دار الإفتاء الليبية: الذراع الإعلامية والتبريرية لحكومة الدبيبة والمجلس الرئاسي؟

دار الإفتاء الليبية: الذراع الإعلامية والتبريرية لحكومة الدبيبة والمجلس الرئاسي؟

دار الإفتاء الليبية: الذراع الإعلامية والتبريرية لحكومة الدبيبة والمجلس الرئاسي؟


12/05/2025

فيما تمضي ليبيا في عمق التناقضات السياسية والتجاذب بين الفاعلين، على مستوى المؤسسة الواحدة أو بين المؤسسات الموازية، تبرز دار الإفتاء في العاصمة طرابلس بقيادة الصادق الغرياني كفاعل غير تقليدي في الفضاء السياسي الليبي، بعيدًا عن أدوار المؤسسة المعهودة كمصدر للفتوى الدينية، لتتحول ـ وفق ما يراه متابعون ـ إلى منصة دعائية وتبريرية نشطة تصطف بوضوح مع حكومة عبد الحميد الدبيبة والمجلس الرئاسي.

مؤسسة دينية ترفع خطابًا سياسيًا

منذ أعوام اتسمت مؤسسة دار الإفتاء برئاسة الصادق الغرياني، وعبر منصات تابعة لها مثل قناة (التناصح)، بخطاب مباشر يدعم كافة قرارات من تصطف إلى جانبهم، بخطاب متكرر يساند دومًا الحكومة والمجلس الرئاسي.

وقد أصبحت خطب الجمعة، والبيانات الدورية، والمداخلات التلفزيونية التي يتبناها تيار دار الإفتاء ومن يتبعه، تتناول الشأن السياسي المحلي بصورة مباشرة، وغالبًا ما تتقاطع مع رؤى وسياسات وقرارات حكومة الوحدة الوطنية والمجلس الرئاسي، وهو ما بدا واضحًا في أزمة المراسيم الرئاسية، كما ظهر في دعم حكومة الدبيبة عند إصدارها قرار تخفيض البعثات الدبلوماسية.

نظرة نحو تدوينات الصادق الغرياني عبر صفحته الرسمية والموثقة على موقع التواصل الاجتماعي (فيسبوك)، تكشف أنك أمام صفحة سياسي يدعم بشكل واضح توجهًا محددًا، ويستخدم مظاهر الدين وكلماته والمساحة التي يمنحها له موقعه كرجل دين في حديثه مع الجماهير، خاصة عندما يعتمد لغة التجريح ضد المنافسين والخصوم السياسيين.

مفتي ليبيا: الصادق الغرياني

في هذا السياق يقول الباحث الليبي عثمان بركة: "لقد دفعت الأمة الإسلامية ثمناً باهظاً نتيجة خضوع الفتوى لسلطة الحاكم ومؤسساته".

وتابع في سياق تصريحاته لـ (حفريات): "حين يصبح الدين أداة في يد السلطة، ويتحول إلى تدين مؤسسي، يفقد جوهره ويغدو أداة للتحكم والسيطرة، لا للإصلاح والهداية. إنّ أخطر ما في التدين المؤسسي أنّه يُفرغ الدين من محتواه العقلي والروحي، ويستبدل ثقافة "الذهن" بثقافة "الأُذن"، أي التلقي السلبي دون تفكير أو تمحيص، ويخلق بذلك نمطاً من التدين القائم على الطاعة العمياء لا على الإدراك والوعي".

وأشار بركة إلى أنّه منذ القرن الثاني عشر حتى اليوم نعاني من هذا الانحراف الخطير، فقد تم تهميش العقل والتفكير النقدي، وتم فرض وصاية فكرية عبر آليات النقل والاتباع. ومُورس باسم الدين إرهاب فكري وجسدي، تمثّل في تصفية رموز العقل والاجتهاد، كما حدث مع ابن رشد، وتكفير المعتزلة، وفرض هيمنة تيارات كالسلفية الوهابية في القرن الثامن عشر، ثم جماعة الإخوان المسلمين في القرن العشرين.

وبيّن أنّ تدخل الدولة وأجهزتها، بما في ذلك هيئات الإفتاء، أدى إلى إنتاج نموذج من الإنسان المسلم الذي يتبع ما يُملى عليه سمعاً، دون تفعيل العقل أو النقد، وهو ما جعل المجتمعات الإسلامية لقمة سائغة لأيّ شكل من أشكال الاستغلال أو الهيمنة.

وفي هذا السياق، يختتم الباحث الليبي عثمان بركة حديثه لـ (حفريات) بقوله: هكذا، لا يختلف الصادق الغرياني ـ بما يمثله من نموذج للفتوى المسيّسة ـ عن تلك النماذج التي مهّدت الطريق للاستعمار والتدمير الذاتي، باسم الدين. إنّه يذكّرنا بدور الباباوات في العصور الوسطى الذين قادوا شعوبهم إلى الظلام من خلال صكوك الغفران والاحتكار المقدّس للكلمة باسم الرب.

 الباحث الليبي: عثمان بركة

نشاط إعلامي مكثف وموجّه

من خلال منصة تلفزيونية موجهة، ومن خلال لغة الخطاب المستخدم، تبدو قناة (التناصح) ـ التي تُعرف بكونها الذراع الإعلامية غير الرسمية لدار الإفتاء ـ وعبر حساباتها النشطة على منصات التواصل الاجتماعي، تبدو كمصدر لمحتوى يومي يهاجم بشكل ممنهج كل من ينتقد الدبيبة أو يسعى لتغيير خارطة السلطة الحالية.

لذا، نستطيع القول ـ بشكل أو بآخر ـ إنّ ما نتابعه هو توظيف منظم واستثمار فعّال لأهمية الخطاب الديني في خدمة مشروع سياسي محدد، تتم فيه مراكمة الخطاب الديني لحشد التأييد الشعبي وتوجيه الرأي العام.

عبر برنامجه "الإسلام والحياة" على قناة (التناصح) يحشد الصادق الغرياني جملةً من الآراء السياسية التي تدعم غالبًا موقف الحكومة والمجلس الرئاسي، ويوجّه نقدًا شديدًا للقوى الفاعلة في الشرق الليبي.

بمراجعة مضمون حلقة البرنامج في الثلاثين من شهر نيسان (أبريل) الماضي، وجّه الغرياني هجومًا حادًا نحو مجلس النواب في صراعه مع مراسيم المجلس الرئاسي، حين قال:

"برلمان طبرق استنكر المراسيم الرئاسية، وقال عنها خلاف القانون. يقول هذا ووجوده ذاته على خلاف القانون؛ فصلاحيته بمقتضى الاتفاق السياسي الذي أتى به منتهية منذ (10) سنوات، والمجتمع الدولي ينفخ فيه ليضمن استمرار الفوضى في ليبيا."

كما قال في الحلقة نفسها عن الكتائب المسلحة في مناطق الغرب الليبي:

"لا أرضى للكتائب التي كان لها تاريخ مشرّف من النضال ضد القذافي، وفي بركان الغضب، أن تتحول إلى شركات مقاولة تتنافس على نهب المال العام، والالتفاف على العطاء العام، وتعطيل مؤسسات الدولة الرقابية، ومنها ديوان المحاسبة. نريدها أن تبقى كما هي في نفوس الناس، محلّ تقدير واحترام لتاريخها المشرّف."

تيار دار الإفتاء وحكومة الدبيبة... تحالف النفوذ

قال الناشط السياسي عبد الله الغرياني: إنّ دار الإفتاء الليبية، ومن خلال مفتيها المعزول الصادق الغرياني، تلعب دورًا محوريًا في التأزيم السياسي المستمر في ليبيا، وتُستخدم كأداة دعائية لصالح تيارات الإسلام السياسي منذ عقود.

وأوضح عبد الله الغرياني في حديثه لـ (حفريات) أنّ المفتي المعزول لم يكن سوى رجل دين يطلّ عبر شاشة قناة (الليبية) ضمن مشروع "ليبيا الغد" الذي أطلقه سيف الإسلام القذافي، حيث اعتمد الأخير على تحالف مع الإسلاميين في إطار مشروع التوريث. وقد استُضيف الغرياني حينها في برنامج ديني من تقديم أسامة الصلابي، شقيق القيادي الإخواني علي الصلابي.

لكن، مع اندلاع ثورة شباط (فبراير) سارع الصادق الغرياني إلى ركوب موجة التغيير بعد أن حسمت الحركات الإسلامية موقفها، ليُعيَّن مفتيًا للديار الليبية من قِبل مجلس يهيمن عليه أعضاء سابقون في الجماعة الليبية المقاتلة. ومنذ توليه المنصب وظف الغرياني الخطاب الديني لخدمة أجندات الإسلام السياسي، مُطلقًا فتاوى تصب في مصلحة هذه التيارات، ومهاجمًا خصومها ومناهضيها.

ومع انطلاق عمليات الجيش الليبي في بنغازي ودرنة عام 2014 ضد الجماعات الإرهابية، كانت دار الإفتاء أحد أبرز المرجعيات الدينية لهذه الفصائل، بل كانت أحد المصادر الدينية التي شرعت انقلاب "فجر ليبيا"، الذي جاء كردٍّ على خسارة الإسلاميين في انتخابات مجلس النواب.

وأضاف الناشط السياسي عبد الله أنّ دار الإفتاء بقيادة الصادق الغرياني تمارس ضغطًا على أيّ سلطة تحكم طرابلس، بفضل امتلاكها قنوات إعلامية مؤثرة وتغلغلها في أوساط الفصائل المسلحة، لا سيّما عبر دعم شخصيات متورطة في دعم الجماعات الإرهابية الهاربة من بنغازي والجنوب.

وفي السياق الحالي رأى عبد الله الغرياني أنّ حكومة عبد الحميد الدبيبة لم تتردد في استقطاب دعم المفتي الغرياني وتياره بعد اتفاق جنيف، في محاولة لتعويض ضعفها السياسي، مشيرًا إلى أنّ الدبيبة أصبح أحد أبرز أدوات المفتي لترويج خطابه. كما لعب وزير الدولة للاتصال وليد اللافي دورًا محوريًا في هذا التحالف، فيما لجأ الدبيبة إلى تكليف التيار السلفي بإدارة الشؤون الدينية، كنوع من الموازنة مع قوة "الردع" المسلحة بقيادة عبد الرؤوف كارة، المناهضة لدار الإفتاء. بالتساؤل: "لصالح من يُبث هذا الخطاب الديني-السياسي؟"، معتبرًا أنّ الإجابة تكمن في سعي الصادق  الغرياني والدبيبة معًا لإطالة عمر الأزمة، والحفاظ على سلطة الأمر الواقع في طرابلس، في ظل غياب حقيقي لصوت المعارضة واستمرار هيمنة الميليشيات المسلحة.

 الناشط السياسي: عبد الله الغرياني

تساؤلات عن الاستقلالية والشرعية

هذا التداخل والانخراط بين الديني والسياسي يطرح جملة من التساؤلات الواقعية حول مدى استقلالية المؤسسات الدينية، وخاصة دار الإفتاء، وتبيان دورها الحقيقي في الفضاء الليبي، وكيف ينبغي أن يكون موقعها في حال حدوث صراع سياسي؟ وما  الآثار والتداعيات المحتملة حال انحياز المؤسسة الدينية لطرف على حساب آخر؟.

من جانبه، أشار السياسي الليبي توفيق الشهيبي إلى أنّ دار الإفتاء، منذ فترة طويلة، وتحديدًا من خلال المفتي الصادق الغرياني، خرجت عن دورها كدار للإفتاء، وأصبحت أقرب إلى كيان سياسي أو تنظيم ذي طابع سياسي.

وأضاف الشهيبي، في تصريحاته لموقع (حفريات)، أنّ القائمين على دار الإفتاء يُكيّفون الفتاوى الدينية وفق أهوائهم، بما يخدم الطرف الذي يدعمهم أو يقترب منهم أو يحقق لهم منفعة مباشرة.

ولفت البرلماني السابق إلى أنّ دعم دار الإفتاء لحكومة عبد الحميد الدبيبة، رغم علمها بأنّها حكومة فاسدة، وتُعدّ من أسوأ الحكومات في تاريخ ليبيا، يعكس هذا التوجه. وأوضح أنّ سبب هذا الدعم يعود إلى كون الحكومة تلبي رغباتهم، سواء عبر صرف ميزانيات ضخمة لصالحهم، أو من خلال تنفيذ أجندات خاصة، وبالتالي لا يجدون حرجًا في تكييف الفتاوى والبيانات ذات الطابع الديني لصالح الحكومة، في إطار ما وصفه بـ "تبادل المنفعة".

وتابع الشهيبي قائلًا: إنّ الأمر لا يقتصر على استغلال الفتاوى لنصرة طرف دون آخر، بل يتجاوز ذلك إلى المساهمة في تضليل الناس من خلال نشر أخبار مغلوطة أو مبالغ فيها. كما أشار إلى أنّ دار الإفتاء، أو من خلال ذراعها الإعلامية المتمثلة في قناة (التناصح)، تُضخم أحداثًا بعينها لتحويل أنظار الرأي العام عن أداء الحكومة في طرابلس، في حين تُوظف الخطاب الديني لخدمة أهداف سياسية وشخصية.

ووصف الشهيبي هذا النهج بأنّه خطير للغاية، لأنّه يؤدي إلى تآكل ثقة الناس في المؤسسات الدينية، وعلى رأسها دار الإفتاء، معتبرًا أنّ ما يحدث اليوم هو بالفعل بداية لفقدان الثقة في كل من يتولى مناصب دينية حساسة.

وأشار الشهيبي كذلك إلى أنّه في حال تم إجراء استطلاع حول ثقة الليبيين في المفتي ودار الإفتاء، فإنّ النتائج ستُظهر تركز الثقة في مناطق محدودة وصغيرة فقط، بينما غالبية الليبيين فقدوا هذه الثقة منذ زمن. وتساءل: "هل المفتي مطّلع فعلاً على تفاصيل الوضع الليبي، أم أنّه يصدر فتاوى بناءً على ما يُنقل له من المحيطين به؟"، مرجّحًا أنّ حالته الصحية، الجسدية والعقلية، قد لا تساعده على المتابعة المباشرة، ممّا يجعل أداءه رهينًا بما ينقله المحيطون به.

وختم الشهيبي حديثه لـ (حفريات) بالتأكيد على أنّ النقطة الجوهرية تظل في استغلال الفتوى والخطاب الديني في المناكفات السياسية، وهو ما يُفاقم من حالة الاستقطاب والانقسام في ليبيا.




انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات
الصفحة الرئيسية