
سواء أخرجت السلطة الجديدة في سوريا عبدالرحمن يوسف القرضاوي من البلاد إلى لبنان قسرا أم بليونة، فرسالته وصلت إلى القاهرة، وإذا صدقت المعلومات التي ترددت عن توقيفه في لبنان والبحث في أمر تسليمه إلى مصر بناء على أحكام صدرت ضده في قضايا إرهاب قد تتغير بعض المعطيات المتعلقة بتوظيف بعض المنتمين لجماعة الإخوان سياسيا في هذا التوقيت الذي تحاول فيه دمشق إرسال تطمينات لجهات عربية.
وتُقرأ الرسائل التي بعثها عبدالرحمن (ابن الراحل يوسف القرضاوي) من خلال فيديو مصور بثه وهو يتجول بساحة المسجد الأموي في دمشق زاعمًا أن الأمر لن يتوقف عند حدود سوريا، وسوف يطال ليبيا واليمن وتونس ومصر في عدة سياقات، أهمها التحضير لزيارة الرئيس التركي رجب طيب أردوغان المرتقبة إلى سوريا والصلاة في المسجد نفسه، تحقيقًا لوعد سابق، لأن جماعة الإخوان هي الطرف الأكثر حرصًا حاليًا على أن تظهر في كادر مُنجز أردوغان في سوريا للبدء في استثماره.
ويعتقد الرئيس التركي أنه حقق نصرًا كبيرًا بعد إسقاط حكم بشار الأسد والسير في طريق تمكين الموالين له من الجهاديين والإسلاميين من السلطة في سوريا، في حين يعتقد آخرون أنها مغامرة تعكس عدم تعلم أنقرة من درس فشل الإخوان في دول عربية عدة، ودرس أفول هيمنة إيران التي اعتمدت على التدخل في بعض الدول من خلال وكلاء وميليشيات مسلحة.
ويحاول المركز في تركيا والصاعدون إلى التمكين في سوريا طمأنة الإقليم والإيحاء بأن ما جرى خاص بسوريا فقط ولا تصدير للثورة خارجها، بينما تلفت التطورات إلى أن من يعيشون نشوة اللحظة التي سُميت في أوساط الإسلاميين بالفتح لا يدرون أنهم يقفون على أرض رملية مرشحة للتحرك تحت أقدامهم، وأن الأمور قد تنفلت من عقالها في أيّ لحظة.
ومن المنطقي أن يتحفظ أردوغان على فتح جبهات وألا ينكأ جراحًا قديمة في ساحات عربية لم تتعاف بعد عبر التعامل بشكل مرحلي ومُمنهج بحيث تُمنح أولوية لمساعدة الوكلاء في سوريا على الإمساك بزمام السلطة.
وبينما يصعب اعتبار رسائل جماعة الإخوان المتتالية عشوائية وتعبّر عن رؤية منفردة بداية من بيان جناح العنف داخلها الداعي إلى استلهام الحدث السوري والاستدارة سريعًا باتجاه مصر، مرورًا بالصورة التي جمعت بين أحد المطلوبين لمصر (محمود فتحي) وأحمد الشرع، وصولًا إلى فيديو ابن يوسف القرضاوي، الذي سبق وأن بايع والده الرئيس التركي زعيمًا للمسلمين في العالم في مهرجان (شكرًا تركيا) عام 2016.
ولا تفضل جماعة الإخوان خيار الصبر الإستراتيجي لأنها تتخوف من فشل تجربة هيئة تحرير الشام في سوريا قبل أن تستثمرها لصالحها باتجاه إعادتها إلى المشهد عبر ركوب موجة التمكين لقطاع من الإسلاميين ليسوا بعيدين عن الجماعة الأم ومشروع تمكينها على أنقاض بعض الأنظمة العربية، وبالنظر إلى أن رعاة وداعمي الصعود الحالي للجهاديين هم أنفسهم رعاة الصعود السابق للإخوان.
وتبدو حسابات جماعة الإخوان معقدة سياسيا، ومن الواضح أنها بدأت تتخلى عن حذرها وتعاود التلويح بالتمرد الثوري والخيارات العنيفة، حيث تلاحقها اتهامات بالتسبب في هزيمة مجمل تيار الإسلام السياسي، وأن من يخفف من ثقلها هم حلفاؤها وتلامذتها من الجهاديين.
ولم يعد لدى جماعة الإخوان ادعاء الأفضلية على الجهاديين بزعم فرضية الوصول من خلال الديمقراطية للسلطة وكي تساير التطورات وتحتوي الانشقاقات داخلها لا بديل لها عن تقليد نهج أفرع تنظيم القاعدة المحلية المتحورة وصعد نجمها عبر تحقيق الهدف بقوة السلاح واعتناق مبدأ مغالبة لا مشاركة.
وكي تشتبك جماعة الإخوان مع الحدث السوري وتمضي في طريق استثماره فهي مجبرة على تغيير أساليبها وأدواتها، إذا أرادت أن تكون جزءًا من عملية التغيير الجديدة في سوريا والإقليم وحتى لا ينتقل عناصرها باتجاه كيانات وتنظيمات مسلحة، حيث صار انتهاج الإسلاميين للعمل السلمي والحزبي للوصول إلى السلطة والاحتفاظ بها من الماضي وفقد جماهيريته في الكثير من الأوساط الإسلامية.
وحدث تبادل أدوار عكسي بين الإخوان والقاعدة، لأن الجهاديين كانوا في الخلفية مع بدايات الحراك الثوري عام 2011، والآن جماعة الإخوان تحتل مكانهم، وفي حين كان الصعود قد تم بتقديم الجماعة أولًا كمعتدلة لم تلوث أيدي عناصرها بالعنف، الآن تجري محاكاة تحول هيئة تحرير الشام من منظمة مارست العنف والإرهاب إلى كيان سياسي يهيمن على السلطة.
ويشكل نجاح تجربة الفصائل المسلحة في سوريا فرصة لتركيا وقوى أخرى للدفع باتجاه استيعاب جماعات أخرى مارست العنف والإرهاب في مرحلة من المراحل مثل الإخوان، للانخراط مجددًا في الدبلوماسية ما دام الأمر يحتاج إلى محاكاة أساليب الشرع في سرعة التلون والتأقلم مع المراحل.
ويمثل هذا التصور الذي تمعن جماعة الإخوان في إبرازه للحاق بالمشروع الذي أُعيد تشغيل ماكينته تحديًا للأنظمة المستهدفة بالعزل والساحات المُراد إجراء تغيير فيها، وفقًا لحسابات المحور الجديد النافذ ويضم الولايات المتحدة وإسرائيل، فضلا على تركيا.
ولا يتعمد الرئيس التركي التصريح كما كان في الماضي بمشروع التمدد تحت عنوان “العثمانيون الجدد”، لكنه بلا جدال سعيد بترويج الإسلاميين له على وقع الحدث السوري الهائل، وتثير تسميته (فاتح سوريا) شهيته للمزيد من (الفتوحات) المُؤجلة، عبر صراع يبدو أنه لم يُحسم في جولة واحدة وأن حسمه يقتضي خوض العديد من الجولات الإضافية.
واستدعى حديث ابن القرضاوي عن توجه السيناريو السوري إلى ليبيا التذكير بالمبالغات التي تصل إلى حد الأساطير بشأن مزاعم تحلي الرئيس التركي بذكاء خارق وأنه يمسك بخيوط اللعبة الإقليمية، وإذا فشل في تحقيق هدف ما لا يصح النظر إليه من زاوية الإخفاق،ولا بد أن تكون هناك مناورة وترتيبات لمكاسب مستقبلية قد لا يراها غيره.
وكما رفض أردوغان سحب البساط من تحت أقدام التمرد المهزوم بعد التدخل الروسي، مُصممًا على الاحتفاظ بجيب صغير في شمال غرب سوريا، حيث افترض الأسد والرئيس فلاديمير بوتين أن هؤلاء الرجال لا أهمية لهم وسرعان ما سيطويهم النسيان، ليتضح أن تلك الحاضنة ليست سوى المركز الذي انطلقت منه هيئة تحرير الشام لإسقاط حكم بشار الأسد والاستيلاء على السلطة، ومن الوارد أن يكون التمركز في غرب ليبيا لهدف مؤجل مشابه.
وأصبح مشروع التمكين للإسلاميين بيد الإسلام السياسي المسلح برعاية تركيا وأقرب أجنحة القاعدة المحلي ترشيحًا لتكرار إنجاز هيئة تحرير الشام في سوريا، هم فرع الإخوان في ليبيا، الذي ينتظر توفر الظروف الملائمة ليتحرك عسكريًا شرقًا لتوحيد البلاد تحت سيطرته.
وتُعيد هذه التطورات النظر في تفسير أبعاد وقائع سابقة في المشهد المصري، لأن تمركز الجهاديين في منطقة سيناء بعد عزل جماعة الإخوان في هذه الحالة لن يكون كما كان يُعتقد مجرد تمرد محدود لاستقطاع سيناء أو جزء منها والانفصال بها عن الدولة.
ويُنظر إلى التموضع في سيناء من واقع سياقات الخطة الماكرة التي نفذها الرئيس التركي والجهاديون في سوريا، استنادًا إلى الاستثمار الناجح لاستمرار سلطة تنظيم القاعدة المحلي في جزء من جغرافية الدولة، حيث لا يلبث طويلًا قبل أن ينطلق للسيطرة على كامل الدولة بعد الإعداد الذاتي وتوفير الظروف الملائمة.
وإذا كانت مصر بقوة جيشها ومؤسساتها وتلاحم الشعب مع القيادة السياسية قادرة على إحباط محاولات إعادة إنتاج حكم الإسلام السياسي على يد جناحه المسلح، فإن مخطط حصارها بنماذج حكم للإسلاميين والتكفيريين مستندة إلى قوة السلاح من شأنها أن تشكل ضغوطًا عليها عبر إضعاف نفوذها الإقليمي وملء الفضاء الحيوي بخصوم أيديولوجيين، خاصة أن الإسلاميين السودانيين الهاربين إلى تركيا، ومنهم عبدالحي يوسف، قابلوا أيضًا التغييرات في سوريا بحفاوة كبيرة.
ومن الوارد أن ترتد هذه المخططات على تركيا بشكل أكثر شدة وقسوة من ارتدادات فشل جماعة الإخوان وعزلها عن السلطة، ما يعني أنها كانت في غنى عن معاودة المغامرات المحكوم عليها بالفشل وعليها أن تبتعد عن الجهاديين وسمعتهم المُلوثة، وتبني في اتجاه ما حققته من تقارب مع بعض الدول العربية.
واستفاد الرئيس التركي من تفكك الجيش السوري وضرب إسرائيل لما تبقى من بنيته العسكرية لتفادي سيناريو عزل الإخوان في مصر بدعم من الجيش، لكن السلاح الخفيف الذي خلّفه الجيش السوري ذهب إلى أيدي العامة من مختلف الطوائف والانتماءات، ما يزيد من احتمال نشوب صراع على السلطة بين الفصائل، وربما الانزلاق إلى اقتتال وحرب أهلية.
وإذا حققت تركيا بعض أهدافها التقليدية المعروفة في سوريا من خلال التمكين للجهاديين ستكون عرضة للخسارة في ملفات أخرى، فقد تفقد دورها كجسر رابط بين العالم الإسلامي والقيم الغربية الديمقراطية بدعم الانفراد بالسلطة عبر حكم شمولي وتأميم الحريات والعصف بالمعارضة السياسية. ولم تتعلم تركيا من التجربة الإيرانية المريرة، فسبب الكارثة التي حلت بطهران هو تدخلها من خلال وكلاء وميليشيات بالداخل العربي، إذ أن مرد الأزمات الإيرانية يعود إلى تدخل في الشؤون الداخلية العربية.
ولن تلبث تركيا طويلًا قبل أن يتم تلقينها الدرس الثاني خلال عقد عبر التحالف مع جماعات تفكر بعقلية القرون الوسطى، بينما الشعوب تواقة إلى الحرية والديمقراطية والانفتاح والتعددية والرفاهية والمساواة. ويؤدي عدم تعلم درس إيران والانخراط بطبعة سنية من الأذرع والميليشيات الموالية بالعمق العربي إلى مفاقمة المشاكل لدى تركيا، فلن تنقل أنقرة ساعتها المزيد من (الفاتحين) وقد تصبح سفنها محملة بلاجئين وإرهابيين.
العرب