قلق من تصاعد سياسات الهوية في إندونيسيا

قلق من تصاعد سياسات الهوية في إندونيسيا


10/12/2017

من حالة القِتال في جنوب الفلبين إلى الوعّاظ المتشدّدين الذين يلجأون إلى ماليزيا، تتصاعد الأشكال المُسَيّسة من الإسلام المُحافِظ في جنوب شرق آسيا. وبتشجيع من جانب الحكومات والنُخَب المحلية التي تسعى إلى استقاء الشرعية من التقاليد المحلية، ينتشر الفكر المتطرف بين الشباب في كافة أنحاء الإقْلِيم. لا يبدو الأمر في أي مكان آخر بهذا القدر من الوضوح والإزعاج كما هي الحال في إندونيسيا، الدولة الإسلامية الأكبر في الإقْلِيم والأكثر اكتظاظاً بالسكان؛ حيث تضم 260 مليون نسمة، 87 % منهم من المسلمين السُنّة.
بالرغم من كونها ديمقراطية شابة تمتلك تاريخاً من التسامح الديني تجاه أقليّاتها المسيحية والهندوسية، اضطرت إندونيسيا إلى شن معركة طويلة ضد المُقاتلين الإسلامويين السُنّة. بعد أن قامت وحدة مكافحة الإرهاب الإندونيسية، الكتيبة 88، بتفكيك الجماعة الإسلامية وشبكات أخرى محلية تابعة لتنظيم القاعدة بعد تفجيرات بالي عام 2002، تَبِع ذلك فترة من الهدوء النسبي. لكن الصراع اشتعل مرة أخرى في الأعوام الأخيرة بفضل نُفُوذ تنظيم "داعش"، الذي حَفَز كثير من المقاتلين في جنوب شرق آسيا للعودة إلى العنف.

تضم إندونيسيا 260 مليون نسمة، 87 % منهم من المسلمين السُنّة.

وكان مقاتلون إندونيسيون قد حاربوا في سوريا وأيضاً في صَف محاربين فلبينيين في جزيرة مينداناو الفلبينية الجنوبية، بعد أن دعاهم إلى هناك إيسنيلون هابيلون، الذي كان وَقْتَئِذ أميراً لداعش في جنوب شرق آسيا (وقد قُتِل مؤخراً في قِتال من أجل السيطرة على مدينة مراوي الفلبينية). لكن المقاتلين النشطين يشكلون جزءاً صغيراً فقط من تيّار أكبر للمُحافَظة الدينية المتصاعدة في إندونيسيا يُقْلِق السلطات هناك، التي ترى فيه تهديداً للأيديولوجيا العلمانية المؤسّسة للبلاد، "البانشاسيلا". وكان الرئيس جوكو "جوكوي" ويدودو وحكومته قد حذّرا مرارًا وتكرارًا من النُفُوذ الزّاحف للفكر الإسلامي الراديكالي بين المنظمات الطلابية وفي أنشطة الحرم الجامعي.

20% يؤيدون إقامة خلافة إسلامية
ومخاوفهم كما يبدو تجد تبريراً لها هذا الشهر بعد أن نُشِرت نتائج استطلاع للرأي، ضم أكثر من 4,200 طالب مسلم، قامت به مؤسّسة استطلاعات ألفارا في جاكرتا. وقد توجّه استطلاع المؤسّسة إلى طلاب الجامعات العليا والمدارس الثانوية في جزيرة جاوة، حيث يتجمّع أكثر من نصف سكان إندونيسيا. بشكل مُقْلِق، أظهرت النتائج أنه في حين عارضت الغالبية العظمى من الطلاب المستَطلعين إقامة خلافة إسلامية واستخدام العنف، فإن رأي الأقلية لم يكن ضئيلًا. لقد أيّد 20 % من الطلاب إقامة خلافة إسلامية. وعلاوة على ذلك، أعلن واحد تقريباً من كل أربعة أشخاص أنه على استعداد لشن الجهاد من أجل تحقيق الخلافة.

قامت وحدة مكافحة الإرهاب الإندونيسية، الكتيبة 88، بتفكيك الجماعة الإسلامية وشبكات أخرى محلية تابعة لتنظيم القاعدة

منذ عام 1998 وهناك تكاثُر في الجماعات الإسلاموية الأصولية المتشدّدة، التي كان قد تم قمعها بوحشية في ظل حكم سوهارتو، الديكتاتور العسكري السابق الذي أدار إندونيسيا بقبضة حديدية لمدة 32 عاماً. وبينما اقتصر تنفيذ بعض مواد القانون الجنائي للشريعة الإسلامية حتى الآن على مقاطعة آتشيه الشمالية الغربية المُحافِظة، شهدت مناطق أخرى في إندونيسيا دعوات مماثلة لتطبيق الشريعة على الدولة متعددة الطوائف. تقول الجماعات الطائفية مثل جبهة المدافعين الإسلاميين بشكل علني إنها تعتقد أنه ينبغي السماح فقط للمسلمين بأن يكونوا قادة إندونيسيين. ووجهات نظرهم هذه ليست غير شائعة بين الإندونيسيين المتدينين؛ وَفْقُ "رويترز"، أظهر استطلاع للرأي نُشِر في كانون الأول (ديسمبر) الماضي، من جانب معهد دراسة الإسلام والمجتمع، أن "78 % من أصل 505 معلم ديني في المدارس الحكومية قد أيّدوا تطبيق الشريعة في إندونيسيا. كما أظهر الاستطلاع أن 77 % يؤيدون الجماعات الإسلاموية التي تُدافع عن هذا الهدف".

الرئيس جوكو "جوكوي" ويدودو وحكومته حذّرا مرارًا وتكرارًا من النُفُوذ الزّاحف للفكر الإسلامي الراديكالي بين المنظمات الطلابية

في هذه الأثناء، أفاد صحافيون إندونيسيون يقومون بتغطية مواضيع دينية بأنهم قد استُهدِفوا بالنبذ والمقاطعة والتخويف من جانب راديكاليين مسلمين؛ وأعمال الشغب، التي نظمها إلى حد كبير هؤلاء الراديكاليون أنفسهم، قادت إلى عمليات قتل خلال الأعوام الأخيرة، حيث استغلّ "الإسلاميون غير الليبراليين" الحريات الديمقراطية من أجل زيادة قوتهم. وقد أدى ذلك إلى عمليات تطهير اجتماعي استهدفت تجار مخدرات مَزْعومين، ورِدّة مُحافِظة ضد الأقليات الجنسية والنساء. وخلال الاحتجاجات الجماهيرية في شوارع العاصمة جاكرتا العام الماضي، نجحت جبهة المدافعين الإسلاميين وحلفاؤها في عرقلة عملية إعادة انتخاب الحاكم باسوكي تايجا بورناما، وهو سياسي مسيحي معروف شعبيًا باسم أهوك. وبفضل نُفُوذهم، سُجن هذا الحاكم السابق، وهو صيني الإثنية وحليف للرئيس جوكوي، في وقت سابق من هذا العام بدعوى التجديف في حكم قضائي تعرض لنقد كثير واعتُبِر على نطاق واسع تبيشراً بعهد جديد من التعصّب الديني.
وقد ردت الحكومة الوطنية بالإعلان عن اتخاذ إجراءات قانونية ضد بعض الجماعات الإسلاموية المسؤولة عن تنظيم الاحتجاجات. وكان هناك هدف رسمي خصوصي هو الفرع الإندونيسي لحزب التحرير، وهو حركة سياسية إسلامية وحدوية شديدة المُحافَظة ترفض الحكم الديمقراطي لصالح دولة إسلامية وحدوية بين الدول ذات الأغلبية المسلمة. وتُحاجج الجماعة بأن هذه الدولة ينبغي أن تُقام بالقوة إذا لزم الأمر. وكان وجود حزب التحرير مقبولًا من جانب الحكومة حتى الآن، على الرغم من رفضه العلني لأيديولوجيا التنوع والتعددية الدينية في إندونيسيا، البانشاسيلا. لكن ذلك تغيّر بعد مصادقة البرلمان الإندونيسي على مرسوم رئاسي يحظر أي منظمات مدنية تُعتَبر ضد البانشاسيلا. ومن ثمَّ كان حزب التحرير الإندونيسي أول جماعة يستهدفها المرسوم الجديد. والحزب يرفع حاليًا دعوى للطعن في حظره لدى المحكمة، وهناك مخاوف حتى بين أعداء هذه الجماعة مفادها أن المرسوم الذي يمكّن الحكومة الإندونيسية من حل المنظمات المنشقة، حتى بدون أمر قضائي مسبق، يعدّ خطوة مبالغ فيها بالنسبة إلى بلد ديمقراطي.

أيّد 20 % من الطلاب إقامة خلافة إسلامية، وأعلن واحد من كل أربعة أشخاص أنه على استعداد للجهاد من أجل تحقيق الخلافة

وتسعى الحكومة أيضاً إلى الوصول إلى جيل الألفية في إندونيسيا والجيل الذي يليه، "الجيل زد"، اللذين يتواجد أعضاؤهما الأكبر سناً حالياً في المدارس الثانوية. وقد قام جوكوي بجولة في العديد من المدارس الداخلية الإسلامية في كافة أنحاء البلاد، مؤكداً على أهمية التنوع في إندونيسيا والحاجة إلى الوحدة الوطنية. كما قال الرئيس في مؤتمر وطني لرؤساء الجامعات إنه من الضروري تعزيز الأيديولوجيا العلمانية في البلاد بشكل أكبر في المؤسسات التعليمية. وحالياً تبحث وحدة عمل رئاسية تعمل على تنفيذ أيديولوجيا الدولة، البانشاسيلا، عن سُبُل "للقضاء على الراديكالية من خلال الوحدة الوطنية"، وَفْقَ أحد أعضائها من الوزراء. غير أن انتشار المذاهب المتعصّبة داخل الإسلام الإندونيسي في الأعوام الأخيرة قد سلّط الضوء على القوى التي تعمل على تشكيل وجهات النظر العالمية [:نظرتهم للعالم] للأجيال الشابة من الإندونيسيين الذين هم الآن في سن المراهقة والعشرينيات.

لوم وسائل التواصل الاجتماعي

وكما هو الحال في أماكن أخرى، يجري إلقاء اللوم على وسائل التواصل الاجتماعي وانتشار "الأخبار المزيفة" فيما يخص زيادة النمط الإندونيسي لـ "سياسات الهوية". وهو الأمر الذي يمكن أن يعني شيئًا آخر عند الإندونيسيين، بخلاف الغربيين الذين يربطون هذا المصطلح بحملات تقوم بها الجماعات المَحْرومة من أجل إصلاحات اجتماعية. في سياق الشؤون الإندونيسية، أصبح الأمر يتعلق بالتمييز على أساس الدين والإثنية من جانب أعضاء الأغلبية المسلمة من السكان الأصليين وضدهم. ولا يزال يُنظَر إلى نداءات الهوية في إندونيسيا من خلال منظور الكولونيالية الهولندية، الذي قسّم التنوع السكاني في الأرخبيل إلى تصنيف عرقي ثلاثي المستويات: الأوروبيون في الأعلى، و"الشرقيون الأجانب" في المنتصف، وكل أحد آخر في الجزء السفلي؛ "البريبومي" أو السكان الأصليين. وفي دولة ذات أغلبية مسلمة، جزء من تعريف الشخص لنفسه على أنه "بريبومي" يعني الالتزام بقوة بالمعايير الإسلامية، التي تأثرت هي نفسها بالأشكال البيوريتانية [:المتشددة] للإسلام، التي يتم تصديرها من الشرق الأوسط منذ الثمانينيات.

ردت الحكومة الوطنية بالإعلان عن اتخاذ إجراءات قانونية ضد بعض الجماعات الإسلاموية المسؤولة عن تنظيم الاحتجاجات

بالتالي، فإن مطالب السياسيين الذين يدّعون تمثيل الإندونيسيين "الحقيقيين" غالباً ما تخلط المشاعر المؤيّدة للإسلام بتلميحات حول الفجوة الاقتصادية بين مختلف الأعراق والأديان في إندونيسيا (مثل ما يُنظَر إليه على أنه تزايد في رخاء الأقلية الصينية الإندونيسية - وأكثرها  أيضًا من المسيحيين). وهكذا، فإن النداءات السياسية إلى التحيّز الديني والعرقي يمكن أن تكون في الواقع بمثابة منبر للمطالبة بإدخال تمييز إيجابي لصالح الإندونيسيين "الأصليين" (الذين يميلون إلى أن يكون لديهم خلفية سُنّية إسلامية) على غرار سياسات "بوميبوتيرا" المشكوك في فعاليتها في ماليزيا المجاورة.
إن الراديكالية الدينية على ما يبدو تسير يدًا بيد مع الخوف من الخسائر الاقتصادية التي قد يسبّبها العمّال الأجانب وغير المسلمين. وَفْقَ دراسة حديثة أجراها مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية في جاكرتا، يُظهر الشباب في إندونيسيا ميلًا قويًا إلى كراهية الأجانب. وقد خَلُص الاستطلاع إلى أن 77.7 % من الإندونيسيين الذين تتراوح أعمارهم بين 17 و29 عاماً يعتقدون أن العمّال الأجانب أضرّوا بشكل سلبي باقتصاد إندونيسيا وسلبوا وظائف السكان المحليين. يأتي هذا على الرغم من أن إندونيسيا تمتلك عدداً أقل من العمّال الأجانب مقارنة بجيرانها في سنغافورة وماليزيا وتايلاند، كما تتمتع حالياً بفترة من النمو الاقتصادي الجيد.

معالجة الروابط بين التطرف الديني وكراهية الأجانب والفقر ستكون أصعب من قمع الجهادية العنيفة

في معرض الحديث عن مدى ما يمكن أن تكون عليه الاختلافات العرقية والدينية من اختلاط، ذكر أحد المراسلين الماليزيين، الذي شهد مؤخرًا خطاب أداء اليمين لمُحافِظ جاكرتا أنيس باسويدان، رؤية لافتات تحتفل بانتصار ما يسمى بمسلمي "البريبومي". لقد استخدم الحاكم الجديد تلك الكلمة في خطابه كاستفزاز للمرشّح أهوك صيني الأثنية، لكن أنيس غير البريبيومي (الذي هو من أصل عربي، على الرغم من ببغائية شعارات الأصلانية) يدين بانتصاره إلى حد كبير لجماعات مثل جبهة المدافعين الإسلاميين وحزب التحرير الإندونيسي الذي حشد الإندونيسيين العاديين حول مفاهيم إسلامية، وليس مفاهيم عرقية. إن معالجة الروابط بين التطرف الديني وكراهية الأجانب والفقر ستكون أصعب من قمع الجهادية العنيفة، التي هي دائماً أقلية داخل الأقلية. ومن المؤمّل أن تُحتوى الراديكالية الدينية التي تُقْلِق الزعماء الإندونيسيين من قِبل المؤسسة التعليمية للبلاد قبل أن يتمكن المتسللون المتطرفون من الوصول إلى مواقع النُفُوذ في أماكن أخرى (الإجراء العملياتي المعتاد لجماعات مثل حزب التحرير). على أنّ معالجة المخاوف الاقتصادية والثقافية الناجمة عن التغيرات الاجتماعية السريعة لن تكون شديدة السهولة.

المصدر: نيل طومسون -ذي ديبلومات- نشر بتاريخ 17 تشرين الثاني/نوفمبر 2017


آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية