عندما أخطأتُ في قراري.. سبايدرمان: فجوة الأجيال تتزايد ‎

عندما أخطأتُ في قراري.. سبايدرمان: فجوة الأجيال تتزايد ‎


27/12/2021

 الاختلاف والتنوع من ضرورات الحياة ولازم من لوازم التطور والحداثة، وهي قضية كل عصر وهاجس الأجيال المتعاقبة؛ فالاختلاف في الآراء بين جيل وآخر سواء في المعتقدات أو السياسة أو القيم والثقافة، مُشكلة قديمة قِدَم الحياة، تعبر عن الفجوة التي تفصل بين الأفكار التي يعبر عنها جيلان مختلفان، كُتب فيها العديد من خبراء التربية، ورغم هذا لم تحل ولم تحسم، ومازالت المجتمعات العربية والغربية تحاول فهم ما يحدث بين الأبناء والآباء.

 هل هو صراع أم فجوة أو مجرد سوء تفاهم ناتج عن اختلاف منطلقات كل جيل عن سابقه ولاحقه، هل السبب يعود لشيوع قيم الحداثة لدي الجيل الحالي مقابل ماضوية الصواب والخطأ لدى الآباء؟ أم اتساع نمط التفكير عند الأبناء مقابل تكلّس الآباء ورفضهم كل تغيير؟ لا أحد يعرف على وجه اليقين، ولكن من المؤكد أنّ هناك دوماً وسيلة للتواصل تخفف من حدة الفجوة ومن شدة الخلافات.

ثمة علاقة وجدانية بين الجيل الحالي وشخصية سبايدرمان، الرجل العنكبوت الخارق والمنقذ للبشرية؛ فطفولتهم ارتبطت بحب الأبطال الخارقين حتى أنهم كانوا يتخيلون أنفسهم مثلهم قادرين على هزيمة الشر في الكون

إنّ ما سأعرضه اليوم تجربة شخصية ولكنها معبرة عن حال كثير من الآباء والأبناء، وأعتقد أنّها تكشف حجم الفجوة بيننا وسبب المشاكل التي لم ولن تنتهي.

ابني الأوسط محمد، طالب في الثانوية العامة، وهي مرحلة تعليمية مصرية شديدة الحساسية، والطبقة الوسطى الصغيرة التي أنتمي لها، لا تملك وسيلة للترقي الاجتماعي في مصر إلا بالفوز بمقعد في كلية مرموقة، وهذا المطلب يضغطنا بشدة فنضغط بالتالي على أبنائنا ونتصور أنّ حرمانهم من بعض وسائل الترفيه هو الطريق الوحيد الآمن للوصول إلى التفوق الدراسي، واعتدنا اتهامهم بالتقصير ليس لكونهم مقصرين بالفعل؛ بل لأنّنا نسعى لمزيد من اهتمامهم بالدراسة، ليتمكنوا من الالتحاق بكلية من كليات القمة التي نعتقد أنّ لها مستقبلاً مضموناً سواء مادياً أو اجتماعياً.

اقرأ أيضاً: ألم يحن الوقت لإعادة التفكير بقيمنا؟

والحقيقة أنّ محمد شاب هادئ ويلتفت إلى دروسه بشكل مُرضٍ، وكنت اعتبر متابعته للأفلام التي يتم الترويج لها من شركات صناعة السينما العالمية أمراً عادياً، وهواية لا تستحق أن أتفرغ له وأسمع منه كيف يرى صناعة السينما أو أي أفلام يشاهد.

في منتصف الشهر الحالي بدأ عرض فيلم "سبايدرمان"، وهو فيلم ينتظره الشباب في سن محمد،  وكانت مفاجأة لي أنّ الفيلم بدأ عرضه في الشرق الأوسط في 15 كانون الأول (ديسمبر) قبل عرضه في أمريكا، بلد المنشأ، الذي بدأ العرض فيها يوم 17  كانون الأول (ديسمبر) وهو ما مثل علامة استفهام لي!

طلب محمد الإذن بالذهاب الى السينما لمشاهدة الفيلم، جاء وقد لمعت عيناه من الفرحة؛ فالوقت مبكر على الامتحانات، ويملك فرصة تعويض ما فاته خلال الأسبوع، وكان ينتظر معارضة والدته ويظن أني سأكون مسانداً له في مطلبه "العادل".

اقرأ أيضاً: هل تؤمن بقدرة البرمجة اللغوية العصبية على صناعة العقول؟

فوجئ بأنني أنا من رفض ذهابه إلى السينما ومشاهدة الفيلم مع رفاقه، ففي مدينتي دمنهور لا توجد دار سينما تعرض الأفلام العالمية الحديثة، وعليه الذهاب إلى الإسكندرية، رفضتُ بشكل حاسم، وخاطبته واعظاً بشأن عواقب إضاعة وقته في مشاهدة أفلام وغيرها، وعليه أن يستجمع قواه الفكرية والتركيز في الدورس ليحقق هدفه وحلمه، كما أنّ الأجواء شتوية والإسكندرية تمر بطقس ممطر وعاصف.

رضخ محمد لقراري بأدب، وإن أعلن أنه غير مقتنع بكل مبرراتي، وبدأت رحلة الوساطة من زملائه، "فبدونه لن يستمتعوا بالفيلم"، وتشفعت أخته الأكبر رؤى وهي طالبة جامعية مرت بتجربة الثانوية العامة، وظلت تؤكد لي خطأ قراري، وأنّ "الأفضل السماح له، لأنّك بهذا ستكسبه، وهو سيرد لك صنيعك فيزداد اشتعالاً في المذاكرة، أما إذا منعته فسيحبط ولن تستطيع إعادة لحظات السعادة التي يستحقها مع رفقائه"، ولا أعرف لماذا تشبثت برأيي بشكل لم يعهده مني أبنائي، واستسلم الجميع لذلك.

اقرأ أيضاً: كيف يتحول الاختلاف في الرؤى إلى صراع أجيال؟

مرّ يوم عرض الفيلم وهو متقلب المزاج، حتى أنه وبدون مناسبة يخبر أخته أنّ الأمر لم يعد يشغله، وظل يكرر هذا المعنى طوال اليوم، عندها أدركت أنّ بداخله شحنة مكتومة من الغضب وشعوراً بالحرمان، المهم بعد أيام قليلة أتيح له أن يشاهد الفيلم في المنزل على هاتفه، ثم لاحظت أنه ينشر بعض صور الفيلم على صفحته على الفيسبوك في اللحظات القليلة المسموح له فيها باستخدامه، وتكرر الأمر كثيراً، وشعرت بأني لم أكن موفقاً في قراري وأن ما قمت به ترك أثراً سلبياً لم أتوقعه.

 أثناء العشاء فاجأته بسؤالي هل أخطأت بمنعك من الذهاب إلى السينما؟ فانفجر صائحاً "نعم.. نعم... نعم..، لقد حرمتني من مصاحبة رفاقي وهم في الثانوية العامة مثلي، وحضرتك صدمتني برفضك وهذا آخر ما كنت أتوقعه"، كانت الكلمات تخرج من شفتيه محترقة مكتومة، ثم استكمل قائلاً: كان يمكنني تعويض الساعات الدراسية في وقت آخر، أما الفيلم فلن تتكرر متعة مشاهدته في يوم عرضه الأول.

اقرأ أيضاً: هل من أفقٍ للتربية الإعلامية في مجتمعاتنا؟

ظل يتحدث قرابة الساعة عن الفيلم واستعداد الشركة له، وأنّه كان من القلائل الذين توقعوا أن تنتج شركة "مارفل" هذا الجزء، نظراً إلى أنّ هذه الشركة صنعت عالماً سينمائياً خاصاً بها، تدور كل الأحداث فيها، ثم أخذ يشرح لي معنى عالم سينمائي خاص، استمعت له بصدق، وتركت عملي وترك مذاكرته، قدم معلومات كثيفة عن صناعة السينما العالمية، وتبين لي أنّ لديه ولدى جيله ثقافة سنمائية عالمية ومعرفة دقيقة بالقضايا الإنسانية، والرسائل التي ينشغل بها صناع الفن السابع.

وظل يحدثني عن الفيلم وظروف إخراجه وحكايته وملابساته، وكيف ظهر سبايدرمان بالأبطال الثلاثة الذين قدموا هذه الشخصية في السلسلة منذ انطلاقها العام 2001، وكيف تعاونوا فيما بينهم لمحاولة شفاء أعدائهم السابقين، كرسالة سلام من الفيلم للعالم، وأنّ علينا ليس فقط محاربة الأشرار بل علينا معالجتهم ليعودوا أسوياء.

اقرأ أيضاً: "IQ" هل هو مقياس لذكائنا أم لغبائنا البشري؟

رغم أنّها -في رأيه- محاولة سطحية وقصة ضعيفة، غير أنّ الشباب كانوا يتلهفون إلى مشاهدة الفيلم لأربعة أسباب: الأول أنّ ثمة علاقة وجدانية بين الجيل الحالي وشخصية سبايدرمان الرجل العنكبوت الخارق والمنقذ للبشرية؛ فطفولتهم ارتبطت بحب الأبطال الخارقين حتى أنهم كانوا يتخيلون أنفسهم مثلهم قادرين على هزيمة الشر في الكون، ويحلمون بأن يحصلوا على ما يحظى به البطل من تقدير المجتمع، وهذا هو عين ما يحتاجون له الآن.

قال الابن: لا تشغل بالك، أنا متفهم أننا نتحدث لغتين مختلفتين، قد تبدوان لغة عربية ولكن مفرداتنا ودلائلنا ليست واحدة

السبب الثاني؛ أنّ الفيلم يعرض نظرية الأكوان أو الأبعاد المتوازية "Multiverse"، وهي نظرية تثير فضول الشباب، السبب الثالث نوستالجيا "Nostalgia" أو حنين من نوع خاص لمتابعي سبايدرمان، متمثلة في ظهور (بيتر باركر) من خلال الممثلين الثلاثة الذين جسدوا شخصيته: توبي ماجوير (ثلاثة أجزاء)، وإندرو جارفيلد (جزآن) والبطل الحالي توم هولاند (ثلاثة أجزاء)، والمفارقة أنّ الحوار بينهم جاء وكأنه حديث نفس، السبب الرابع تشويقهم برؤية الأشرار السابقين ومعرفة ماذا حدث لهم، وكيف عادوا بعد أن ماتوا في السلسلة السابقة.

اصطحبت محمد ابني الى مقهى وجلست إليه معتذراً، فلم أكن أتخيّل أن كل هذا الاهتمام والشغف كان يملؤه، وسألته كيف أتعامل معه مستقبلاً، قال بعاطفة حانية "لا تشغل بالك، أنا متفهم أننا نتحدث لغتين مختلفتين، قد تبدوان لغة عربية ولكن مفرداتنا ودلائلنا ليست واحدة، حتى أنك لا تضحك على ما نضحك عليه، ولا نحن نضحك على ما يُضحكك، فقلت له: هل من سبيل لأن نقترب من بعضنا البعض؟ ابتسم وقال: ليس المهم الاقتراب، فهو مستحيل، لكن المهم أن تثق في اختياراتي وفي رؤيتي، وأنني أحمل نفس القيم التي تحملها ولن أنحرف عنها، فقط أسلوبي في التعبير عنها مختلف عن حضرتك، كما كنت أنت مختلفاً عن جدي، وأظنك لم تنحرف بل أصبحت أكثر مسؤولية بعد وفاته، كل ما أطلبه الثقة والمسؤولية. ثم مازحنى ضاحكاً: هل تعرف أنّ الجملة المحورية في أفلام سبايدرمان هي "كلما زادت قوتك زادت مسؤولياتك"!؟



انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات

آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية