الإخوان المسلمون في الغرب (1): المنفى والدعوة والسياسة

الإخوان المسلمون في الغرب (1): المنفى والدعوة والسياسة

الإخوان المسلمون في الغرب (1): المنفى والدعوة والسياسة


17/11/2024

يسعى لورينزو فيدينو، وهو أكاديميّ وخبير أمنيّ إيطاليّ مختصّ في الإسلامويّة والعنف السّياسيّ في أوروبا وأميركا الشّماليّة، في دراسته المطوّلة "الإخوان المسلمون في الغرب: التطوّر والسّياسات الغربيّة" (شباط/فبراير 2011)، إلى تقديم نظرة عامّة على هذه الجّماعة المثيرة للجدل والنقاشات المحيطة بها، متناولاً تاريخ وتطور وطرق عمل وأهداف فروعها في الغرب.

وتعدّ هذه الدّراسة تلخيصاً لبعض الأجزاء التي وردت في كتاب فيدينو الأخير "الإخوان المسلمون الجدد في الغرب"، الذي نشرته مطبعة جامعة كولومبيا في عام 2010. وهو زميل الآن لدى مؤسّسة راند للأبحاث والتّنمية في واشنطن العاصمة.

المنفى يتحوّل إلى وطن

يمكن أخذ عقدي الخمسينيّات والسّتينيّات بوصفهما الّلحظة التّأسيسيّة لوجود جماعة الإخوان المسلمين في أوروبا وأمريكا الشّماليّة. ففي تلك الفترة، كما يشير فيدينو، هاجر إلى الغرب عدد من المنتسبين إلى الفرع الأمّ للجماعة في مصر، مثل سعيد رمضان، صهر مؤسّس الجماعة حسن البنا ووالد الأكاديميّ الإسلامويّ طارق رمضان، ويوسف ندا، القياديّ الإخوانيّ الذي اتّهمته حكومة بوش لاحقاً بـ"تمويل الإرهاب". وكانت هجرة هؤلاء إلى جانب آخرين سببها الحملة الضّارية التي شنّها الرئيس المصري الراحل، جمال عبد الناصر، على إخوان مصر.

وفيما يخصّ طبيعة هؤلاء الذين هاجروا، يُلاحِظ الكاتب أن غالبيتهم كانوا من المتعلّمين والمدينيّين وأبناء الطّبقات الوسطى والطّلاب، الّذين احتكّوا بالإخوان بشكل أو بآخر في بلدهم الأصليّ أو كانوا بالفعل أعضاء منتظمين.

يمكن أخذ عقدي الخمسينيّات والسّتينيّات بوصفهما الّلحظة التّأسيسيّة لوجود جماعة الإخوان بأوروبا وأمريكا الشّماليّة

في هذه الأثناء، كانت الجالية المسلمة في أوروبا وأمريكا الشّماليّة في حالة عوز فيما يتعلّق بدور العبادة والمؤسّسات المعنيّة بالأنشطة الدّينيّة، وقد أخذ الأعضاء من ذوي الخبرة والمتحمّسين على عاتقهم مهمّة شغل هذا الفراغ. فأسّسوا، مستثمرين الحريّات التي تتيحها القوانين الغربيّة في هذا الصّدد، مساجد وزوايا ونشروا مجلّات وعقدوا ندوات تروّج لتصوّرهم للإسلام. وقاموا بإشباع العاطفة والاحتياجات الدّينيّة لدى الجّاليات المسلمة المتزايدة. وفيما بعد، أنشأوا مراكز أبحاث ومدارس ومؤسّسات تعليميّة.

وبهذا، تحوّل الغرب من مجرّد منفى مؤقت وملاذ عابر إلى وطن وحياة جديدين. وصارت جماعة الإخوان المسلمين، كما يؤكّد الكاتب، الأكثر نفوذًا من النّاحية السّياسيّة، والأقوى صِلة من بين كافّة التّنظيمات الإسلامويّة الأخرى بالنُخَب الغربيّة، في العقود الأخيرة.

 

 

أسس أيديولوجيّة جديدة

هذا التّحوّل كان من الضروريّ أن يصحبه تحوّل مماثل في الرّؤية الأيديولوجيّة. ففيما كانت قلوب روّاد الإخوان، في الخمسينيّات، ما تزال في بلدانهم الأصليّة، التي اعتقدوا أنّهم سيقومون بالعودة إليها يوماً ما لتأسيس حلم الدّولة الإسلاميّة، إلّا أنّ بعضهم قرّر التّعاطي مع الواقع الجديد من منظور مختلف. إنّ التّصنيف القديم الّذي يضع البلدان الغربيّة ضمن "دار الحرب"، ويضع بلدان المَولِد ضمن "دار الإسلام"، لم يعد صَالحَاً بالنّسبة إليهم.

صحيحٌ أنّ الغرب لا يمكن أن يصنّف داراً للإسلام، بما أنّ الشّريعة لا تُطبّق هناك، لكنّه لا يمكن أيضاً، كما رأى، أن يصنّف داراً للحرب؛ لأنّ المسلمين يُسمح لهم بممارسة دينهم بحريّة ولا يجري اضطّهادهم. ومن هنا، ظهرت الحاجة إلى مفهوم تصنيفيّ جديد يكسر هذه الثّنائيّة الضّدّيّة، هو "دار الدّعوة"، حيث يعيش المسلمون كأقلّية -وهو الوضع الّذي سيسهم لاحقاً في ظهور مفهوم "فقه الأقليّات" على يد علماء الحركة الإسلامويّة والمتأثّرين بخِطَابهم- ويتم احترامهم ويجب عليهم دعوة الآخرين بشكل سلميّ إلى الإسلام.

في السّبعينيّات والثّمانينيّات اعتنقت شبكات الإخوان بالغرب الرّؤية الّتي روّج لها إخوان مصر خلال حكم السّادات ومبارك

وفي السّبعينيّات والثّمانينيّات، اعتنقت شبكات الإخوان المسلمين في الغرب بشكل ما الرّؤية الّتي روّج لها إخوان مصر في سني حكم الرّئيسين السّادات ومبارك والّتي تقوم على التوسّع التّدريجيّ والمشاركة البطيئة، عوضاً عن الصدام الّذي لم يفض إلى شيء أيّام عبد النّاصر. ففي السّياق الغربيّ، وعلى عكس السّلفيّين، كما يُلاحِظ فيدينو، لم يقم الإخوان بتشجيع المسلمين على الانعزال عن المجتمعات الغربيّة للحفاظ على هويّتهم، وإنّما حثّوهم على الاحتكاك، وعلى حدّ تعبير القياديّ الرّوحيّ للإخوان المسلمين في العالم، يوسف القرضاويّ، للجّاليات المسلمة: "كونوا محافظين بلا انعزال، ومنفتحين بلا ذوبان".

لكن مع التّأكيد على حقيقة وصول مفاهيم وأُطُر وقضايا الإخوان إلى الجّاليّات المسلمة في الغرب، فإنّ غالبية النّسيج الاجتماعيّ للمسلمين في أوروبا وأميركا الشّماليّة، كما يؤكّد الكاتب، يقاوِم بنشاط نفوذ هذه الجّماعة أو يرفضه ببساطة.

من تمثيل المسلمين إلى التّأثير في السّياسات

بالرّغم من انعدام وجود صيغة رسميّة للإخوان المسلمين في الغرب؛ حيث ما من مؤسّسة واحدة مسجّلة رسمياً بهذا الاسم، إلّا أنّه في كافّة البلدان الغربيّة، وفقاً للكاتب، هناك منظّمات وشبكات لديها صِلات تاريخيّة وماليّة ومؤسّسيّة وشخصيّة وأيديولوجيّة بالإخوان المسلمين، وجماعات "صحويّة" أخرى لها وجود عالميّ من قبيل "الجماعة الإسلاميّة" الّتي تستهدف مسلمي جنوب آسيا وحركة "مللي غوروش" الّتي تستهدف المسلمين الأتراك.

واليوم، عندما تحاول الحكومات أو وسائل الإعلام الغربيّة التّواصل مع الجّاليات المسلمة، فإنّ المؤسّسات أو الأفراد الّذين ينشطون لتمثيل هذه الجّاليات والتحدّث باسمها هم، وفقاً للكاتب، ضمن شبكة الإخوان المسلمين في الغرب. وبالتّالي، يحاول هؤلاء النشاط دائماً في عمليّات تعيين الأئمة في المؤسّسات العامّة مثل؛ الجيش والشرطة والسّجون، بل الانخراط والتّحكم في كافّة النّشاطات الاجتماعيّة والتّعليميّة والدّينية والرّياضّية للجاليات المسلمة .

تلعب الصِلات الشّخصيّة والصّداقات والارتباطات العائلية وعلاقات العمل أدوراً مهمّة في إبقاء الإخوان بالغرب متماسكين ومتوحّدين

وتلعب الصِلات الشّخصيّة والصّداقات والارتباطات العائلية وعلاقات العمل، فضلاً عن الرؤية المشتركة، أدوراً مهمّة في إبقاء الإخوان المسلمين في الغرب متماسكين ومتوحّدين. كما تسمح المرونة والاستقلاليّة النّسبيّة في التحرّك على الأرض الّتي تُعطَى للمجموعات في كلّ بلد، مع التّشارك في المبادئ والأهداف، بسهولة التوّسع والتّمدّد واكتساب الأتباع.

وفي نهاية المطاف، يتمثّل هدف هذه الشّبكة في التّأثير على صُنّاع القرار الغربيّين في كافّة القضايا المتعلّقة بالإسلام، والسّياسات المحليّة للأقلّية المسلمة، والأهم من ذلك السّياسات الخارجيّة للحكومات الغربيّة. ويرى الكاتب أن القرضاويّ من أهم المنظّرين لفكرة دعم الإخوان لأجندتهم الإسلامويّة من خلال مسارات السّياسة الغربيّة.

 

 

استجابة الحكومات الغربيّة

تنوّعت مواقف الحكومات الأوروبيّة والأمريكيّة من الإخوان المسلمين، بين النظر إليهم كأصدقاء محتملين وأعداء مخادعين وشيء ما بين بين. وكما يلخّص الأمر أحد المسؤولين الأمريكيّين: "قدمٌ في عالمنا، وأخرى في العالم المعادي لنا. وإنّه لأمر معقّد بشدّة الوصول إلى طريقة لمعرفة الجّيّد من السّيئ من المشبوه في ذلك". ويؤكّد الكاتب على تعقيد وتباين السّياسات الغربيّة تجاه الإخوان المسلمين، واصفاً إيّاها بشكل عام بالسياسات التي تعاني من حالة انفصام.

ويقسّم فيدينو المحلّلين الغربيّين في تعاطيهم مع الإخوان إلى نوعين؛ متفائلين ومتشائمين. يجادل المتفائلون بأنّ إخوان الغرب لم يعودوا مشغولين بتأسيس دولة إسلاميّة في العالم الإسلاميّ، وإنّما يركّزون على القضايا الاجتماعيّة والسّياسيّة التي تهمّ المسلمين في الغرب، والدّفاع عن مصالح الجاليات المسلمة ودفعها للاندماج في المجتمعات الغربيّة، وتقديم نموذج معتدل يوازن بين الهويّة الإسلاميّة والعيش في مجتمع غربيّ، وأنّهم ضدّ التّطرّف والعنف.

يجادل المتشائمون بأنّ إخوان الغرب يعملون على مشروع هندسة اجتماعيّة يسير ببطء ولكن بإصرار ويهدف إلى أسلمة السّكان

ومن ناحية أخرى، يجادل المتشائمون بأنّ إخوان الغرب يعملون على مشروع هندسة اجتماعيّة يسير ببطء ولكن بإصرار ويهدف إلى أسلمة السّكان المسلمين في الغرب والتّباري مع الحكومات الغربيّة في كسب ولائهم. ويتّهم هؤلاء الإخوانَ بادّعاء الاعتدال ولعب دور حصان طروادة لزعزعة المجتمعات الغربيّة وإضعافها بهدف تطبيق النّظام الإسلاميّ، وأنّ نهجهم التدريجيّ وانخراطهم ضمن الإطار العام للدّيمقراطيّة الغربيّة ليس أكثر من حسابات تكتيكيّة أو حرب باردة ينتهجها الإخوان؛ لأنهم في لحظة ضعف، وليس أمامهم إلّا صداقة المؤسّسات الغربيّة من أجل تنفيذ أجندتهم، بما أنّ النّهج الجّهاديّ لم يكسب تنظيم القاعدة مثلًا أي شئ.

ويشير المتشائمون إلى التّناقض الموجود بين خطاب الإخوان المسلمين إلى الغرب وخطابهم إلى الشّعوب الإسلاميّة؛ ففي حواراتهم مع المسؤولين ووسائل الإعلام الغربيّة يؤكّدون على قِيَم الدّيمقراطيّة والاندماج، ولكن عندما يتحدّثون بالعربيّة أو الأرديّة أو التّركيّة يستخدمون خطاب "نحن وهم" المعادي للاندماج والتّسامح. وفيما يتحدّث الإخوان عبر القنوات التّلفزيونيّة في الغرب عن الحوار بين الأديان والاندماج في المجتمعات الغربيّة، فإنّهم يتحدّثون في مساجدهم عن شرور المجتمعات الغربيّة. وفيما يقومون بإدانة التّفجيرات الانتحاريّة والعمليّات الإرهابية في بياناتهم الرّسمية، فإنّهم يستمرون في جمع التّبرعات من أجل تمويل جماعات مسلّحة حول العالم. وكما يقول مسؤول غربيّ: "شأنهم شأن أيّ جماعة فاشيّة تسير في طريقها إلى السّلطة، لدى الإخوان طلاقة لسان في استخدام الخطاب الازدواجيّ". وينقل الكاتب عن مسؤولين غربيّين في الأجهزة الأمنيّة في فرنسا وبلجيكا وهولندا مقولات مشابهة.

//0x87h

الصفحة الرئيسية