
تحول كبير في موازين القوى شهدته سوريا في كانون الأول / ديسمبر 2024، بعد انهيار النظام السوري السابق، ما أدى إلى انسحاب القوات الإيرانية والجماعات المسلحة الموالية لها بشكل كبير من الأراضي السورية، وفقا لدراسة حديثة أعدها المركز الأوروبي لدراسات مكافحة الإرهاب والاستخبارات.
هذا التراجع العسكري الإيراني يعكس، بحسب الدراسة، خسارة استراتيجية كبيرة لطهران، كانت تعتمد على سوريا كحليف رئيسي في سياستها الإقليمية. وتتنامي المخاوف الإقليمبة والدولية من تداعيات هذا الانسحاب على الوضع في المنطقة، بما في ذلك السبل التي قد تتبعها طهران للحفاظ على مصالحها في ظل المتغيرات السياسية.
كم يبلغ حجم التواجد الإيراني قبل انهيار النظام السابق؟
الدراسة استندت إلى تقرير نُشر في السابع من كانون الثاني / يناير 2025، يفيد بأن إيران كان لديها ما يصل إلى (10) آلاف جندي من الحرس الثوري الإيراني في سوريا، و(5) آلاف جندي آخر من الجيش، بالإضافة إلى آلاف أخرى من الجماعات المسلحة المدعومة من إيران. امتلكت إيران (55) قاعدة عسكرية في سوريا بالإضافة إلى (515) نقطة عسكرية.
وكان على الأراضي السورية ما يقرب من (830) موقعا عسكريا أجنبيا، (70%) منها تابعة لإيران، أي (570). إذ شنت الجماعات المدعومة من إيران في سوريا هجمات على القوات الأمريكية وساعدت في شن هجمات على إسرائيل في ظل وجود النظام السوري السابق. ففي العام 2020، أنفقت إيران ما يقرب من 30 مليار دولار (حوالي 28 مليار يورو) لإبقاء النظام السوري السابق في السلطة.
يوضح “ماركوس شنايدر”، مدير مشروع “السلام والأمن في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا” من مؤسسة “فريدريش إيبرت”، أن “سقوط النظام السوري السابق من المرجح أن يكون له تداعيات على مصداقية إيران داخل ما يعرف بـ “محور المقاومة” برمته”.
لهذا السبب يرى شنايدر “أن في هزيمة طهران في سوريا تكرارا لسيناريو مماثل لهزيمة السوفييت في أفغانستان. ويمكن أن تبشر أيضًا بنهاية النظام في طهران نفسها”.
كيف انهارت البنية التحتية الإيرانية العسكرية في سوريا؟
هذا وأشارت الدراسة إلى أن البنية التحتية الإيرانية العسكرية الواسعة في سوريا انهارت مع انهيار النظام السوري السابق، ويمثل هذا التراجع الإيراني ضربة قوية لاستراتيجية طهران لفرض قوتها في الشرق الأوسط.
فقد سحبت إيران كل أفراد الحرس الثوري الإيراني من سوريا، كما سحبت مقاتلي الجماعات المسلحة “الباكستانيين والأفغانيين والعراقيين واللبنانيين والسوريين”.
تراجعت تلك الجماعات، بما في ذلك الحرس الثوري الإيراني، إلى “القائم”، وهي بلدة حدودية على الجانب العراقي. كما أن بعض العناصر الإيرانية المتمركزة في دمشق سافرت إلى طهران، بينما فر مقاتلو حزب الله في غرب سوريا برا إلى لبنان.
وأُجبروا على ترك كمية كبيرة من المعدات العسكرية والأسلحة، والتي دُمر الكثير منها لاحقًا في غارات جوية إسرائيلية أو استولى عليها تنظيم “هيئة تحرير الشام” ومجموعات أخرى.
وقد وصفت “باربرا ليف”، المسؤولة الكبيرة في وزارة الخارجية الأميركية لشؤون الشرق الأوسط، الانسحاب الإيراني بأنه “استثنائي”، وأشارت إلى أن التضاريس الاستراتيجية في سوريا أصبحت الآن معادية للغاية لعودة وجود عسكري إيراني كبير. وأضافت: “هذا لا يعني أنهم لن يحاولوا إعادة إدخال أنفسهم، لكنها أرض معادية للغاية”.
ما هي تداعيات تراجع النفوذ الإيراني في سوريا؟
اعتبرت الدراسة أن الانسحاب الإيراني يمثل نهاية جهد دام سنوات استخدمت فيه طهران سوريا كمحور لاستراتيجيتها الإقليمية الأوسع المتمثلة في الشراكة مع الأنظمة والميليشيات المتحالفة معها، لنشر النفوذ وشن حرب بالوكالة ضد الولايات المتحدة وإسرائيل، وقطع الطريق الذي استخدمته لتزويد حزب الله بالأسلحة والدعم.
في السياق، يقول العميد الإيراني “بهروز أسبتي”: “إنه يتناقض مع الخط الرسمي الذي اتخذه زعماء إيران بشأن السقوط المفاجئ للنظام السوري السابق، فقد قلل هؤلاء القادة من حجم الخسارة الاستراتيجية التي تكبدتها إيران في سوريا”.
رجحت الدراسة أن تسعى إيران لتغيير استراتيجيتها للحفاظ على نفوذها عبر منع إنشاء نظام جديد ومستقر في سوريا
وأضاف: “تلقينا ضربة قوية للغاية وكان الأمر صعبًا للغاية”. وكشف الجنرال أن “علاقات إيران مع النظام السوري السابق كانت متوترة مما أدى إلى الإطاحة به، حيث رفض النظام السوري طلبات متعددة للجماعات المدعومة من إيران لفتح جبهة ضد إسرائيل من سوريا، في أعقاب الهجوم الذي قادته حماس في 7 أكتوبر 2023”.
وتخشى إيران من تداعيات داخلية فضلا عن فقدان نفوذها في سوريا، بحسب “أنييس لوفالوا” من معهد الأبحاث والدراسات حول المتوسط والشرق الأوسط، التي ترى أن “سقوط النظام قد يقلق النظام الإيراني الذي يواجه معارضة داخلية والذي تم إضعافه جراء القصف الإسرائيلي”.
هل يمكن لإيران مستقبلا أن تجد فرصا لاستعادة نفوذها في سوريا؟
إلى ذلك، ترى الدراسة أن موقف إيران في مستقبل سوريا لا يزال غير مؤكد. كما أن موقف سوريا السابق في “محور المقاومة” ودورها المهم في عقيدة “الدفاع الأمامي” في السياسة الخارجية الإيرانية يفسر سبب قيام إيران بتوجيه عشرات المليارات من الدولارات إلى الجهود الرامية إلى دعم النظام السوري السابق منذ عام 2011.
ويواجه النظام الإيراني، أيضًا، حقيقة مفادها أن دولًا إقليمية كانت وراء التطورات في سوريا وسوف تصبح الطرف المهيمن في مستقبل سوريا. وفي هذه المرحلة، قد تتبنى إيران نهج الانتظار والترقب، معتمدة على سيناريوهات عدم الاستقرار في سوريا التي قد توفر فرصا للتحالف مع المعارضة للنظام الجديد
ووفقا ما أوردته الدراسة، فإن إيران لن تتخلى عن طموحاتها في الهيمنة الإقليمية، ويبدو أنها قد تسعى إلى تعزيز العلاقات مع الجماعات الجهادية في سوريا التي تنوي مواصلة الأنشطة الجهادية ضد إسرائيل من الأراضي السورية.
وتشمل هذه الجماعات نشطاء جهاديين سلفيين، وقد تتلقى هذه المجموعات الدعم من إيران. ويمكن الافتراض أن إيران ستسعى إلى استعادة قنوات نفوذها في سوريا من خلال استغلال علاقاتها مع قيادة تنظيم القاعدة
كما رجحت الدراسة أن تسعى إيران لتغيير استراتيجيتها للحفاظ على نفوذها عبر منع إنشاء نظام جديد ومستقر في سوريا، حيث دعمت في السابق قوى عمدت إلى زعزعة الاستقرار في العراق وأفغانستان لمواجهة النفوذ الأمريكي وفرض قوتها.
لماذا هناك مخاوف من مستقبل الأقليات في سوريا؟
تنامت مخاوف الأقليات من المستقبل في سوريا، على الرغم من تعهد النظام الجديد باحترام الحريات. فيما تمارس الولايات المتحدة والدول الأوروبية ضغوطات على النظام السوري الجديد، حيث لا تزال تفرض عقوبات على سوريا كدولة وتحتفظ بإجراءات منفصلة ضد الجماعات التي تهيمن على الحكومة الجديدة.
تخشى الأقلية التي ينتمي إليها بشار الأسد، بحسب الدراسة، أن يوصفوا بكونهم من أتباع النظام السابق، ويراقبون بخوف ما يحدث منذ سقوط النظام في الثامن من كانون الأول / ديسمبر 2024. فهناك تخوّف من أن يُحسبوا على النظام السابق، وأن يتعرضوا للتمييز والعنصرية، حسب وصفهم.
هذا ويسعى الاتحاد الأوروبي، من خلال تخفيف العقوبات على دمشق، إلى تمكين سوريا من إعادة بناء نفسها، مع الاحتفاظ بوسيلة ضغط في حال لم تلتزم الحكومة السورية الجديدة بحقوق الأقليات.
ويرى الخبير في شؤون الشرق الأوسط، “برتران بادي”: “أن دمشق لن تتمكن من فرض نفسها على الساحة الدولية دون تقديم ضمانات لتحقيق قدر من التعددية السياسية، وهذا يعني إعادة تشكيل مجتمع سياسي وطني، عبر التفاوض مع الأكراد والعلويين”. أمن قومي ـ أهم التهديدات الأمنية الحالية لدول الاتحاد الأوروبي
يوضح جيمس دورسي، الخبير في الشأن السوري من معهد الشرق الأوسط في واشنطن، إن حقيقة عدم وقوع أعمال عنف ضد الأقليات حتى الآن هي “علامة تبعث على الأمل”. غير أن السفير الألماني السابق في دمشق “أندرياس راينيكه” يبدو أكثر تشككا، فهو يرى أن أيديولوجية تنظيم القاعدة لا تزال متجذرة في “هيئة تحرير الشام”. وأضاف “أن مستقبل الأقليات في سوريا معرض للخطر”.