حين كنت أحضّر الدكتوراة في الاتحاد السوفيتي، كان الحديث النقدي يجري همساً أحياناً، بيننا وبين أصدقائنا، وإذا جرى حديث في الغرفة بحضور مواطن سوفيتي، فإنّ السوفيتي كان يشير إلينا بحركات إيمائية بيديه تفيد بأن لا تتحدثوا حول هذه القضايا، لعلّ في الجدران أجهزة تنصّت.
كان الخوف من الكلام غير المباح عامّاً، وباستطاعة المرء أن يعلن بكل اطمئنان أنّ غياب الحرية والديمقراطية كان أحد أهم أسباب زوال أكبر دولة في العالم (الاتحاد السوفيتي)، والحالة نفسها عشناها في دمشق؛ كنّا حين يجري الحديث عن همجية النظام والخراب الذي جرّه إلى البلاد، في غرفتي بكلية الآداب، نضع حارساً من طلبتنا المخلصين أمام الباب لمراقبة القادمين من الممر، وحين يرى أحداً ممن كان يشتَبه به من الأساتذة الموالين للنظام، قادماً إلى المكتب الذي يجمعنا، يومئ إلينا لنغيّر السيرة.
فريقان لا يطيقان الحرية: الدكتاتورية بلباس مدني، والدكتاتورية الدينية الأصولية الجهادية
وكان غياب الحرية والديمقراطية أهم أسباب الثورة السورية، وليس غريباً أن سُمّيت الثورة بـ "ثورة الحرية"، كما أنّه ليس غريباً أن تجري السخرية من صرخة الحرية من قبل المنتمين إلى السلطة، مع العنف السلطوي، وبقول جلادي الطاغية: "بدكن حِرية!!؟ هي الحرية يليّ بدكن ياها".
ويسألونك عن الحرية أسئلة لا تبتغي استفهاماً؛ بل تعلن استنكاراً وشكّاً، هكذا دأب أعداء الحرية، وقِسْ على ذلك أسئلتهم عن الديمقراطية.
فريقان لا يطيقان الحرية: الدكتاتورية بلباس مدني، والدكتاتورية الدينية الأصولية الجهادية، روح التسلط تطرح علينا الأسئلة الآتي: لمن الحرية؟ ومتى؟ وكيف؟ وهل يستحق الشعب الحرية؟ وما هي الحرية التي تريدون؟ وهل هي متوافقة مع تاريخنا وعاداتنا وتقاليدنا وديننا؟ وهل الحرية بلا خصوصية؟ وهل الحرية مطلقة؟ وقِسْ على ذلك أسئلة الخائفين على وجودهم من الديمقراطية، الذين يحتجون بمصطلح الخصوصية، وأنّ الديمقراطية ظاهرة غربية، والأخطر من هذا القول وذاك؛ رفض الديمقراطية بوصفها حكم الشعب فيما الحكم لله، كما يتفق جميع الإسلاميين من الإخوان إلى داعش.
كيف لشعب أن يتعلم الحرية ويتثقف بها وأنت تحرمه منها وتمنعه عنها، وتحاسبه إذا طرحها أو مارسها
أجل، أسئلة أعداء الحرية والديمقراطية؛ هي أسئلة الخائفين من كليهما.
لم تُطرح هذه الأسئلة علينا من الإنسان العادي؛ بل من مثقف حاصل على دكتوراه في العلوم السياسية والتاريخ، وما شابه ذلك من العلوم الإنسانية، كان السؤال يُطرح بصيغة عتب المتعالم: "يا دكتور، هل شعبنا مهيّأً للديمقراطية والحرية التي تدعو إليها؟ ألا تحتاج الحرية إلى شعب مثقف؟"، كان الجواب بسيطاً جداً: كيف لشعب أن يتعلم الحرية، ويتثقف بها، وأنت تحرمه منها وتمنعه عنها، وتحاسبه إذا طرحها أو مارسها، يكفي أن يعي الإنسان عبوديته كي يعي حريته، ولو لم يشعر بعبوديته ما كان له أن يشعر بضرورة حريته.
كانت السياسية حداً من حدود الحرية، حداً لا يجوز تجاوزه مهما كانت درجة تجاوزه قليلة، وكلّ الأفكار التي تلامس السياسة هي الأخرى يجب أن يكون الإنسان منها على حذر، أمّا تكوين أية جماعة للمطالبة بالحرية، فهذا من الجرائم التي تحاسب عليها حالة الطوارئ.
فلقد نشأ ربيع دمشق من وحي خطاب القَسَم، وراح المثقفون العلمانيون الديمقراطيون يؤيدون مشروع الإصلاح، الذي تضمنه خطاب القسَم، ولَم تمضِ شهور حتى كان قادة ربيع دمشق قد اعتقلوا، وجميعهم كانوا شيوعيين سابقين، وبعثيّين سابقين، وناصريين سابقين، وبعض المستقلين من العلمانيين.
في الحرية تزهر آمالك دون توقف وفي الدكتاتورية تموت آمالك دون توقف إيمانك بحرية الآخر تحرّرك من الأحقاد تجاهه
الحرية تجربة عظيمة تنمو وتتطور حتى تصبح نمط حياة غياب الحرية.الحرية تمنحك حبّ الحياة وتمنعك من أن تفكر بالموت.الحرية هي ببساطة أن تفعل ما تريد دون إلحاق أيّ ضرر بالآخر، المتساوون بالحرية وحدهم من يمتلكون المساواة بالقوة.
هل أنا طوباوي؟ نعم، لكن الطوباوية الآن هي الواقع القادم، في الحرية تزهر آمالك دون توقف، وفي الدكتاتورية تموت آمالك دون توقف، إيمانك بحرية الآخر تحرّرك من الأحقاد تجاهه.
عن الحرية قل: لا خلاص، ولا تقدّم، ولا إبداع، ولا تفجير طاقات الشعب، ولا شعور بالأمان، ولا صدق في التعبير، ولا احترام للآخر، ولا حبّ، ولا عقل، إلّا في حقل الحرية.
الحرية هي الحل، هي الممكن الوحيد الذي يستحق الكفاح الإنساني.