
أجرى الحوار: رامي شفيق
بينما تبدو العاصمة طرابلس ومدن الغرب الليبي مرة أخرى داخل متاهات من السيولة الميدانية بين الكتائب المسلحة، يزداد الشعور بأنّ الدولة باتت غائبة فعليًا، وأنّ السلاح صار الصوت الوحيد في مشهد سياسي معقد ومضطرب.
في ظل هذا الاضطراب الميداني والسياسي، يبرز دور حكومة عبد الحميد الدبيبة وعلاقتها بالكتائب المسلحة وتيار دار الإفتاء نحو هذا الوضع، ومدى تماهي ذلك الوضع مع ممارسات توظيف الدين في الشأن السياسي من قبل بعض المؤسسات، وعلى رأسها دار الإفتاء، في صراع النفوذ والشرعية.
في هذا السياق، كان لـ (حفريات) هذا الحوار مع الحقوقي الليبي عصام التاجوري، الذي لا يتردد في توصيف الوضع بالقول:
"نحن أمام حالة تفكك ممنهج لمفهوم الدولة، تُدار برعاية حكومة أمر واقع تشتري الولاءات وتستثمر في الفوضى."
ويضيف مُحذرًا: "ما تقوم به دار الإفتاء المنحلة لم يعد مجرد اجتهاد ديني، بل هو انخراط مباشر في مشروع سياسي يُستخدم فيه الدين كسلاح ناعم ضد الخصوم."
من خلال هذا الحوار تناقش (حفريات) مع المحامي والحقوقي الليبي عصام التاجوري ملامح الانهيار في بنية الدولة، وتداعيات التحالف بين السياسي والديني، وسيناريوهات المستقبل في ظل غياب الإرادة الوطنية الجامعة، وتشتبك معه حول سؤال مركزي كيف ينبغي أن تكون استعادة المسار المدني والديمقراطي الليبي في مواجهة تحالف الإسلام السياسي والسلاح؟
نص الحوار
بدت طرابلس ومدن الغرب الليبي في لحظة فارقة ودالّة، حين تصارعت بعض الكتائب المسلحة برعاية حكومة عبد الحميد الدبيبة. إلى أيّ حد يبدو ذلك المشهد قاتمًا وغير قابل للحل؟
المشهد في طرابلس وغيرها من مدن الغرب الليبي ما عاد يحتمل التجميل ولا التبرير.
ما نشهده، خاصة خلال الفترة الأخيرة، من استدامة استخدام السلاح وترويع المواطنين وتكرار حالة الاشتباكات بين الكتائب المسلحة في الشوارع والميادين وداخل الأحياء السكنية، دون مراعاة لحياة المدنيين وممتلكاتهم، هو تفكك فعلي لمفهوم الدولة، تحت رعاية "حكومة أمر واقع" تستخدم المال العام لشراء الولاءات وتمكين شبكات السلاح.
التصارع بين الكتائب ليس مشهدًا عابرًا، بل هو مؤشر دالّ وحقيقي على غياب سلطة مركزية حقيقية، وعلى أنّ العنف صار مكسبًا وأداة تفاوض.
هذه القتامة ليست فقط في الدماء، بل في الرسالة: لا حلول في الأفق ما لم يُكسر هذا النسق الفاسد القائم على الميليشيات، والفساد، والابتزاز المسلح. والانتصار يكون لمفهوم الدولة ذات السيادة، وحصر السلاح بيدها، وقدرتها على تنفيذ القانون وبسط الأمن لصالح الجميع.
من جهة أخرى ذات صلة؛ إلى أيّ مدى ترى أنّ خطاب المفتي الصادق الغرياني، ومؤسسات الإفتاء التابعة له، انخرطت في تبنّي مواقف سياسية داعمة لحكومة الدبيبة تحت غطاء ديني؟
دعني أؤكد على شيء راسخ وثابت في تقديري، وهو كون المفتي الصادق الغرياني المعزول ومن معه قد تجاوزوا دورهم كمؤسسة دينية، وانخرطوا في مشروع سياسي بلباس شرعي.
يمكنك أن تلاحظ، وبسهولة، كيف أصبحت الفتاوى أدوات تعبئة وظيفية، والدين صار غطاءً لتحالفات مرحلية، تخدم بقاء عبد الحميد الدبيبة وسلطته، لا مصلحة الناس.
صار الخطاب الديني وسيلة لشرعنة سلطات الأمر الواقع، وتكفير الخصوم، وتشويه كل مسار بديل، ولو كان سلميًا أو مدنيًا.
للأسف، هذا تحالف سيّئ السمعة استدام طيلة الأعوام الأخيرة.
هل ترى أنّ هناك تحوّلًا نوعيًّا في طريقة توظيف الدين من قبل تيار دار الإفتاء؟
الأهداف واحدة، والأساليب تتغيّر تبعًا للسلطة وطبيعة المرحلة.
إذًا، هل ما نشهده اليوم استمرارية لنهج سابق، أم أنّ الأزمة الأخيرة أفرزت أدوات جديدة في توظيف الفتوى والخطاب الشرعي لتحقيق مكاسب سياسية؟
ـ في رأيي، ما شهدته المنطقة الغربية، والعاصمة طرابلس تحديدًا، خلال الفترة الأخيرة، وحتى التحركات الخشنة بين الكتائب المسلحة وبعضها البعض، يكشف أنّ اللحظة الحالية هي مزيج من الاستمرارية والتطور.
إنّ دار الإفتاء المنحلة، عبر سنوات الأزمة الليبية، توظّف الدين سياسيًّا، بيد أنّ ما جرى مؤخرًا كشف عن تطوّر جديد في هذه الرحلة الطويلة؛ إذ نقل هذا التوظيف إلى مستوى أكثر احترافيةً وتنظيمًا.
تستطيع أن تتابع جيّدًا في هذه المرحلة ملامح التنسيق المباشر مع السلطة التنفيذية، وفي استغلال ممنهج للمنابر والمناسبات الدينية لتوجيه الرأي العام.
لم تعد الفتوى مجرد رأي شرعي، بل أصبحت بيانًا سياسيًّا، يستهدف خصومًا، ويُجيّش قواعد.
برأيك، كيف أسهمت دار الإفتاء في بناء شرعية موازية لحكومة الدبيبة في وجه خصومها السياسيين؟ وهل لعبت الفتوى دورًا في تحييد خصوم الدبيبة أو في تأليب الرأي العام عليهم؟
بكل وضوح، دار الإفتاء المنحلة أسهمت في خلق "شرعية دينية هجينة"، تخدم بقاء الدبيبة، وتشوّه أيّ مشروع مدني وأيّ بديل وطني.
الفتاوى الأخيرة ضد خصوم الدبيبة، سواء كانوا سياسيين أو عسكريين، هي ضرب من التحريض المقنّع، واستهداف مباشر لأيّ صوت يُطالب بالتغيير أو يرفض حكم الميليشيات.
التأليب واضح، خاصة في توقيتات الأزمات، كأنّ دار الإفتاء المنحلة تتحرك وفق نبض مكتب رئاسة الوزراء.
إلى أيّ حد يمكن القول إنّ التحالف بين دار الإفتاء وحكومة الدبيبة هو تحالف سياسي يرتكز على المصالح؟ وكيف يمكن أن يؤثر هذا على المشهد السياسي في ليبيا؟
التحالف بين دار الإفتاء المنحلة والدبيبة تحالف مصلحي بامتياز. فكل طرف يوفر غطاء للآخر: الدبيبة يضمن استمرار المنابر لصالحه، والمفتي المعزول يضمن بقاءه فاعلًا في المشهد، رغم فقدان الكثير من المصداقية.
هذا التحالف يعمّق الانقسام، ويؤسس لحالة من "الشرعية الانتقائية"، التي يُستخدم فيها الدين لقمع الآخر، بدلًا من أن يكون أداة إصلاح وبناء.
استمرار هذا النموذج يقضي على أيّ أمل في حل سياسي جامع.
كيف لنا وضع تصورات واقعية لتجاوز الأزمة السياسية في ليبيا وتعظيم الإطار المدني والديمقراطي؟
المفتاح هو فك الارتباط بين الشرعية والسلاح، وإنهاء حالة الإفلات من العقاب.
لا بدّ من إعادة هندسة العملية السياسية وفق قواعد نزيهة، ومظلة دولية صارمة، تضع حدًّا لاستخدام المال العام وفتاوى الدين في التنافس السياسي.
تعظيم الإطار المدني يبدأ بإعلاء سلطة القانون، وتمكين القضاء، وضمان حياد المؤسسات الدينية، وكسر شوكة الميليشيات.
ما سيناريوهات تشكيل حكومة موحّدة في ليبيا، وإجراء انتخابات سواء رئاسية أو برلمانية، وكتابة الدستور؟
سأكون صريحًا إلى حدّ كبير، وأقول إنّ السيناريوهات الواقعية محدودة، غير أنّها قد تكون ممكنة إذا توفرت الإرادة الدولية، والإرادة السياسية في الداخل:
السيناريو الأول:
ضغوط دولية تقود إلى توافق على حكومة تكنوقراط محايدة، برعاية الأمم المتحدة، مع جدول زمني صارم للانتخابات. وهذا يتطلب آليات وضمانات دولية فعّالة، لا مسارات وعدّة لجان متابعة تنتج لنا إسهالًا من البيانات والتقارير للحفظ.
السيناريو الثاني:
انهيار المنظومة الحالية تحت وطأة الصراع الداخلي، ممّا يفتح الباب لإعادة ترتيب شامل، قد تقوده السلطة التشريعية أو حتى القيادة العامة عبر تحالف مدني-عسكري جديد.
السيناريو الثالث ويمكن وصفه بـ (الأخطر):
استمرار الوضع الحالي، مع بقاء حكومتين، وتكريس الانقسام، ودفع البلاد نحو فوضى مستدامة.
إنّ الرهان الحقيقي في تجاوز الأزمة الليبية وتعقيداتها، ينبغي أن يكون على وعي الشارع، وموقف الكتل المدنية، وقدرة بعض الأطراف الإقليمية والدولية على فرض حل لا يخضع لمزاج أمراء الحرب.