
الحبيب الأسود
لا يمكن المرور بمستجدات الأوضاع الميدانية في العاصمة طرابلس والغرب الليبي دون التوقف عند شخصية باتت محورية في الواقع الميداني. إنها شخصية العميد محمود حمزة، المدني قبل 2011 الذي كان من المنتظر أن يحمل رتبه لواء في الجيش خلال الشهر الجاري، والقائد الذي تراهن عليه دول عدة، ويعتبر رجل رئيس الحكومة عبدالحميد الدبيبة في ساحات المواجهة مع منافسيه على السلطة والنفوذ.
حاول محمود حمزة الترويج لوجهة نظره من خلال حديثه عن تفاصيل تتعلق بمقتل قائد جهاز دعم الاستقرار عبدالغني الككلي داخل معسكر التكبالي، فقال في بيان إن الحادثة وقعت على حد وصفه في لحظة خيانة حيث تم رفع السلاح في وجه عناصر اللواء داخل المعسكر، ما استدعى ردا مباشرا على التهديد، نافيا أن يكون اللواء قد بادر إلى استخدام القوة دون مبرر.
وشدد آمر اللواء على أن وحداته لم تنخرط في ممارسات خارج القانون، ولم تنشئ سجونا سرية أو تمارس انتهاكات ضد المدنيين، وأن جميع العمليات التي تنفذها تهدف إلى حماية المدنيين ومكافحة الجريمة، وضمن ما تقتضيه المصلحة الأمنية.
وأضاف أن اللواء 444 “لا يسعى إلى السلطة أو المال،” بل يعمل منذ سنوات على تأمين المدن ومحاربة تهريب المخدرات وتعزيز الاستقرار، مؤكدا أن ما حدث في معسكر التكبالي سيتم توضيحه بالكامل لاحقا.
في العام 2011 اتجه حمزة للتقرب من عبدالحكيم بالحاج رئيس مجلس طرابلس العسكري ورئيس الجماعة الليبية المقاتلة المدعومة آنذاك من قطر وتركيا من خلال انضمامه إلى كتيبة ثوار طرابلس، قبل أن يشتغل في مكتبه.
ورغم أنه لم يكن من خريجي الأكاديميات العسكرية، ولم يعرف عنه انتماؤه إلى الجيش، إلا أنه نجح في أن يكون عنصرا ميليشياويا يتميز بالطموح والدهاء، فقد انضم لاحقا إلى قوة الردع الخاصة بقيادة الشيخ عبدالرؤوف كارة ذي المرجعية السلفية، وكان عين بالحاج داخلها، واستطاع أن ينشئ الفرقة 20.20 التي كان من المفترض أن تضم عناصر النخبة، ومن هناك شارك في معارك الدفاع عن حكومة الوفاق برئاسة فائز السراج في مواجهة الهجوم الذي نفذته قوات المشير خليفة حفتر في أبريل 2019 على طرابلس.
كان على محمود حمزة، الذي حمل رتبة مقدم في الجيش الليبي، أن ينفصل نهائيا عن مرحلة “الردع” وأن يتمرد على تجربته السابقة بالإعلان عن تشكيل اللواء 444 لاسيما بعد نجاحه في استقطاب عسكريين محترفين من كتيبة محمد المقريف بسرت والتي كانت من أهم الكتائب العسكرية في النظام السابق، ومن اللواء التاسع بترهونة الذي كان مواليا لقوات حفتر في حرب طرابلس خلال عامي 2019 و2020، ومن عدد من خريجي الكليات العسكرية.
اتسع نفوذ اللواء 444 لاحقا سواء في الضواحي الجنوبية للعاصمة طرابلس أو في مدن ذات أهمية خاصة مثل بني وليد وترهونة، ومن خلال ملاحقة شبكات الاتجار بالبشر والتهريب والإرهاب والتدخل لوقف الاشتباكات التي عادة ما تندلع بين بعض الميليشيات في مدن الغرب الليبي، وأدى ذلك إلى اكتسابه شعبية واسعة في أغلب تلك المناطق ما جعل الأنظار تتجه إليه قبل أن تتضح معالم تحركاته على أكثر من صعيد لمشروع بديل في غرب ليبيا.
استطاع حمزة أن يلفت نظر الأتراك وأن يكون أحد أبرز رجالاتهم في غرب ليبيا، ومن أكثر المتعاونين مع الحضور التركي في البلاد، وهو ما جعل البعض يراهن على وجود خطة جدية من أنقرة تهدف إلى تهيئة آمر اللواء 444 إلى موقع سياسي إلى جانب موقعه العسكري. وعملت وسائل الإعلام التركية في مناسبات عدة على تلميع صورته وإظهاره في صورة القائد القادر على تأمين العاصمة.
في أكتوبر الماضي قام حمزة بزيارة ذات أبعاد مختلفة إلى الجزائر، قالت وسائل الإعلام إنه ناقش خلالها التعاون مع الجيش الجزائري في ثلاثة ملفات تتعلق بمكافحة الإرهاب وتأمين الحدود والتدريب، والتقى رئيس الأركان الجيش الجزائري الفريق أول السعيد شنقريحة ومدير إدارة الاستخبارات الجزائرية ومدير جهاز مكافحة الإرهاب.
وذكر المكتب الإعلامي للواء 444، أن اللقاء ناقش وضع آلية لتبادل المعلومات حول مكافحة الإرهاب والمخدرات، ووضع خطط إستراتيجية لمحاربة التهريب بكافة أنواعه وتأمين الحدود، بالإضافة إلى الاتفاق على آليات التدريب بين البلدين وتبادل الخبرات.
وتصدر ملف أمن الحدود ومكافحة التهريب عديد اللقاءات التي جمعت المسؤولين الجزائريين ونظرائهم بحكومة الوحدة الوطنية خلال الفترة الماضية.
وأوضح اللواء 444 قتال أن حمزة يزور دولة الجزائر بصفته مديرا لإدارة الاستخبارات العسكرية.
ويستعمل محمود حمزة ملف التهريب كغطاء للصفقات التي يعقدها من وراء الستار ولطموحاته التي لا تعرف حدودا، ومحاولاته إقناع دول مؤثرة في الملف الليبي بأنه المؤهل أكثر من غيره لتولى منصب رئيس الأركان بدلا من الفريق محمد الحداد الذي سعى خلال الفترة الماضية إلى النأي بنفسه عن مغامرات الدبيبة والميليشيات القريبة منه.
يقول مقربون من حمزة إنه مرشح لعضوية مجلس عسكري مع صدام حفتر لقيادة ليبيا نحو توحيد مؤسساتها.
منذ العام 2021 بدأ محمود حمزة في تكريس نفوذه في طرابلس والمنطقة الغربية. الدرس الأول الذي تلقاه مفاده أن المعارك هي التي تصنع القائد في الميدان وتعطيه الصورة التي يسعى إلى رسمها ليس في عيون الناس فقط وإنما لدى صانعي القرار الإقليميين والأجانب.
في سبتمبر من ذلك العام. دخل حمزة في مواجهة مع آمر منطقة طرابلس العسكرية اللواء عبدالباسط مروان بعد أن كان يعمل تحت إمرته، واتهمه بالخيانة، ويقول إنه كان قد سافر إلى تركيا في 2 سبتمبر، وما إن حطت الطائرة بمطار إسطنبول حتى رن الهاتف، وكان على الطرف المقابل من يعلمه بأن مجموعة مسلحة بقيادة عبدالباسط مروان ومسلحين من جهاز “دعم الاستقرار” الذي يتزعمه غنيوة هاجموا معسكر التكبالي و قتلوا اثنين من رجاله وأصابوا 15.
قال المقدّم محمود حمزة، إنّ لديه دلائل قوية وثابتة على أن ما حدث في طرابلس هو مؤامرة وتخطيط خارجي لإنهاء اللواء الذي يقوده. وأضاف حمزة عبر صفحته أن اللواء 444 قتال ترك طرابلس خلفه واتجه إلى المناطق التي تركت لسنوات ضحية لعصابات السرقة والتهريب، وقضى على التهريب بنسبة 90 في المئة، حتى أصبح الوقود متوفراً في مناطق كان لا يتوفر فيها منذ 10 سنوات.
وتابع أنه خلال فترة عمل اللواء العسكري الذي لم يتجاوز سنة، نجح في إخلاء 110 مقرّات عسكرية للمجموعات المسلّحة في جنوب طرابلس وتم تفكيكها ومصادرة أسلحتها.
في 14 أغسطس 2023، أقدم جهاز الردع لمكافحة الإرهاب والجريمة المنظمة على اعتقال العقيد حمزة في مطار معيتيقة الدولي بطرابلس، أثناء توجهه إلى مدينة مصراتة، بدعوى تنفيذه أوامر قبض من النائب العام العسكري، ما أشعل قتالا عنيفا بين الطرفين بالعاصمة أدى إلى سقوط 55 قتيلا وأكثر من 140 جريحا، خلال يومين فقط، إلى أن تم عقد اتفاق بين الدبيبة وأعيان ووجهاء سوق الجمعة على أن يتم تسليم حمزة إلى لواء دعم الاستقرار برئاسة الككلي الذي يشير مراقبون محليون إلى أنه كان دائما من الداعمين المساندين لآمر اللواء 444، لكن صراع النفوذ والتوازنات والمصالح أدت في الأخير إلى أن ينتهي الككلي قتيلا داخل معسكر التكبالي دافعا ثمن تلبيته لدعوة تلقاها من حمزة بدعم الاجتماع لمناقشة المسائل الأمنية خلال المرحلة القادمة.
جاء مقتل الككلي ليشير إلى خطة تشكيل خارطة جديدة للتوازنات الميدانية في الغرب. كان “غنيوة” سجينا بسبب تورطه في جريمة قتل قبل أن يفر من السجن أثناء أحداث 2011، ثم جمع عددا كبيرا من أقاربه ومعارفه ومن أبناء رفاقه في مرحلة ما خلف القضبان، ليشكل واحدة من أكبر الميليشيات في منطقة مهمة ومؤثرة وذات حساسية خاصة في وسط طرابلس وهي حي أبوسليم أكبر الأحياء الشعبية في العاصمة، والقريب من باب العزيزية، والذي كان يضم عددا كبيرا من الموالين للنظام السابق.
استعمل “غنيوة” كل أساليب الترهيب ليبني إمبراطوريته الكبرى وليصبح الحاكم بأمره في طرابلس وصانع السياسات وفارض المواقف إلى أن تم تعيينه في يناير 2021 رئيسا لجهاز دعم الاستقرار التابع للمجلس الرئاسي الذي تم تشكيله من أجله ولإضفاء الشرعية على عناصره بمن فيها تلك المتورطة في جرائم لا تسقط بمرور الزمن.
لم يكن من السهل اللعب مع “غنيوة” الذي يحصل على اعتمادات ضخمة ويتصرف كزعيم حقيقي، يمارس في الخفاء ما يزعم محاربته في العلن، ويمتلك ثروة طائلة واستثمارات كبرى في دول عدة.
وكان من الطبيعي أن يبسط نفوذه على عدد من المؤسسات الحيوية للسيطرة على القرار من داخلها. عندما تولى الدبيبة رئاسة حكومة الوحدة الوطنية رسميا في مارس 2021، سارع إلى عقد اتفاق مع “غنيوة” منحه من خلاله حق تثبيت حلفائه في مناصب إستراتيجية، مقابل تقديمه الحماية للعاصمة طرابلس وتأمين المؤسسات بما في ذلك نقل الأموال من المصرف المركزي إلى المصارف التجارية.
لم ينتبه “غنيوة” إلى أن الدبيبة كان يعمل بصمت لسحب البساط من تحت قدميه بالعمل على تثبيت قوة القادم الجديد محمود حمزة.
كان الخطأ القاتل فعلا بالنسبة إلى الككلي هو تجرؤه على الاقتراب من مقر الشركة القابضة للاتصالات التي يعتبرها الدبيبة من ممتلكاته الخاصة باعتباره رئيس جمعيتها العمومية ونظرا إلى حجمها التمويلي.
خلال الفترة الماضية كان هناك شخصان في واجهة الأحداث يتقدمان المشهد من خلال وزارة الدفاع التي يدير حقيبتها رئيس الحكومة نفسه هما محمود حمزة المتحدر من سوق الجمعة، وآمر اللواء 444 قتال الذي قرر الدبيبة في مارس 2024 تكليفه بمهمة إدارية إستراتيجية وهي رئاسة جهاز المخابرات العسكرية ليكون عينه التي ترى وأذنه التي تسمع ويده التي يبطش بها، وعبدالسلام زوبي القادم من مصراتة والذي كلفه الدبيبة في يوليو 2024 بمهمة وكيل وزارة الدفاع، أي أن يكون يده اليمنى في الوزارة وحامل رسائله إلى الداخل والخارج.
وزوبي برز من خلال إمرته للواء 111 مجحفل الذي أسسه الدبيبة بصفته وزيرا للدفاع في العام 2022 بعد أن كان يعرف في السابق باسم “الكتيبة 301 مشاة” أو “لواء الحلبوص”، ومعظم عناصره ينتمون إلى مدينة مصراتة.
وبصفة استثنائية أصدر رئيس المجلس الرئاسي محمد المنفي بصفته رئيس المجلس الأعلى للجيوش قرارا بإسناد رتبة عقيد لزوبي الذي لم يدخل أيّ أكاديمية عسكرية في حياته، وكان يشتغل سائقا لشاحنة لنقل القمامة حتى الإطاحة بنظام معمر القذافي.
في أوائل مايو الجاري استقبلت الإدارة الأميركية العقيد زوبي في واشنطن لمناقشة “التقدم المحرز أخيرا في الجهود الليبية لتوحيد المؤسسات العسكرية،” أي قبل أيام قليلة من مقتل “غنيوة”.
في العام 2022 نجح حمزة في وقف اشتباكات مسلحة في منطقة سوق الثلاثاء بوسط العاصمة طرابلس بين مجموعات تابعة لقوة النواصي بوزارة الداخلية، وجهاز حفظ الاستقرار التابع للمجلس الرئاسي بعد نشر قوة عسكرية محايدة. كما استطاع في منتصف مايو من ذلك العام إخراج رئيس الحكومة السابق المكلف من البرلمان، فتحي باشاغا، من طرابلس، وقام باصطحابه من منطقة النوفليين إلى خارج العاصمة لإيقاف الاشتباكات، التي اندلعت بين مجموعات مسلحة مؤيدة لحكومة الدبيبة، وأخرى داعمة لباشاغا، بعد ساعات من وصول الأخير إلى المدينة لمباشرة أعمال حكومته.
استطاع حمزة أن يستفيد من علاقته بالجزائريين في تطويع صديقهم محمد المنفي، ولم يكن في حاجة إلى الأتراك ليسيطر على حركات وسكنات الدبيبة. خلال السنوات الثلاث الماضية تحول بالفعل إلى جواد يراهن عليه الإيطاليون والأميركان ويتابعه الأوروبيون باهتمام كبير، ولا تكاد أعين دول الجوار تغفو عن مراقبته.
في نوفمبر 2023 تولى الدبيبة رفقه عضو المجلس الرئاسي عبدالله اللافي ترقية العقيد محمود حمزة إلى رتبة عميد، وكان من المتوقع أن تسند إليه رتبة لواء خلال الشهر الجاري لكن الظروف الحالية أجلت ذلك.
إنه تلميذ عبدالحكيم بالحاج الذي تمرد على كارة بانقلابه على “الردع” وأطاح بالككلي في لحظة فارقة من المسار الميليشياوي، وهو الضامن اليوم لبقاء الدبيبة في السلطة رغم الرفض الشعبي والاحتجاجات المتواصلة، ولا أحد يعرف ما سيكون عليه غدا.
العرب