كيف تحاول تركيا تعزيز وجودها في غرب أفريقيا؟

كيف تحاول تركيا تعزيز وجودها في غرب أفريقيا؟


12/07/2021

شهدت الفترة الأخيرة تناميًا ملحوظًا للدور التركي في منطقة الساحل وغرب أفريقيا. ظهر هذا جليًا في الزيارات المتكررة لوزير الخارجية التركي لعدد من بلدان الإقليم وتوقيع اتفاقيات تعاون معهم في عددٍ من المجالات. لا تنفصل هذه التحركات بالضرورة عن الزيارات التي قام بها عدد من الرؤساء الافارقة إلى تركيا ولقائهم الرئيس رجب طيب أردوغان. لقد تمكنت تركيا من توظيف أدوات دينية واقتصادية ودبلوماسية، وأخرى رياضية وثقافية، في محاولة تعزيز وجودها في هذه المنطقة الضرورية للأمن الدولي والقارة الأفريقية. وعلى الرغم من نجاحات تركيا المعتبرة في خلق موطئ قدم لها في افريقيا عمومًا وغرب أفريقيا خصوصًا، مثلت جائحة كورونا تحديًا واختبارًا حقيقيًّا لقدرة تركيا على تعزيز نفوذها في القارة في ظل الأزمات المتلاحقة التي تحاصر الاقتصاد التركي.

ما هي أسباب اهتمام تركيا بالتواجد في غرب أفريقيا؟   

هناك جملة من الأسباب التي تقف وراء سعي تركيا المضني لبسط نفوذها في منطقة الساحل وغرب أفريقيا. فلا يمكن النظر للوجود التركي في المنطقة بمعزل عن سعيها لتطويق المصالح الاستراتيجية للقوى المحلية والإقليمية المناوئة لها خاصة في ضوء التطورات الحادثة في الأقاليم المتاخمة مثل شرق المتوسط والشرق الأوسط. إذًا، تحاول تركيا من خلال هذا التواجد مواجهة التحالفات المعقودة ضدها بتحالفات مضادة تمكنها من موازنة القوى والنفوذ على الأرض. يرتبط بهذا أيضا محاولة تركيا مزاحمة القوى الأوروبية ذات الوجود الراسخ في المنطقة والتأثير عليها لتحقيق المصالح والاهداف التركية في القضايا العالقة بين الجانبين. ولعل أبرز مثال على ذلك ما يحدث من شد وجذب بين فرنسا وتركيا في ضوء الصراع والاتهامات المتبادلة بين الجانبين في العديد من المناطق ابتداء من سوريا ومرورا بليبيا وانتهاء بغرب افريقيا.

تسعى تركيا لتعزيز موقعها في غرب افريقيا وهو ما يضر مباشرة بالمصالح الاستراتيجية الفرنسية في المنطقة التي طالما كانت ساحة تقليدية للنفوذ الفرنسي. كذلك يعد الوجود التركي في غرب افريقيا جزء لا يتجزأ من تنامي نفوذها وحضورها السياسي والعسكري والاقتصادي في باقي انحاء القارة خصوصا منطقة شرق افريقيا والقرن الافريقي الذي يشهد تزاحم من جانب القوى الدولية والإقليمية المختلفة. لا تنفصل المصالح الاقتصادية عن المصالح السياسية في هذا الإطار، فلتركيا أهداف اقتصادية تسعى لتحقيقها من هذا التواجد أيضا. فيعد التواجد التركي في المنطقة عنصرا هاما من عناصر الاستراتيجية التركية في فتح أسواق جديدة للمنتجات التركية لتعويض الخسائر التي تكبدتها تركيا على كافة الأصعدة في الفترة الأخيرة نتيجة لعزلتها ودخولها في مشاحنات متكررة مع جيرانها.

يضاف إلى ما سبق اهتمام تركيا بتأمين مصالحها الاقتصادية والتجارية، وإقامة علاقات اقتصادية راسخة مع دول المنطقة والبحث عن فرص للشراكات في المنطقة لتعزيز مكانتها كقوة اقتصادية إقليمية فاعلة. كما تعمل تركيا على تعزيز طموحتها العسكرية في أفريقيا عمومًا وفي المنطقة خصوصًا، وحماية القواعد العسكرية التركية المزمع تدشينها في ليبيا والنيجر وإقامة المزيد منها، إضافة إلى فتح سوق للترويج للصناعات التسليحية التركية في المنطقة التي تشهد انتشارًا للتنظيمات الإرهابية والصراعات المختلفة.

في هذا السياق، تستغل تركيا حالة الفراغ الأمني والمشكلات السوسيو اقتصادية لدعم التنظيمات المتطرفة بهدف تعظيم مكاسبها الحالية مثل ما تفعل في ليبيا على سبيل المثال لا الحصر. وعليه، تحاول تركيا الحصول على دعم مختلف دول القارة لاستمرار وجودها هناك من خلال تكوين شبكة من الحلفاء الاقليمين الذين لديهم مصالح استراتيجية كنقطة ارتكاز وتوغل مستقبلية. وأخيرًا، تتطلع أنقرة لملاحقة ما تبقى من حركة فتح الله كولن ومحاولة السيطرة على شبكة المنظمات التابعة لها في القارة؛ حيث سبق وأن استغلت الحركة لفتح مساحات مع المجتمعات المسلمة التـي تشكل أغلبية المنطقة؛ وكانت مدارس ومشافي الحركة أحد الأدوات الهامة للسياسة التركية قبل الشقاق الحاصل مع المحاولة الانقلابية في 2016.  

ما هي أدوات التدخل التركي في الساحل وغرب أفريقيا؟

تعتمد تركيا في مساعيها لبسط نفوذها على المنطقة على سلسلة متنوعة من الوسائل والآليات التي أثبتت فاعليتها في بناء قواعد للنفوذ التركي في المنطقة. فعلى مستوى الوسائل والآليات السياسية والدبلوماسية، تعد آلية القمم والزيارات الرسمية من أنجع الوسائل لتحقيق التقارب التركي الافريقي، فقد بلغت الزيارات الرسمية بين أنقرة ومختلف البلدان الافريقية نحو 500 زيارة منذ العام 2015 وحتى عام 2019.

ولعل زيارة وزير الخارجية التركي “مولود تشاوش أوغلو” للمنطقة في العام الماضي تمثل نقطة ارتكاز قوية للوجود التركي في الإقليم؛ حيث تضمنت زيارته دول مالي وغينيا بيساو والسنغال. تأتي تلك الزيارة عقب زيارة مماثلة قام بها وزير الخارجية قبل شهرين لدول غينيا الاستوائية، توجو والنيجر.

أما فيما يرتبط بالقوة الناعمة، فنجد أن تركيا كتيرًا ما اعتمدت على العامل الديني والمكون الإسلامي لتعزيز نفوذها في المنطقة. ليس أدل على ذلك من تمويل تركيا لجمعية ديانات التركية لبناء أكبر مسجد في غرب افريقيا في غانا عام 2018. إضافة إلى الدين، عمدت تركيا لتوظيف الرياضة لتحقيق تقارب أكبر مع الافارقة حيث تشرف شركة “يينيغن” على بناء مركب “جابوما” الرياضي في الكاميرون، والذي سيحتضن النسخة المقبلة من نهائيات كأس إفريقيا.

كذلك قامت تركيا بالمشاركة في تنفيذ العديد من مشروعات البنية التحتية الافريقية لخلق رابطة بينها وبين الدول والمواطنين الافارقة، نذكر منها على سبيل المثال لا الحصر مشاركة أنقرة في بناء القطار السريع في العاصمة داكار وبناء مركز «أنتا ديوب» في نفس الدولة. تواصل تركيا أيضا تغلغلها في قطاع الموانئ البحرية والسيطرة على المزيد منها على الساحل الغربي للقارة الافريقية، فنجد أن مجموعة البيرق التركية قد سيطرت على إدارة ميناء كوناكري المستقل لمدة 25 عامًا كاستثمار يتجاوز 700 مليون دولار. يضاف إلى ذلك ضخ تركيا لنحو 250 مليون دولار في مشروعات البنية التحتية بالنيجر؛ حيث استطاعت مجموعة شركات تركية الفوز بعقود ضخمة أبرزها بناء مطار نيامي الجديد بتكلفة 154 مليون يورو. لا ينفصل ذلك عن سعيها للسيطرة على مشروعات تتعلق بإدارة الموارد والثروات وطرق المواصلات الافريقية، منها على سبيل المثال إنشاء “متروباص” في العاصمة باماكو.

وعلى صعيد التعاون الأمني والاستخباراتي، تعهدت تركيا في 2018 بتقديم 5 ملايين دولار كمساعدة مالية لجهود مكافحة الإرهاب لمجموعة الدول الخمس في غرب افريقيا. كذلك قامت تركيا بتوقيع العديد من الاتفاقات الأمنية مع العديد من الدول في المنطقة مثل غامبيا، كوت ديفوار والنيجر. يرتبط التعاون الأمني بالضرورة بالتعاون العسكري الذي قامت تركيا بتعميقه بشكل قوي في الفترة السابقة. فقد أشارت التقارير لسعي أنقرة إلى انشاء قاعدة عسكرية في غرب أفريقيا، خاصة في النيجر قرب الحدود مع ليبيا، وهو ما يمنحها موطئ قدم علني في دولة أفريقية ثالثة بعد الصومال وليبيا. كذلك وافق البرلمان التركي عام 2014 على المشاركة في عمليات حفظ السلام الدولية في كل من مالي وافريقيا الوسطة. قامت أيضًا شركة “صادات” التركية بإجراء برامج تدريبية عسكرية للعديد من القوات والجيوش الأفريقية كخطوة أولى في سبيل تعميق علاقاتها العسكرية بالدول الافريقية.

أما فيما يرتبط بالاقتصاد، التجارة والاستثمارات، انتهجت تركيا سياسات للتغلغل الاستثماري في القطاعات المختلفة، وقامت بتأسيس مجالس أعمال متنوعة بلغت نحو 43 مجلس تعاون تحت إشراف لجنة العلاقات الاقتصادية الخارجية التركية بهدف تعزيز التعاون الاقتصادي والاستثماري داخل القارة.

في الأخير، وكما وظفت تركيا أدوات القوة الناعمة كالدين والرياضة في تحقيق تقاربا مع الدول الأفريقية، قامت أيضا في سياق مماثل باستخدام المساعدات الإنسانية كعنصر مكمل لباقي أدواتها وآلياتها الأخرى، حيث قدمت وكالة التعاون والتنسيق التركية على سبيل المثال مساعدات إلى جامبيا للتخفيف من نقص الغذاء في البلاد. كما أعلنت تركيا عام 2020 عن شحن مجموعة كبيرة من المعدات الطبية إلى النيجر وتشاد، بما في ذلك 50000 قناع طبي و30.000 قناع N95 و2000 نظارة واقية، للمساعدة في مكافحة جائحة فيروس كورونا المستجد. ارتباطًا بذلك، قامت تركيا بدعم المؤسسات الخيرية المتواجدة في إقليم غرب إفريقيا، كما هو حال منظمة “الفاروق” ذات الصلة بالحركات المسلحة التي تُقدم لها أنقرة دعم مالي يُقدر بنحو 3 ملايين دولار سنويًا، هذا بخلاف المدارس والمعاهد والجامعات التابعة لمؤسسة “وقف المعارف” كأحد الاستراتيجيات الناعمة للتغلغل في إقليم غرب إفريقيا.

ما هي التحديات التي تواجه تركيا في غرب أفريقيا؟ تركيا   

تواجه تركيا في الفترة الحالية عدداً من التحديات التي تعيق تحقيقها لطموحها في منطقة الساحل وغرب افريقيا، لاسيما في ظل استمرار جائحة كورونا وتأثيرها العكسي على تركيا وعلى الدول الأفريقية. يبرز التحدي الاقتصادي كأحد أهم التحديات التي تواجه ديمومة الوجود التركي في الإقليم، فالتدهور الحاصل في الاقتصاد التركي وتراجع سعر وقيمة العملة التركية انعكس بالسلب على ما يمكن لتركيا أن تقدمه من معونات وامتيازات للدول الفقيرة في الإقليم. إذ لا يمكن بأي حال من الأحوال مقارنة ما تملكه تركيا بمنافسيها في الإقليم، لاسيما القوى الكبرى مثل الصين والاتحاد الأوروبي؛ خاصة فرنسا صاحبة النفوذ الأقدم في المنطقة. بناء عليه، يصعب على تركيا خلق مساحات للتحرك في ضوء هذه المعطيات.

يبدو أيضًا أن دول الإقليم قد فهمت تلك الإشارة جيدًا؛ خصوصًا وأنها هي الأخرى تعيش ظروف صعبة بسبب الجائحة. فيما يتعلق بمشروعات البنية التحتية التي سعت لتركيا في تنفيذها في الإقليم عبر شراكات ضخمة، فأنه من المحتمل أن تضطر الدول الافريقية إلى تقليل الاقتراض وإعادة ترتيب أولويات الانفاق للتعامل مع تداعيات الحائجة وتقليص العمل في هذه المشروعات العملاقة مما يؤثر بالسلب على الاستثمارات التركية المتاحة هناك. وتشير معظم الدلائل إلى أن الدول الأفريقية تحتاج إلى أشكال متنوعة من الدعم الاقتصادي، وهو ما لا تستطيع تركيا تقديمه.

في سياق موازي، وعلى الرغم من الجهود المضنية التي تبذلها تركيا للتقارب عسكريًّا مع بلدان الإقليم، يبدو من الصعوبة بمكان أن تحل تركيا محل أي قوة كبرى أخرى، فالمؤسسات العسكرية الافريقية لها مصالح متشابكة وعميقة مع الدول الكبرى مثل فرنسا والولايات المتحدة ولا يمكنها التحلل منها أو التخلي عنها بسهولة لاسيما، وأن كافة اشكال التعاون والمساعدات العسكرية التركية للدول الافريقية محدودة إذا ما قورنت بالدول الكبرى التي تسيطر على الإقليم هناك.

في الأخير، تواجه أنقرة العديد من الاتهامات التي تجعلها ٌأقرب لأن تكون لاعب سيء السمعة في المنطقة خصوصا فيما يرتبط برعاية التنظيمات الإرهابية في الساحل وغرب افريقيا، والتي تستغلها لتحقيق مأرب غير حميدة في ظل حالة السيولة الأمنية التي تشهدها المنطقة. يشير المحللون أن وجود مثل تلك التنظيمات لا يعدو أن يكون إلا جزءًا من استراتيجية تركيا للسيطرة على المنطقة بموقعها الجغرافي الاستراتيجي ومواردها الغنية.  فقد كشفت بعض التقارير الأمنية والاستخباراتية عن ارسال أنقرة نحو 900 عنصر للانضمام إلى تنظيم الدولة الإسلامية “داعش” المتمركز في شمال غرب مالي، بهدف تعزيز صفوفه تحت قيادة عبد الحكيم صحراوي، الأمر الذي يترتب عليه تقويض السلم والأمن الإقليمي في المنطقة وأفريقيا عمومًا كذلك تورطت تركيا في إرسال بعض شحنات الأسلحة من أراضيها إلى موانئ نيجيريا، حيث اكتشفت السلطات النيجيرية وجود أسلحة تركية الصُّنع تم شحنها عبر شبكة تهريب بين ميناءيْ لاجوس وإسطنبول، واستطاعت ضبط نحو 4 شحنات في عام 2017.

ختامًا، حققت تركيا نجاحات قياسية تحسب لها في السابق من تعميق للعلاقات وتعزيز للنفوذ في منطقة الساحل وغرب أفريقيا، ساعدها في ذلك انتعاش وازدهار الاقتصاد التركي في حينه. لكن في ظل استمرار الجائحة العالمية وتأثيراتها السلبية على تركيا والدول الافريقية، وفي ظل عزلة تركيا الإقليمية كنتيجة لسياستها العدائية، تبدو مهمة تحقيق الطموحات الأردوغانية الخاصة ببسط النفوذ والسيطرة على القارة الافريقية مستحيلة وأقرب لأن تكون اضغاث أحلام. لا يسمح وضع تركيا الحالي ولا المعطيات الإقليمية والدولية بمزيد من التوسع التركي في المنطقة. لكن كيف ستتعامل تركيا مع تلك المعطيات في المستقبل يبقى محل تساؤل ودراسة.

عن "مركز الإنذار المبكر"



انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات
الصفحة الرئيسية