المقاهي الثقافية في العالم: فضاءات موازية خارج التقليد

المقاهي الثقافية في العالم: فضاءات موازية خارج التقليد


09/04/2018

أدت المقاهي دوراً كبيراً في تشكيل الحركة الأدبية والثقافية؛ بل والسياسية قبل طغيان موجات العولمة؛ إذ اعتاد الكثير من المثقفين حول العالم على اتخاذها فضاءً ملهماً للإبداع والحوارات والمساجلات الجادة هرباً من تقييد روتين العمل والمحافل التقليدية، مما أسهم في تشكيل ثقافة مستقلة بذاتها ودافعاً لإنتاج أدبي وثقافي مختلف، كما تشهد بذلك ولادة كثير من أعمال نجيب محفوظ وإحسان عبد القدوس ويوسف إدريس وغيرهم.

وفي هذا السياق يسعى كامل رحومة في كتابه "المقاهي الثقافية في العالم: القاهرة.. باريس.. دمنهور" الصادر عن دار دلتا، لتتبع هذه الظاهرة بوصفها تاريخاً شعبياً ثقافياً موازياً للتاريخ الثقافي الرسمي، بأسلوب توثيقي أقرب إلى الكتابات الأكاديمية التي تستقي المعلومة من مصادرها رصداً وتأريخاً، اعتماداً على آراء الآخرين التي تتوافق غالباً وتتعارض أحياناً.

أدت المقاهي دوراً كبيراً في تشكيل الحركة الأدبية والثقافية بل والسياسية قبل طغيان موجات العولمة

يبدأ الفصل الأول "المقاهي بين الماضي والحاضر والمستقبل" بالإجابة عن سؤال "لماذا يرتاد الناس المقاهي؟"، ليصل إلى أنّها إحدى آليات التنوير والتثقيف، مؤيداً ما ذهبت إليه الشاعرة سعاد الصباح: "القهوة هي أهم اختراعات الإنسان. والذي اخترعها هو بغير شك مصلح اجتماعي عظيم... فبغير القهوة، لم تكن المقاهي، وبغير المقاهي لم يكن الحوار ممكناً، وبغير الحوار كان الإنسان جزيرة معزولة عمّا حولها".

لمّا كانت ظاهرة المقاهي الثقافية ظاهرة عالمية تجلت في القرن الماضي، فقد تطرق الكتاب في مبحثه الثاني، لتاريخها بدءاً بالقهوة، المختلَف عليها، فمن قائل إنّ أول نشأتها: اليمن، أو أثيوبيا، أو تركيا.. وأيا ما كان؛ فإن المتفق عليه أنها اكتشفت في الشرق ثم انتشرت في أوروبا ثم الغرب كله.

يسعى رحومة في كتابه لتتبع هذه الظاهرة بوصفها تاريخاً شعبياً ثقافياً موازياً للتاريخ الثقافي الرسمي

ويلفت الكتاب إلى ما ذكره جمال الغيطاني من أنّ المقهى كان جزءاً من الحياة في القاهرة القديمة، كما قرر حقيقة مهمة تفيد بوجود المقاهي قبل دخول مشروب القهوة مصر على يد المتصوف الشهير"العيدروس" العام 905هـ؛ إذ كانت تقدم أنواعاً أخرى من المشروبات، وعرّج على ما ذكره المؤرخ عبد الرحمن الجبرتي من أن مقاهي القاهرة أيضاً، التي كانت تقدم ألواناً متعددة من الفنون، ووصل إلينا أول وصف للمقاهي في مصر بكتاب المستشرق الإنجليزي إدوارد وليم لين في كتابه "المصريون المحدثون" الذي أكد فيه أن القاهرة في بدايات القرن التاسع عشر كانت تحتضن أكثر من ألف مقهى واصفاً مجالس الحكواتي والسير الشعبية قائلاً: "فالقصّاص يغْشون مقاهي القاهرة وغيرها من المدن، في ليالي الأعياد الدينية خاصة، ويسامرون الناس ببراعة تجذب القلوب".

منتديات ثقافية

أما عن المنتديات الثقافية داخل المقاهي فيقول رحومة إنها ظاهرة قديمة لم تنقطع طوال التاريخ، لكنها كانت تأخذ أشكالاً تختلف باختلاف البيئات والأزمنة لا يخرجها عما تقوم به المقاهي عبر العصور، ومن مظاهر ذلك، في العصر الحديث صالونات الجماعات مثل "صالون جماعة أبولو" الذي تأسس قبل صدور مجلتهم "أبولو" العام 1931، وأيضاً "صالون المقتطف" الذي يتبع "مجلة المقتطف" اللبنانية التي انتقلت إلى القاهرة وتأسس الصالون بإدارة العلامة أحمد فهمي أبو الخير، كما تأسست بتونس الخضراء في العصر الحديث عدة أندية أدبية وفكرية منها: "نادي ويليام مرسي" و"منتدى خميس القبائلي" و"منتدى العنابي".

وجدت المقاهي قبل دخول مشروب القهوة مصر العام 905هـ وكانت تقدم أنواعاً أخرى من المشروبات

ويرصد رحومة الأنشطة المتعلقة بالمقاهي، مثل: الموسيقى والغناء، وحفلات السمر وخاصة أنشطة الخيم الرمضانية، والإنشاد الديني والإنشاد الشعري، الندوات واللقاءات الثقافية والمباريات الشعرية، ومعارض الفنون التشكيلية، ومباريات التنكيت، وألعاب التسلية والحظ والمراهنات: مثل "لعبة الدومينو" و"النرد أو الطاولة" و"ألعاب الورق أو الكوتشينة" و"الشطرنح بمسابقاته" و"السيجة" في بعض المناطق التي تحتفظ بتراثها عبر الأزمان، وقال إن بعض الأنشطة ما يزال مستمراً، لكنه في طريقه للانقراض؛ مثل: الحكواتي، والملاحم والسير الشعبية، وفن القافية، وفن الأرغول، وخيال الظل، لافتاً أنّ منها ما اندثر بالفعل.

عن الفعل السياسي للمقاهي في حركة التاريخ يقول الكتاب: إنّ من نتيجة وجود المقاهي بروز ظاهرة إيجابية جديدة ساهمت في الفعل السياسي والثقافي وأحياناً الاجتماعي، ألا وهي ظاهرة (المثقف الوطني)، وهي طائفة وطنية من غير المنتمين للطبقة الأرستقراطية أو خليط من النسيج الحقيقي للشعب بطبقاته، كانت تتخذ المقاهي متنفساً لها.

أشهر المقاهي العربية

ثم يبدأ الكتاب باستعراض أهم المقاهي في العالم العربي بدءاً من  العراق مع "مقهى الخفافين" أقدمها على الإطلاق، القائم منذ أكثر من 950 عاماً، حسب مؤرخ بغداد الشهير جلال الحنفي، وكان من رواده الكثير من رموز الفكر والأدب منهم: معروف الرصافي وجميل الزهاوي وعبود الكرخي، ثم ينتقل إلى مقهى الشابندر بشارع المتنبي (1917)، والمسمى الآن "بمقهى الشهداء" لتعرضة لتفجير إرهابي في آذار (مارس) 2005، ويصل إلى مقهى الزهاوي" الذي يطل على أهم ساحات بغداد "ساحة الميدان" منذ أكثر من مائة عام، وسمي باسم الشاعر الكبير جميل صدقي الزهاوي، وهو المقهى الذي شهد كتابة ردوده الشهيرة على الكاتب الكبير "عباس محمود العقاد"، ولقد تكلم شاعر الهند الكبير "طاغور" عن استضافته الزهاوي له في ذات المقهى، ومن رواده الشاعر محمد مهدي الجواهري، وعالم الاجتماع علي الوردي والرصافي، وقد شهد أيضاً بدايات الحياة الأدبية للشاعر الكبير بدر شاكر السياب.

"مقهى الخفافين" بالعراق القائم منذ أكثر من 950 عاماً

وفي سوريا يتعرض الكتاب لمقهى الهافانا الواقع في قلب العاصمة دمشق منذ العام 1945، ويشبهه رواده بمقهى الفيشاوي المصري لقدمه، ومقهى البرازيل بشارع بورسعيد في وسط دمشق، وأخيراً مقهى الكمال المجاور لهافانا بشقيه الصيفي والشتوي

وفي لبنان يتناول:  مقهى عرمرم، المشهور بأمسيات "شهرياد" الثقافية الشهيرة من عزف وإلقاء وفن تشكيلي تحت إشراف الحركة الشبابية الأدبية شهرياد (والاسم خليط من اسمي شهريار وشهرزاد)، ومقهى المودكا كأشهر مقاهي الحمرا، الذي تمنى الكاتب الكبير عصام محفوظ بسبب بُعد المقهى عن منزله أن يربح جائزة مالية كبيرة، ويشتري الطابق الذي يقع فوق المقهى، كي يتسنى له النزول بلباس النوم إليه؛ كناية عن شغفه به، ليصل إلى "محلة الزيتونة" وهو مقهى هادئ ومبني بالخشب، ويقع على شاطئ بيروت، وكان يجلس فيه الأدباء ساعة الغروب في ندوة شاعرية شهيرة، مثل: بشارة الخوري وشلبي الملاط وأمين الريحاني وجورجي سعد وآخرين، وقبل أن يودع مقاهي لبنان يمر رحومة بمقهى النجار الواقع في البرج وبـ"ساحة الشهداء"، ومن رواده: بشارة الخوري وأمين نخلة ووديع عقل وغيرهم.

المنتديات الثقافية داخل المقاهي ظاهرة قديمة لم تنقطع طوال التاريخ كانت تأخذ أشكالاً تختلف باختلاف البيئات والأزمنة

وفي تونس يتعرض الكتاب لمقهى تحت السور الشعبي بمنطقة باب سويقة في حاضرة تونس، ومقهى العهد الجديد أمام وزارة الدفاع الوطني، ومقهى الديوان الذي يقع بالقرب من الديوان الشرعي القديم ووسط نقط التقاء المارة من رجال جامعة الزيتونة وطلابها ورجال القضاء والصحفيين وكثير من الأدباء مثل علي الجندوبي، ومقهى المغرب بشارع فرنسا بالعاصمة التونسية، وأخيراً مقهى باريس بشارع الحبيب بورقيبة، الذي أنشئ في الستينيات.

وفي الجزائر يتناول: مقهى طانطافيل أو "مقهى الجزائر حالياً" بساحة بورسعيد بالعاصمة الجزائرية قرب الحي العتيق، ومقهى الرمانة التاريخي بمدينة تلمسان المسمى على اسم شجرة الرمان التي تتوسط المكان إلى الآن، إضافة إلى مقهى الوداد بمدينة وهران في وسط المدينة بشارع أحمد بن أحمد، إضافة إلى مقاه أخرى مثل:  مالاكوف، والتلمساني بالقصبة المعروفين في السابق بمجالس الشعراء والأدباء والفنانين.

مقهى الهافانا الواقع في قلب العاصمة دمشق منذ العام 1945 يشبهه رواده لقدمه بمقهى الفيشاوي المصري

وفي الأردن، يبدأ بالحديث عن مقهى العاصمة.. الذي رثاه الروائي الراحل مؤنس الرزاز بعد هدمه، ومقهى عمون بوسط عمّان الذي يعود إنشاؤه إلى العام 1936، وقد تحول فيما بعد إلى منتدى يجمع الأدباء والمثقفين والفنانين بما يشبه "صالوناً أدبياً مفتوحاً"، وفي المقهى ركن سمي باسم "مؤنس الرزاز" لأنه انتقل إليه بعد "مقهى العاصمة" وأقام فيه ندواته الأدبية، ومقهى الشريف الدولي بمنطقة جبل الحسين، ومن رواده الشاعر والكاتب خيري منصور ومعن البياري والشاعر رسمي أبو علي بندواتهم الممتعة، ثم ينتقل إلى مقهى الفينيق الذي أسسته الإعلامية سعاد الدباح وعاونها في إدارته الشاعر العراقي المقيم في عمّان علي الشلاه، وهو اليوم مقصد لكثير من المثقفين العرب من زوار العاصمة الأردنية، ويختتم مع مقهى جفرا أحد أشهر المقاهي الحديثة بمكتبته الزاخرة على الجدران، وعروضه المسرحية العديدة فضلاً عن الندوات والأمسيات.

مقهى العاصمة في عمّان رثاه الروائي الأردني الراحل مؤنس الرزاز بعد هدمه

وفي مصر يستعرض رحومة أشهر مقاهي العاصمة: مقهى أفندية بالقرب من جامع الأزهر، ومتاتيا أو "قهوة البوستة" بوسط القاهرة بين ميداني العتبة والموسكي، ومقهى الرتز أمام البنك الأهلي بقصر النيل، ومقهى اللواء الملقب "بمنتدى الظرفاء والشعراء" بمنطقة باب اللوق، وهو المسمى باسم "جريدة اللواء"، إضافة إلى مقهى الكتبخانة".. المواجه لمبنى دار الكتب بشارع محمد علي، الذي كان المكتب الرسمي لشاعر النيل "حافظ بك إبراهيم" وكان من كبار موظفي دار الكتب المصرية، ومعه تابعه الذي لا يفارقه الشاعر الأسمر اليائس إمام العبد، وقد اتخذ حافظ إبراهيم من المقهى مقراً رسمياً له، وكان لا يصعد إلى مكتبه في دار الكتب إلا قليلاً، وكان يدير مهام منصبه وهو يدخن الشيشة ويحتسي القهوة في هذا المقهى، وبالتالي تحول المقهى بسبب ذلك إلى منتدى ثقافي كبير يحضره الكثير من رموز الأدب والفن منهم أم كلثوم وعبد العزيز البشري والشاعر محمد البابلي وآخرون.

وإضافة إلى مقهى ريش والفيشاوي أشهر مقاهي القاهرة يستعرض مقاهي أخرى كـ"عرابي" بمنطقة العباسية، ومقهى محمد عبد الله وهو من أشهر مقاهي الأربعينيات والخمسينيات، ومقهى سفنكس بشارع طلعت حرب أمام سينما راديو، ومقهى إيزافيتش في قلب ميدان التحرير، وهو من أشهر مقاهي الستينيات.

الفيشاوي أشهر مقاهي القاهرة

ويفاجئ رحومة القارئ بالحراك الثقافي "المظلوم" إعلامياً في المقاهي الواقعة خارج العاصمة ومنها: "مقهى نيو سوريا" الذي أسسه يحيى محمود عارف الشهير بـ"ابن بطوطة" في السويس العام 1978، ويرتاده نخبة من رموزها الثقافية والفكرية، ومقهى السنديون بفوه كفر الشيخ، ومقهى القللي بالفيوم، ومقهى عبد الله قناوي بالمنيا الذي أُسس نهاية الستينيات ويطل على أحد روافد نهر النيل وسط حديقة كثيفة من الأشجار، لينتهي بمقهى عبد المعطي المسيري في دمنهور، ويفرد له حيزاً مستحقاً من كتابه، ملقياً الضوء على صاحبه ودوره في الحركة كما لم يكتف الكاتب بهذا السرد الببلوغرافي الواسع لأبرز المقاهي العربية؛ إذ يصحب المهتمين بذا المجال بجولة مماثلة مع أشهر المقاهي في أوروبا، ويعترف أن ما ذكره مجرد أمثلة للمقاهي الثقافية المنتشرة بطول وعرض الدول العربية، التي يأخذنا الكتاب معها في رحلة ممتعة، لنكتشف روادها وهم يشاركون في صناعة التاريخ والمشهد الثقافي العربي، ويتفاعلون مع الناس في أفراحهم وأحزانهم وهمومهم الوطنية.

يأخذنا الكتاب مع المقاهي في رحلة ممتعة لنكتشف روادها وهم يشاركون في صناعة التاريخ والمشهد الثقافي العربي

يذكر أنّ كامل رحومة  من أبرز المهتمين بثقافة المكان في مصر وهو مؤسس جمعية "محبي عبد الوهاب المسيري لتنمية الفنون والآداب"، وله عشرات المقالات وصدر له كتاب "المسيري وثقافة المكان"  و"ولا واحد دمنهوري.. فلكلور وحكاوي في حبّ الوطن"، وله كتاب تحت الإصدار بعنوان "نبي دمنهور.. مقاربة تاريخية لسيرة النبي إدريس".


آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية