ما الذي بقي من الثقافة العثمانية في العالم العربي؟

ما الذي بقي من الثقافة العثمانية في العالم العربي؟

ما الذي بقي من الثقافة العثمانية في العالم العربي؟


11/12/2023

زوال الدول والممالك يبقى حدثاً سياسياً، يستتبع تغيّر أسماء الحكام وشكل الإدارة في البلاد، لكن على مستوى الثقافة والعادات والفنون، فإنّها تمتد وتعبر إلى العصور التالية، لتمتزج مع التحوّلات الجديدة، وتبقى كعلامة تذكر بزمن مضى. وهكذا كان الحال مع الكثير من التعبيرات الثقافية في العصر العثماني، التي استمرت إلى الفترة المعاصرة، ونذكر تالياً بعضاً منها.

 

العمارة.. الطراز الإسلامي العثماني
تأثرت العمارة العثمانيّة بالعمارة البيزنطية في القسطنطينية، وبالتحديد في بناء كنيسة "آيا صوفيا"، الذي يعتمد على مخطط مربع، ويكون سقفه عبارة عن قباب متراكبة، مع قبة عظيمة الحجم في المنتصف. وذلك بعد دخول المدينة عام 1453م. ومن ثم بنيت مساجد عديدة على ذات النمط، ومن أشهرها جامع السليمانية، وجامع السلطان أحمد في اسطنبول، وكان الفضل للمعماري سنان آغا، في إدخال العناصر الإسلاميّة على هذا النموذج وتطوير النسخة العثمانية منه، والتي تميزت بإضافة المآذن الطويلة المدببة التي أصبحت علامة على العمارة الإسلاميّة العثمانية.

 

تبادل المطبخان العربي والتركي على نحو واسع التأثير واقتبسا عن بعضهما أطباقاً ومأكولات عدّة

تأثرت البلدان العربية بالطراز العثماني الإسلامي وانتشر فيها مع وصول الحكم العثماني إليها، واستمر انتشاره في العصر العثماني وفي الفترة المعاصرة،  ففي القاهرة بُنيَ على هذا الطراز جامع محمد علي، ومسجد الملكة صفيّة، وجامع محمد بك أبو الدهب، وفي دمشق بنيت التكية السليمانية، وفي تونس جامع الباي محمد المرادي. كما انتشرت المآذن المدببة ذات الشكل "الصاروخي"، كما نجد في الجامع الحسينيّ بعمّان.

مسجد محمد علي بالقاهرة بُني على الطراز العثماني

القهوة التركيّة.. والمقاهي
بدأ تحضير مشروب القهوة من نبات البُنّ في مناطق شبه الجزيرة العربية بالقرن الخامس عشر الميلادي، وبالتحديد في اليمن، ومنها انتقل إلى الحجاز، ومن ثم إلى مصر والشام، ومع وصولها إلى الأناضول، بدأ الأتراك بتحضير المشروب بطريقة جديدة، فحمصّوا حبوب البُنّ، وطحنوها إلى أن أصبحت مسحوقاً ناعماً، ومن ثم غلوها بالماء، وأضافوا إليها السكر (حسب الرغبة)، فأصبح المشروب بطريقة تحضيره الجديد يعرف بـ "القهوة التركيّة".

اقرأ أيضاً: الإمبرياليّة في فنجان القهوة الذي تحتسيه
وسرعان ما انتشرت هذه الطريقة من التحضير في المدن والحواضر العربية، ولا تزال منتشرة إلى اليوم. كما ارتبطت بالقهوة التركية عادات وتقاليد خاصّة مثل تقديمها في فناجين صغيرة ذات يد، مع صحن صغير، وتقديمها للضيف مع الماء، وكذلك، انتشرت هذه العادات في مختلف أرجاء الدولة العثمانية.

ارتبطت بالقهوة التركية عادات وتقاليد خاصّة مثل تقديمها في فناجين صغيرة ذات يد
وبالتزامن مع انتشار مشروب القهوة التركيّة، تطوّرت وانتشرت خلال العصر العثماني ثقافة المقاهي، وانتشرت في البلاد العربية، وترافقت مع انتشار القهوة، والدخان، وتطور أشكال التدخين، من النرجيلة إلى الجبق، والغليون، وحتى اللفائف. وظهرت المقاهي باعتبارها مراكز جديدة للتسلية، فأصبحت مكاناً للألعاب، وظهرت فيها فنون مثل؛ الحكواتي ومسرح الظل وصندوق العجائب. واليوم تطوّر نموذج المقهى العثماني ليصبح نمطاً خاصاً من المقاهي مرتبطاً بعموم المنطقة، ويعرف عادة بـ "الشرق أوسطيّ"، يتميز بتقديم النرجيلة، ولعب ألعاب خاصّة مثل "الطاولة".

اقرأ أيضاً: عندما أضعف العثمانيون العقل ليستسلم للخرافة!

مأكولات.. الشاورما والبقلاوة
وعلى المستوى المطبخ، تبادل المطبخان العربي والتركي على نحو واسع التأثير واقتبسا عن بعضهما أطباقاً ومأكولات عدّة، ومن أشهر المأكولات التي ظهرت في تركيا وانتشرت سريعاً إلى البلاد العربية، كانت الشاورما. وهي لحم يُحضّر بطريقة خاصة من الشوي، بوضعه على سيخ، وشيّه عموديّاً، بغرض الحفاظ على الدهون التي تبقى على السيخ بدلاً من السقوط في النار كما في الشواء الأفقيّ، فتعطي الشاورما مذاقها الخاصّ الدسم. وظهرت  الشاورما لأول مرة في مدينة بورصة التركيّة، منتصف القرن التاسع عشر. وأصل الكلمة يعود إلى الكلمة التركيّة "çevirme" (كيفيرمه) التي تعني الدوران؛ تعبيراً عن دوران السيخ أمام النار.

ظهرت الشاورما لأول مرة في مدينة بورصة التركيّة منتصف القرن التاسع عشر

واليوم تنتشر الشاورما في البلدان العربية وتحديداً في بلاد الشام، حيث أصبحت أحد أشهر أكلات الشوارع هناك.
أما الحلويات، فتعتبر البقلاوة أشهر الحلويات ذات الأصل التركي التي انتقلت إلى المطبخ العربي، وانتشرت على نطاق واسع. وتعود بداية ظهور البقلاوة في شكلها البدائي إلى القرن الثاني قبل الميلاد، حين ابتكرها  السريان في شمال العراق، الذين صنعوها من رقائق العجين الرقيق المحشو بالفواكه المجففة أو المكسرات، وأخذها عنهم الأتراك.

نقل العرب خلال العصر العثماني الكثير من الكلمات عن اللغة التركيّة وما يزالون يستخدمونها في حديثهم حتى اليوم

أما الاسم، فتذكر الباحثة حنان جعفر في كتابها "تاريخ المطبخ المصري" (2017: 221) أنّه جاء من السلطان عبد الحميد الأول (1773-1789)، الذي كان عنده طباخة اسمها (لاوة)، طوّرت صناعة هذه الحلوى وأحدثت عليها بعض الإضافات، وعندما ذاقها السلطان قال لضيف عنده: (باق لاوة نه بايدي) أي: "انظر ماذا صنعت لاوة".‏ وارتبطت حلوى البقلاوة بمراسم الاحتفالات الرسميّة بالدولة العثمانيّة، وكان هناك احتفال خاصّ في الخامس عشر من شهر رمضان، توزع فيه صواني البقلاوة على عساكر "الانكشاريّة"، في مراسم احتفالية تسمى "موكب البقلاوة". وانتشرت صناعة البقلاوة في مدن بلاد الشام، ومنها إلى مصر، ومع انتقالها من بلد إلى آخر، طرأت تطوّرات على مكوناتها.

اقرأ أيضاً: منطق الفرس والعثمانيين

عادات رمضانيّة.. مدفع رمضان
يذكر الباحث في التاريخ المصري، محمد كامل، في كتابه "خريف المحروسة" (2018: 34) أنّ القاهرة كانت أول مدينة ينطلق فيها مدفع رمضان، فعند غروب أول يوم من رمضان عام 1461م (865هـ) أراد السلطان المملوكي، سيف الدين خشقدم، تجربة مدفع جديد عنده، وصادف إطلاق المدفع وقت المغرب بالضبط، فظنّ الأهالي أنّ السلطان تعمد إطلاق المدفع لتنبيه الصائمين إلى أنّ موعد الإفطار قد حان، فخرجوا إلى دار الحكم يشكرونه على هذه البدعة الحسنة. وكان ذلك أواخر زمان الدولة المملكويّة.

انتشر مدفع رمضان في العصر العثماني في غالبية مدن بلاد الشام ومصر والعراق
تبنت الدولة العثمانية هذه العادة للإعلان عن موعد الإفطار، وانتشر مدفع رمضان في غالبية مدن بلاد الشام ومصر والعراق. وكان المدفع يوضع عادةً في قلعة المدينة في أعلى مكان فيها، وتتولى الحامية العثمانية فيها مهمة إطلاق المدفع عند حلول الموعد. واستمرت هذه العادة في الكثير من البلدان العربية إلى اليوم، رغم اختفاء الحاجة إليها منذ انتشار الساعات، ولكنها بقيت كطقس فلكلوري يذكر بالزمن الماضي.

اقرأ أيضاً: تركيا في القرن الأفريقي: حنين العثمانيين الجدد للهيمنة

كلمات دارجة حتى الآن
ويعتبر التبادل اللغويّ من أهم أشكال التأثر والتبادل الثقافي، وقد نقل العرب خلال العصر العثماني الكثير من الكلمات عن اللغة التركيّة، ولا زالوا يستخدمونها في حديثهم حتى اليوم، وأصبحت جزءاً من لهجاتهم. ومن هذه الكلمات، كلمة "دوغري"، وأصلها تركيّ، وتعني الحق والاستقامة. ومن الكلمات المشهورة أيضاً "أوضة"، وهي تركيّة كذلك، وتعني الغرفة. وغيرها الكثير من الكلمات مثل: بشكير وشرشف وبخشيش وعفارم وطشت وخانم وبلكونة وجزمة ودرباس (التي أصبحت درابزين) وجنطة (التي أصبحت شنطة).

ومن أشهر الكلمات التركيّة التي نقلها العرب عند الأتراك وشاعت عندهم، أسماء الرُتب المدنيّة والعسكريّة، مثل: أفندي، وكانت لقباً للأمراء وأبناء الذوات، كما كانت لقباً لرؤساء الطوائف الدينيّة والضباط وكبار الموظفين. والباشا، أو الباش، وهي أيضاً كلمة تركيّة تعني الرئيس أو المسؤول.

اقرأ أيضاً: فلسطين ونهاية العهد العثماني: كيف ضاعت البلاد؟
وبالاضافة إلى الكلمات، هناك التأثر على مستوى المقاطع ومن أشهرها المقطع "جي"، وهو من اللغة التركيه، يضاف لصاحب المهنة، فأصبح الشوام والمصريون يضيفونه لأي مهنة مثل: العربجي، والمكوجي، والقهوجي،  والبوسطجي، والبنشرجيّ.


آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية