لم يكد الشاعر والروائي الكردي، سليم بركات، ينشر مقالة بعنوان "محمود درويش وأنا"، حتى اندلعت موجات متتالية، حتى اللحظة، من الانتقادات التي أطلق جلّها فلسطينيون يحتجّون على تشويه صورة قامة أدبية مرتبطة بالقضية الفلسطينية، ليس محلياً فحسب، بل عربياً وعالمياً أيضاً.
يحيى القيسي: كشف الأسرار بأثر رجعي مسألة في غاية السوء ولا تحتمل شيئاً من أخلاق الصحبة
على الجانب المقابل؛ ثمة من رأى في هذا الاستياء تأليهاً لدرويش، ومصادرة لحقّ الآخرين في انتقاده كأيّة شخصية عامة أخرى، حتى إن كان الانتقاد هذه المرة لا يطال سويّة منتجه الأدبي، بل يتعلّق بتفصيلة سريّة يزعم بركات فيها أنّ درويش أسرّ له بها، وهي وجود ابنة غير شرعية له، من امرأة متزوجة حاولت انتزاع اعتراف درويش بالطفلة، لكنّه أبى.
لم يتوقف الأمر عند هذا الحدّ؛ إذ خرجَ الأديب العراقي، نجم والي، ليقول إنّ درويش كان مثلياً جنسياً، لتتوالى منشورات أخرى عبر وسائل التواصل الاجتماعي، وإن لم تحظَ بصدى واسع، مثل قول أحد الأدباء إنّ درويش، على مسمعه، دعا صحفية لغرفته في فندق في تونس، حين طلبت منه إجراء مقابلة صحفية.
تستطلع "حفريات" في هذا التقرير وجهات نظر أدباء فلسطينيين وعرب، حول القضية المثارة، وحول ما إذا كان حقّ النقد وحرية الرأي يطالان تفاصيل سريّة لشخصية متوفاة لا تملك الردّ ولا التصحيح، وحول ما إذا كان هذا الجدل كلّه ضرورياً، لا سيما أنّه لا يمسّ نتاج الشاعر الأدبي، بل حياته الخاصة.
إن صحّت الرواية
يقول الصحفي والأديب، إبراهيم جابر إبراهيم، إنّه لا يجب، من وجهة نظره، أن "نتعامل مع شاعرنا الكبير محمود درويش، كـ "تمثال"، وإن كنا حقاً مخلصين، ثقافياً ووطنياً، لهذا الرجل، فعلينا أن نعترف بـ "بشريته" وبحقّه في الخطأ".
يكمل جابر: "في حال ثبت أنّ القصة صحيحة، وكما رواها سليم بركات، فنحن لا نعرف الملابسات والتفاصيل التي هي أساس كلّ شيء؛ فتفصيل صغير في الحكاية قد يقلب المعنى"، موضحاً: "لربما (إن صحّت الرواية) تكون المرأة قد أحبّت الرجل إلى حدّ أنّها أرادت منه ابنة لها، ولم تتعرض فعلاً لخديعة أو نكران، بل تمّ ذلك برضاها، ورغبتها في أن تحتفظ منه بذكرى من لحم ودم، وما أدرانا (إن صحّت الرواية) أنّه فعلاً تنكر لها، ولم يقم بمسؤولياته العاطفية والأبوية سرّاً؟".
موفق ملكاوي: ما الذي يعنينا في ترك درويش ابنة له، إن كنا نسأل في الأصل عن التفوق والنبوغ الإبداعي؟
يطرح إبراهيم تساؤلاً آخر: "إن صحّ أنّ السيدة تعرّضت فعلاً للجحود والنكران فلمَ لم تلجأ للقضاء؟ ولماذا سكتت ثلاثين عاماً على نكران محمود درويش لابنته ولها؟ ثمّ إذا ثبت لنا فعلاً أنّ محمود درويش كان رجلاً كسائر الناس، يأكل ويشرب ويمشي في الأسواق، فهل ستعدّ تلك إدانة يحاكم ثم يُجلد عليها لأنّه لم يكن الصنم المناسب لخيالاتنا وحاجتنا للصنم؟".
يقول إبراهيم: "أوْلى بمن يهاجم هذا الشاعر الفذّ، الآن، أن يراجع صحيفة أخطائه هو، فليس بيننا من هو صالح بالمطلق ومنزَّه عن الخطأ، هناك فقط إنسان حالفه الحظ ولم يكشفه سليم بركات".
وينعت إبراهيم ما يحدث بـ "الفضول المريض"، مستذكراً أنّ درويش، في أحد لقاءاته، تذمّر من فضول الناس الذي كان يصل إلى حدّ أن يحدقوا في سلة مشترياته في السوق، ليعرفوا ماذا يأكل وماذا يشرب! "هذا تنمّر من نوع ما واعتداء على الخصوصية"، ويردف أيضاً: "كما أنّني ضدّ الهجوم العشوائي والقبلي والعشائري ضدّ كاتب بحجم سليم بركات، والتقليل من شأنه، فالمسألة لا تعالج بالردح والسباب، وفي حال ثبت أنّ القصة غير صحيحة، فيفترض أن يُسأل الرجل بطرق أكثر تهذيباً تليق بالاسمين، فلربما كان في مقالته أيضاً تفصيل صغير يقلب المعنى ثانيةً".
التوقيت يثير الريبة
ينظر الصحفي والشاعر، موفق ملكاوي، بعين الشكّ للتوقيت الذي تتوالى فيه الحكايات عن درويش؛ إذ يربط بينها وبين تشويه صورة الرموز الفلسطينية، من جهة، وبين ما "يُحضّر من سيناريو كارثي درامي للفلسطينيين في الفترة المقبلة من ضمّ لأراضٍ في الضفة الغربية وتمرير لصفقة القرن".
اقرأ أيضاً: اغتيال محمود درويش
يقول ملكاوي: "التوقيت يثير الريبة، لا أريد أن أفسّر الأمر على محمل نظرية المؤامرة، لكن التوقيت غير مريح البتة ويثير الشكوك"، مكملاً "بعيداً عن مدى صدقية قصة بركات عن درويش، يتوجب علينا أن ننظر إلى الأمور من زاوية أخرى مختلفة تماماً؛ ما الذي يعنينا في ترك درويش ابنة له، إن كنا نسأل في الأصل عن التفوق والنبوغ الإبداعي؟".
يرصد ملكاوي أنّ "هذا الوقت بات موسماً للنهش في سيرة الراحل محمود درويش"؛ مدللاً على ذلك بما قاله العراقي "المطبّع" نجم والي، وكأنّه لمح الباب مفتوحاً على مصراعيه ليقول ما يشاء، فذهب هو الآخر ليذيع سرّاً مفاده أنّ "درويش كان مثلياً، لكنّه، وككلّ المثليين العرب، كان يخفي ميوله تلك، ويتستر عليها".
يمضي ملكاوي في تساؤلاته: "ما الذي تغيّر في نصوص محمود درويش بعد هذه الحكاية؟ وكيف لنا أن نعرّض أديباً للنقد على أمر خارج سياق الإبداع؟".
يرى ملكاوي أنّ الفريقَين "اللذين ظهرا بقوة في التصدي لقصة سليم بركات لم يتصفا بالموضوعية اللازمة في التناول؛ فجلّ ما قرأته كان يندرج تحت لافتتين واضحتين؛ فريق يمعن في تقديس درويش، وفريق آخر يمعن في شيطنته، وكأنما المطلوب تشكيل صورة قصووية لا تدانيها صفات العيب أو المثالية".
من وجهة نظر ملكاوي؛ فإنّ "قصة مثل هذه في حال ثبوت صدقيتها، فإنها لن تستطيع أن تقلل من النبوغ الإبداعي العبقري الذي تجلى في أبهى صوره بنصوص الشاعر الراحل، وهو النبوغ الذي خلق له العديد من العداوات التي استمرت حتى بعد وفاته".
مسؤولية أخلاقية، ولكن
يستحضر الصحفي حسام أبو حامد إحدى قصائد محمود درويش، التي يقول فيها: "ستأتي فتاة وتزعم أني تزوجتها منذ عشرين عاماً... وأكثر.
ستروي أساطير عني، وعن صدف كنت أجمعه من بحار بعيدة".
اقرأ أيضاً: في ذكرى محمود درويش يستيقظ الحب: 10 محطات للحنين
يقول أبو حامد: "تلك الفتاة لم تأتِ، وإنما صديق لدرويش، هو الشاعر سليم بركات، ليدّعي بعد ثلاثين عاماً أبوّة سريّة لمحمود درويش لفتاة من امرأة متزوجة، فاضحاً سراً زعمَ أنّ درويش ائتمنه عليه".
يرى أبو حامد: "لن نتمكن من التأكد من صحة ما قاله بركات في غياب محمود درويش، وليس مهماً أن نطلق عملية بحث عن ابنة مزعومة قد لا نعثر عليها، تتحمل مسؤولية نسبتها إلى أبيها الحقيقي والدة الفتاة ولا أحد غيرها"، مكملاً: "ما يهمني وما ينبغي أن يكون مهماً للجميع؛ ذرّية درويش من قصائد أعلنها واعترف بها ورضي نسبتها إلى نفسه".
يردف أبو حامد: "بركات يتحمّل مسؤولية أخلاقية عن إفشاء سرّ صاحبه في غيابه الأبدي، فما قام به بركات خيانة صريحة لا يمكن تبريرها أو تأويلها أو تجميلها، فدرويش ليس بيننا اليوم ليؤكد أو ينفي مضمون ذاك السرّ"، مستدركاً: "أما أن يعتقد بركات أن تبني درويش له أدبياً، عبر عروضه المبذولة له بلا انقطاع، أبوّة في مستوى الرمز فهذا أمر مشروع في ضوء قراءة بركات لصداقته بدرويش وكواليسها، فرفض درويش للأبوة بيولوجياً خشية أن يورّث أبناءه مأساة أن تكون لاجئاً فلسطينياً، لا يستلزم بالضرورة رفضها رمزياً وأدبياً".
ويكمل: "لكنّ التشويش على علاقة التضايف هذه بين البنوة البركاتية والأبوة الدرويشية يأتي من نبرة التعالي التي تفوح رائحتها من ادعاء بركات باعتراف درويش له، بلا تحفُّظ، أنّه جاهدَ كي لا يتأثر به، وفي اعترافه أنّه لم يعد يعرف أين الحدُّ بين أن يراه صديقاً، أو يراه ابناً له".
حسام أبو حامد: لن نتمكن من التأكد من صحة ما قاله سليم بركات في غياب محمود درويش
يُذكّر أبو حامد بأنّ "معظم الفلسطينيين، وربما العرب أيضاً، تعرّفوا إلى سليم بركات من خلال محمود درويش وقصيدته "ليس للكردي إلا الريح"، التي ألقاها ذات مرة في دمشق"؛ إذ كان ذلك حافزاً لقراءة بركات في وقت غُيّب فيه الشاعر الكردي طويلاً في سوريا، لأسباب سياسية معروفة، مع أنّه يكتب بالعربية، وهو ما دفعه في بداية مشواره لمغادرة دمشق إلى بيروت باحثاً، كحال غيره من شعراء، عن أفق أفضل للانتشار والشهرة، وعن الحداثة الشعرية.
لا يعتقد أبو حامد أنّ ما قاله بركات قد هزّ وجدان الفلسطينيين وحدهم، "بل وجدان عرب أيضاً تعرفوا على درويش في مناهج الأدب العربي في مدارسهم، قبل أن يتدافعوا للالتحاق بأمسياته النادرة في عواصم دولهم العربية، بينما بقي شعر بركات نخبوياً، بسبب لغته الموغلة في السوريالية وبلاغتها الفائضة".
رغم كلّ ما سبق؛ يرى أبو حامد أنّ السقطة الأخلاقية لسليم بركات، أو عدم الميل لمنتجه الشعري، "لا تبرر تجاهل عقود من إسهامات بركات في الحياة الثقافية العربية عموماً، والسورية خصوصاً، وليس من الإنصاف محاكمة تراثه الشعري والثقافي بأثر رجعي، ومن المزعج جداً أن تتحول الأمور إلى اصطفاف عِرقي، كردي- فلسطيني أو كردي عربي، لن يربحه أحد مقارنة بالكثير الذي نخسره".
يقول أبو حامد: "بركات أقحم نفسه فيما هو أكثر مما يتكلَّفُه المعجبون بشاعر ولد بملعقةٍ في فمه نِصْفٍ من ذهب الشعر قضيَّة آسِرَةً"، على حد تعبير بركات نفسه؛ "أصحاب القضية، وغيرهم، يحقّ لهم مساءلته: لماذا الآن يا بركات؟ لماذا يقتل أوديب أباه في وقت لم تعد فيه القضية الفلسطينية آسرة كما كانت من قبل، بل انفضّ من حولها القوم وحاصروها وأصحابها من كلّ حدب وصوب؟ لم تساهم في تضييق الحصار عليهم عبر الطعن في رموزهم؟"، يتساءل أبو حامد.
خيانة الصداقة بأثر رجعي
يستذكر الروائي والصحفي، يحيى القيسي، لقاءاته بدرويش ويقول: "التقيت درويش أربع مرات طيلة حياتي، أوّلها بداية التسعينيات في مكتب الصديق الأديب، يحيى يخلف، بتونس، وأهمها زيارتي له مع الصديق الراحل أمجد ناصر، والشاعر سامر أبوهواش في بيته بعمّان، وأستطيع القول إنّ مثل هذه الجلسات الخاصة تحتمل الكثير مما يقال ومما لا يقال، فالمجالس أمانة، ولا أدعي أنّني صديق لدرويش حتى، أو حدث أن عملت معه، كما هو حال سليم بركات في مجلة (الكرمل)".
يستدرك القيسي: "ومع ذلك، فإنّ كشف الأسرار بأثر رجعي مسألة في غاية السوء، ولا تحتمل شيئاً من أخلاق الصحبة أو مكارم الرفقة، ولا فائدة منها للشاعر الراحل إلا إضاءة جانب خفيّ من حياته لم يرغب في أن يكشفه أحد".
يكمل القيسي بأنّه، حين رحل درويش أُعدّ ملفاً طويلاً لصالح "القدس العربي" اللندنية عن سنواته الأخيرة في عمّان، وهو من الصحافة الاستقصائية التوثيقية، وعرف أنّ لدرويش صديقة تزوره كلّ سبت، لهذا فإنّه لم يكن يستقبل أحداً من أصدقائه في ذلك اليوم، كما حدثنا صديقه المقرَّب، غانم زريقات، وكانوا يسمّونها زائرة السبت".
اقرأ أيضاً: محمود درويش متحالفاً مع الخلود... منقباً عن فلسطين الأعماق
رغم ما سبق، يقول القيسي: "لم أقم بالاستقصاء عن اسمها وطبيعة العلاقة بينهما، فهذا نوع من التجسّس برأيي لا فائدة منه، ثم إنّ درويش إنسان يحبّ ويكره، وغير معصوم عن الزلل والخطأ، ومن حقه ممارسة حياته الطبيعية، ولا فائدة من معرفة تفاصيلها لغير المعني بها"، مضيفاً: "إن كان هناك متضرّر أو متضرّرة من ذلك فعليه أن يرفع صوته، وفي الوقت المناسب، أي في حياة الرجل، حيث يملك حقّ الرد، وبيان صحّة الأمر من كذبه"، أما البطولات الزائفة ضدّه بعد رحيله؛ فهي لا تمتّ للأخلاق بصلة، ولا لشفافية الشعراء وعمق إنسانيتهم وشعورهم المرهف".
مجانية مُطلَقة
يقول الشاعر والصحفي سلطان القيسي: "أغلبنا قد صدّق أنّه على علاقة شخصية بمحمود درويش، ومنح نفسه بناء على ذلك حقّ العتب عليه؛ إذ أخفى عنه سراً شخصياً، قد يكون حقيقياً، إلا أنّ الواحد منا يخفي أسراراً وأخطاء لا يلقي لها بالاً، قد تكون مكافئة لذلك السرّ".
يكمل القيسي بأنّ مأخذه على سليم بركات "ليس فقط في إفشاء متأخر للسرّ، يأتي بعد أن فقد درويش حقّه في الردّ؛ إنما أيضاً في المجانية المطلقة لفعلته؛ فهو لم يغيّر من واقع حياة البنت المزعومة تلك، كما لم يصنع معجزة مع أمها، إنما فقط اعتدى على حياة درويش الفائتة، دون أن يقدم حتى قصة في سياق مقنع"، مردفاً: "كأنّه كتب هذه العبارة/ الاتهام، ثم أحاطها ببعض المواقف العادية بينه ودرويش، وهي عادية إلى درجة قد لا توجب كتابتها، وجلّلها بصوف لغته المعروفة، لتخرج بلا مقصد أدبي أو إنساني أو شخصي حتى".