقول: "إنّ مزية الصوفي أنّ إيمانه بالله على أساس الحب، لا على الطمع في الثواب، أو الخوف من الحساب والعقاب. والصوفية نوعان، كما يصنفها العقاد، نوع يقوم على العقل والمعرفة، ونوع آخر يقوم على القلب والرياضة، وذكر هنا: أنّ أشهر علماء المسلمين في الماضي كانوا صوفيين، مثل: أبي حامد الغزالي، ومحيي الدين بن عربي، ويستحضر هنا قولاً فلسفياً عقلياً مهماً للغزالي: "الشكّ أول مراتب اليقين".

ويخلص العقاد إلى القول إنّه ليس هناك في عقيدة المسلم ما يصده عن التفكير، وإعمال العقل، والأخذ بالأفكار الجديدة المجربة والصائبة، وبإمكان الفرد المسلم أن يختار ما يناسبه من عادات وسلوكات طيبة يقتبسها من الأمم الأخرى، ويجعلها جزءاً من حياته اليومية، ويجمل رأيه بعبارة بليغة اختتم بها الكتاب: "الإسلام لبٌّ ووجدان، وتفكير، وإيمان، والدين يهدي إلى الفكر، والفكر يهدي إلى الدين".


آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية