"أوراق البنتاغون" لهانا آرندت: الصحافة تفضح الكذب في السياسة

"أوراق البنتاغون" لهانا آرندت: الصحافة تفضح الكذب في السياسة


18/01/2018

ليس عرضاً بالغ الجمال، بالتأكيد، أن نشاهد الأولى بين القوى الجبارة في العالم وهي تقتل أو تجرح كل أسبوع ألوف المدنيين من غير المقاتلين، في الجهود التي تبذلها لإرغام أمة صغيرة متخلفة على القبول بحلّ تبقى الشكوك محيطة بما فيه من مزايا». واضح أن القوة الجبارة في هذا الكلام هي الولايات المتحدة الأميركية والأمة المتخلفة هي فييتنام، بالنظر الى أن هذا الكلام نفسه يتم تداوله منذ كان الصراع في فيتنام مشتعلاً. لكن اللافت أن قائل هذا الكلام، الذي تفتتح به المفكرة الأميركية من أصل ألماني، هانا آرندت نصها الشهير الذي كتبته حول ما يسمى بـ "أوراق البنتاغون"، لم يكن نعوم تشومسكي، أو أندريه غوندر فرانك، أو حتى ريجيس ديبريه وغيرهم من عتاة المعادين للتدخل الأميركي في فييتنام، بل روبرت ماكنامارا الذي كان حينذاك واحداً من أكثر وزراء الدفاع الأميركيين تورطاً في ذلك الصراع. واللافت أكثر من هذا هو أن ماكنامارا قال هذا الكلام، قبل سنوات طويلة من إسهابه في قول الأشياء نفسها في الفيلم الوثائقي الرائع الذي حققه معه إيرل موريس بعنوان "ضباب الحرب" ليشكل إدانة حاسمة لذلك العدوان الدامي البشع الذي قامت به الجيوش الأميركية ضد الشعب الفيتنامي.

والحال أنّ هانا آرندت ما أوردت هذا النص في صدر دراستها السجالية الطويلة التي عنونتها يومذاك "الكذب في السياسة"، إلا انطلاقاً من مقولة "وشهد شاهد من أهله" من دون أن تعرف أن شهادة ماكنامارا سوف يكون لها كل ذلك الصدى بعد سنوات طويلة. فالنصّ نفسه والذي تعلق فيه آرندت على ما يقرب من خمسين مجلداً من ذلك التقرير السري الذي فضح الأكاذيب السلطوية الأميركية التي كمنت خلف الحرب الفيتنامية، كان في حد ذاته، وحتى من دون تدخل ماكنامارا الثمين، كافياً لقول كل شيء في زمن كان مضى فيه نحو ستة أعوام على المجزرة الأميركية العبثية التي كانت تدور في فيتنام، ولا تزال أمام الشعب الفيتنامي سنوات أخرى قبل أن يلحق الهزيمة بتلك القوة الجبارة على الصعيد العالمي. ولئن كانت تتم اليوم استعادة هذا الفصل الكئيب من التاريخ الأميركي، فما هذا إلا لمناسبة عودة المخرج الكبير ستيفن سبيلبرغ الى هذا الموضوع في تحفته السينمائية الجديدة "البوست". ولئن كان سبيلبرغ قد اشتغل على موضوعه لأسباب لا تتطابق بالضرورة مع الرغبة الخالصة في العودة الى التاريخ لمجرد العودة إليه- كما سنرى في مقال عن الفيلم ننشره غداً في ملحق "الحياة" السينمائي لأنه ليس بيت قصيدنا هنا- فإن غايته من فيلمه تكاد تتطابق مع الغاية التي حركت آرندت قبل ما يقرب من نصف قرن.

فآرندت التي كانت نشرت نص "الكذب في السياسة" أصلاً رفقة عدة دراسات أخرى لتشكل متن كتاب لها عنونته "أزمات في الجمهورية" (1969)، ومن أبرزها نص "في العنف" - الذي نقله كاتب هذه السطور الى العربية وصدر عن "دار الساقي" في غير طبعة حتى الآن، تفيدنا منذ البداية بأن ليس ثمة من جديد لا يعرفه الناس في كل تلك الوثائق البنتاغونية، بالنظر الى أن الصحافة الأميركية، بخاصة منها "النيويورك تايمز" و "الواشنطن بوست" و "النيويوركر" التي تنشر فيها آرندت، كانت اعتادت خلال السنوات السابقة مباشرة على إنجاز التقرير، على نشر كل ما سوف يتضمنه من معلومات ومواقف. بيد أن الجديد الآن هو ذلك العمل الذي إذ اتّخذ طابعاً رسمياً واشتغل عليه عدد كبير من الباحثين، سرّاً، لحساب وزارة الدفاع (البنتاغون)، إنما أتى كشهادة نزيهة لأهمية الصحافة ودورها وفاعليتها مؤكداً صحة كل ما كانت تورده يوماً بعد يوم، وهو نفس ما كانت الدوائر الرسمية تنفيه، يوماً بيوم كذلك، وتسخّفه وتتهم كاتبيه بكونهم طابوراً خامساً يعمل لمصلحة "الحمر". وفي هذا المجال بالتحديد، تعطي هانا آرندت ذلك التقرير مكانة بالغة الأهمية، إن لم يكن في التاريخ الأميركي ككل، فعلى الأقل في تاريخ الصحافة، فيصبح النص بالتالي تحية للصحافة ليس فقط لاستباقها التقرير بأشواط، بل أهم من هذا لإقدامها، "التايمز" أولاً ثم "البوست" بعد ذلك وبشكل أكثر جرأة- كما سنرى في فيلم سبيلبرغ على أي حال، بعد آرندت بكل تلك العقود - على نشر التقرير على رغم المنع الذي أُحيط به والتحذيرات الرسمية. ولكن كيف وصل هذا التقرير الى الصحافة؟

إذا كان العنوان الذي أعطاه سبيلبرغ لفيلمه يركز على دور "الواشنطن بوست" في فضح "أوراق البنتاغون"، فإن ما تؤكده آرندت إنما كان دور "النيويورك تايمز" حيث أن دانيال إيللسبرغ، الذي كان حينذاك موظفاً سابقاً في وزارة الدفاع، كان في أوقات متفاوتة قد تمكن من تصوير التقرير البالغ عدد صفحاته ثلاثة آلاف الى جانب نحو أربعة آلاف وثيقة ملحقة به، وهو بالتالي أوصل الصور، وجزءاً من الوثائق الى الصحافي نيل شيهان العامل في "التايمز" فبدأ هذا الأخير ينشرها في سلسلة من المقالات حتى وصلته تهديدات جدية بالملاحقة القضائية من لدن حكومة الرئيس نيكسون. ولما بدأت التهديدات تفعل فعلها، تبعت "البوست" زميلتها النيويوركية مستندة الى حقها الدستوري في النشر والذي يكفله التعديل الأول في الدستور الأميركي... وهكذا، بعد قرار جريء من المحكمة العليا، انتصرت الصحافة على السلطات، لتندلع أول فضيحة من هذا النوع في التاريخ الأميركي، وذلك قبل سنوات من إقدام الصحافة من جديد على إشعال فضيحة أخرى بنشر وثائق "ووترغيت" التي أطاحت هذه المرة بنيكسون نفسه.

إذاً، هذا ما تحدثنا عنه هانا آرندت في نصها هي التي تؤكد فيه غير مرة أن كل تلك الوثائق لم تأت بأي جديد، ولا سيما بالنسبة الى مواقف ما لا يقل عن ثلاثة رؤساء أميركيين- هم الثلاثة الذين عاصروا الحرب الفيتنامية من موقعهم في البيت الأبيض، كنيدي، جونسون ونيكسون- الذين تؤكد الوثائق انهم كانوا يعرفون منذ البداية أن تلك الحرب ستكون خاسرة في النهاية بشكل يقيني، لكنهم "مع ذلك أصروا على خوضها حتى النهاية مضحّين بعشرات ألوف القتلى الأميركيين من خيرة شباب البلد الذين كانوا يرسَلون الى الجبهة ليعودوا في توابيت، وبسمعة أميركا ومكانتها و "أخلاقياتها" لمجرد إصرارهم على العنجهية الشخصية، تلك العنجهية التي كلفت الأمة كثيراً". وكان الكل مدركاً ذلك، وإلا، تتساءل آرندت، "هل كان منطقياً أن يشهد الانخراط في تلك الحرب، بخاصة في عامها الأخير أكثر من تسعة وثمانين فارّاً من الجندية، ونحو مئة ألف معترض على خوض الحرب بوازع من ضمير معرضين للمحاكمة والسجن، ناهيك بعشرات الألوف من الشبان الذين حتى خلال خدمتهم لم يجدوا مهرباً لهم سوى اللجوء الى المخدرات؟".

مهما يكن من أمر، ربما سيكون من المفيد هنا، في عودة لا بد منها الى الغاية المشتركة بين نصّ هانا آرندت وفيلم ستيفن سبيلبرغ أن ننقل عن الصفحات الأخيرة من "الكذب في السياسة" ما تكتبه صاحبة "إيخمان في القدس": "أن يكون الجمهور ومنذ سنوات قد عرف ما كانت الحكومة تجهد من دون جدوى لإخفائه، أمر يشهد على نزاهة الصحافة وسلطتها بقوة يضاعف منها تلك الطريقة التي بها تمكنت النيويورك تايمز من فضح الأمر. وما هذا سوى برهان على صوابية رأي كثيراً ما دوفع عنه: رأي يقول أن الصحافة الحرة وغير الفاسدة لديها مهمة بالغة الأهمية عليها أن تقوم بها، مهمة فحواها الدفاع الدائم عن ذلك اللقب الذي يطلق عليها: السلطة الرابعة...".

ترى ألا يجعلنا مثل هذا الكلام نشعر، وكأننا نحلم بعد أن اختفى مثل هذا المنطق في زمن تعيش فيه الصحافة نفسها ما يشبه الصراع على الوجود بين مطرقة سلطات تريد أن تحمّلها كل ضروب فشلها، ووسائل تواصل اجتماعيّ صارت الأخبار الكاذبة جزءاً من أخلاقياتها، وأخيراً أزمات مالية خانقة تجعل الصحافة، كسلطة نزيهة على الأقل، أمام واحد من اثنين، فإما أن تختفي وإما أن تخدم من هو مستعد لتمويلها؟

يوم كتبت هانا آرندت (1907 - 1975) نصها المهم هذا، لم تكون أمور الصحافة قد وصلت الى مثل هذا الانهيار، ولاحقاً حين حقق سبيلبرغ فيلمه، من الواضح أن ثمة صحافة معينة لا تزال تقاوم وأن العودة اليها في مثل هذا الفيلم، إنما هي دعم لها في مقاومتها هذه.

إبراهيم العريس-عن"الحياة"




انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات
الصفحة الرئيسية