"حفريات" ترافق مهرّباً تونسياً إلى الحدود الليبية: تفاصيل تكشف تورط "النهضة"

"حفريات" ترافق مهرّباً تونسياً إلى الحدود الليبية: تفاصيل تكشف تورط "النهضة"


24/02/2022

حالة من القلق والخوف باتت تسيطر على الأسر التونسية، بعد فقدان المواد الغذائية الأساسية في الأسواق والمحلات بشكل مفاجئ، وتواتر أخبار إحباط تهريب أطنان منها إلى القطر، يُرجَح أنّ حركة النهضة تحاول خلق أجواء متوترة بين الشعب والرئيس قيس سعيّد الذي نجح في استبعادها من الحكم، خصوصاً مع تأكيدات وزارة التجارة على وفرة الإنتاج والمخزون.

الرئيس سعيّد نفسه أكّد في لقاء له بوزيرَتي المالية والتجارة؛ أنّ إخفاء وتهريب البضائع التونسية الحياتية بفعل فاعل، ولغاية في نفس يعقوب، ومن أجل خلق البلبلة وعدم الثقة بين المواطن والدولة.

مراسلة "حفريات" رافقت مهرّباً تونسياً يهرّب السميد (طحين القمح النقي) والمقرونة (مادة مدعّمة من الدولة) والكسكسي (من طحين القمح أو الذرة يتم إعداده بشكل شبه يومي في المناطق الريفية التونسية) من سيدي بوزيد إلى بن قردان، التابعة لمحافظة مدنين، وتقع جنوب شرق العاصمة بالقرب من معبر رأس جدير بالحدود الليبية.

رحلة تهريب

الساعة تشير إلى الحادية عشرة ليلاً، يخرج (س.ج) من منزله متجهاً إلى معتمدية بئر الحفي (حكم محلي) التابعة لمحافظة سيدي بوزيد (وسط غربي تونس)، بعد سلسلة من الاتصالات الهاتفية، بعد أن ملأ سيارته من الوقود المخزّن لديه بالمنزل، والذي اشتراه من السوق السوداء؛ أي من الوقود المهرّب من الجزائر وليبيا.

من يريد توتير الأوضاع الاجتماعية بتونس؟

 خلال أقل من 10 دقائق يصل إلى المكان المتفق عليه، وراء رحبة السوق (السوق الأسبوعية)، دون مصافحة ولا تبادل كلام؛ لأنّه تم الاتفاق على كلّ شيء عبر الهاتف، يستلم صاحب البضاعة المال، ثم يسمح بتحويل البضاعة إلى السيارة التي ستتجه بها إلى الجنوب التونسي، بالقرب من الحدود الليبية.

العملية لا تستغرق الكثير من الوقت، يجب أن تنتهي خلال دقائق قليلة، حتى لا يتم لفت انتباه أعوان الأمن والحرس، ولا حتى المواطنين، الذين قد يبلّغون عنهم، الكلام نفسه يجب أن يكون همساً حتى لا يُسمع ما يتم الاتفاق حوله، وربما بعض الأمور تُقال بالإشارة.

الرئيس قيس سعيّد نفسه أكّد أنّ إخفاء وتهريب البضائع التونسية الحياتية بفعل فاعل، ولغاية في نفس يعقوب، ومن أجل خلق البلبلة وعدم الثقة بين المواطن والدولة

صاحب البضاعة، والتي تتمثل أساساً في كميات كبيرة من المقرونة والكسكسي والسميد، المفقودين لدى فئة كبيرة من الشعب، جلبها من محافظة القصرين (وسط غرب تونس)، التي لا تبعد كثيراً محافظة سيدي بوزيد، هو يشتريها من بعض المحلات والمصانع هناك، وربما يتفق على جمع بعضها مع أصحاب المحلات التجارية الصغيرة، بأسعار أعلى من ثمنها المحدّد من طرف الدولة.

اقرأ أيضاً: ما لا يقال عن تهريب الأسلحة إلى اليمن

بعد ملء أكياس البضاعة بالصندوق الخلفي للسيارة، يدير (س.ج) المفتاح بخفة كبيرة، مردّداً كلمات غير مفهومة، غالباً أدعية سفر، ربما كي لا تمسكه السلطات، لتبدأ رحلة الطرقات الفرعية، جميعها غير معدّة لتنقل العربات إلا قليلاً، بل يعتمدها السكان لتسهيل تنقل عرباتهم التقليدية، أو لتنقل مواشيهم.

اقرأ أيضاً: الأردن يكشف عدد الجماعات التي تقوم بتهريب المخدرات على الحدود السورية

السرعة في هذه الطرقات تتجاوز إجباراً معدّل المائة، لتصعب المطاردة، أو التثبت في السيارة ومحتواها، الطريق فارغ سوى من ثلاث سيارات، واحدة منها تستقلها مراسلة "حفريات"، التي اكتشفت لاحقاً أنّ سيارتين ترافقانهما، لأنّ مثل هذه السفرات غير آمنة لسيارة واحدة، بل يتم الاتفاق بين اثنتين أو أكثر على الخروج معاً ليلاً، بهذه البضائع.

ويجب أن يبقى أصحاب السيارات الثلاث على اتصال دائم، حول وضعية الطريق وأمنه، كما يجب أن يكونوا على اتصال مستمر مع أصحاب سيارات سبقوهم إلى المنطقة.

مواد مفقودة بتونس تنعش السوق الليبية

بعد حوالي خمس ساعات من الخوف من السرعة الجنونية التي كان يقود بها السيارة، توقف (س .ج) في مدينة بن قردان من محافظة مدنين، نزل من السيارة مسرعاً نحو أحد المستودعات الكبيرة، المخصصة لتجميع البضائع الغذائية وبيعها لاحقاً بالتفصيل، بعد أقل من ثلاث دقائق عاد بالسرعة نفسها إلى السيارة وأنزل كميات المقرونة التي فيها، تسلّم بعدها ثمنها وعاد إلى آخر نقطة بهذه المدينة الصغيرة، لينتظر زملاءه من أجل العودة معاً.

هل من العادي أن يهرّب التاجر بضاعته بدل بيعها؟

يقول (س.ج): "أنا انقطعت عن الدراسة منذ كان عمري 18 عاماً، بعد أن نجحت بصعوبة حتى سنة الباكالوريا، كان لدي أمل في النجاح، لكنني فشلت، ومنذ انقطاعي عن الدراسة لم أهدأ أبداً، جرّبت كلّ الأعمال، تدرّبت في العسكرية، وحلمت بأن أنهي التدريب وأقدم مطلباً للعمل، لكنني استصعبت الأمر بعد أن تعبت كثيراً خلال التدريب، وقطعت الأمل من العمل بالجيش، بعدها درست السياحة وإدارة الأعمال بالفنادق، لكن لم أستطع تحمّل العمل لأكثر من ستة أشهر، لكثرة الاختلاط ، وكثرة استهلاك المحرّمات".

ناشط تونسي لـ"حفريات": في مدينتنا ثلاثة محلات لبيع المواد الغذائية أصحابها لهم ميولات إخوانية، ويتفقون مع مهربين لبيعهم المواد الغذائية الأساسية من سميد وبعض مشتقاته، كالمقرونة والحليب والسكر

يضيف لـ "حفريات": "عملت بحظائر البناء واستطعت جمع بعض المال، لكنّه لم يكن كافياً لأن أتزوج وأكوّن عائلة، فكنت بالكاد أغطي مصاريف أمي وأبي، أما الآن ومنذ حوالي 4 أشهر أنا أهرّب هذه المواد، والحمد لله كسبت منها كثيراً، في كلّ سفرة، أجمع أكثر من 150 ديناراً (حوالي 52 دولاراً) دون اعتبار مصاريف الوقود ومصاريف الطريق، فأحياناً تقطع طريقنا دورية نضطر لأن نعطيهم من 10 (3 دولارات) إلى 100 دينار (34 دولاراً)"، طبعاً ها المبلغ يختلف باختلاف البضائع".

يقول: "أعرف أنّ هذا العمل خطير جداً حتى على حياتي فحوادث كثيرة تحدث بسبب السرعة الجنونية التي نقود بها، وقد أواجه السجن أو دفع ضرائب، لكنه الحل الوحيد بالنسبة إلي".

اقرأ أيضاً: لبنان يحبط محاولة تهريب كمية كبيرة من المخدرات إلى دولة خليجية... تفاصيل

من جانبه، يقول (ح.ز)، شاب (29 عاماً)، من معتمدية ماجل بلعباس الحدودية (محافظة القصرين)، إنّه لا يمكن أن يخاطر بحياته ويسلك طريقاً فرعياً، فهو حفظ الطريق جيّداً، وصار يعرف كلّ الدوريات المتمركزة فيه منذ سنوات، مشيراً إلى أنّه يسلك الطريق الرئيسة السيارة، وفي حال اعترضته دورية أمنية يعطيهم (قهوتهم)، والقهوة تتراوح بين 10 دنانير (3.46 دولار) و50 دينار (17 دولاراً)، ويعطيهم أحيانا بعضاً من الحلويات التي يهربها كالشامية.

حركة التهريب تنتعش بين تونس وليبيا

يخبر (ح.ز) "حفريات" بأنّه كان يعمل في مجال تهريب الوقود، لكن الآن وبعد بعض التسهيلات التي يعرفها تهريب العجين، الذي يدرّ أموالاً طائلة، صار يهرّب المقرونة والكسكسي، بشكل أساسي، وعن تهريبهم لمواد يحتاجها التونسيون وتفتقدها الأسواق، يقول: "لو رأيتم البضائع في مستودعات بن قردان لتأكدتم بأنّها تكفي كلّ الشعب التونسي وزيادة، لكن يتم بيعها لليبيا، أنا متأكد أنّ المسألة أعمق من تهريبها من أجل المال فقط، بل لخلق إشكال فقدان مواد أساسية وتوتير الأوضاع الاجتماعية".

اقرأ أيضاً: شركات يمنية ومصارف متورطة في تهريب النفط الإيراني وغسل الأموال لحساب الحوثيين

ويضيف: "المحلات التجارية التي تبيع بالجملة وحتى التجّار الصغار، يفضلون بيعها للمهربين بدل التونسيين، والفارق أنّ المهرّب يضيف مبلغاً زهيداً جدّاً مقابل ذلك" ويتساءل: "هل برأيكم من العادي أن يفضل تاجر يحصل على دعم من الدولة تهريب بضاعته بدل بيعها؟".

وعن الوضع العام يضيف (ح.ز) "انتخبت حركة النهضة في مناسبتين، عام 2011 وعام 2014، وكنت متفائلاً بأنّها ستغيّر أوضاع البلد ومنها أوضاع الشباب، لكنها خيّبت أملنا في مستقبل أفضل، صحيح أنّني على يقين بأنّها تقف وراء كل الأعمال غير القانونية بالبلد، حتى أنّنا شاهدنا تسهيلات في الطريق لا تُصدّق، لكن لن أستطيع انتخابها مرّة أخرى".

ما علاقة حركة النهضة؟

وبخصوص انتشار ظاهرة تهريب المواد الأساسية المدعّمة من طرف الدولة إلى الجنوب التونسية ومنه إلى ليبيا، يقول الناشط في المجتمع المدني، نجم الدين خليفي، من معتمدية الرقاب التابعة لمحافظة سيدي بوزيد والقريبة من محافظة صفاقس، لدينا في مدينتنا ثلاثة محلات لبيع المواد الغذائية الجميع يعرف أنّ أصحابهم لهم ميولات إخوانية، ويتفقون مع مهربين لبيعهم المواد الغذائية الأساسية من سميد وبعض مشتقاته، كالمقرونة والحليب والسكر، لكنهم يخفونها عن الأهالي.

اقرأ أيضاً: خسائر تقدر بـ 20 مليار دولار.. التهريب من لبنان إلى سوريا عبر شرايين حزب الله

يضيف: "هذه المحلات لديها أوامر بعدم بيع المواد الاستهلاكية الضرورية للجميع، وهي مجبرة على أن تخبر كل من يذهب ليشتري منهم بأنّ المواد التي يطلبونها مفقودة من السوق، من أجل ترويج أنّ البلاد تعيش أزمة كبيرة، وتسير نحو الكارثة، وهو ما يدفع لخلق أزمة ثقة بين الرئيس سعيّد والشعب، ولرفض قرارات 25 تموز (يوليو) التي تم بموجبها تعليق عمل البرلمان وسحب السلطة من النهضة.

اقرأ أيضاً: الإخوان المسلمون: تهريب أسلحة وتضامن مع طالبان وتآكل ذاتي

الخليفي يؤكد لـ "حفريات"؛ أنّ هناك عربات ثقيلة ذات حمولات كبيرة تأتي من معتمدية سيدي علي بن عون إلى الرقاب محمّلة بمادة السميد، ويتم تسليمها مباشرة لـ (ن ب) (شارك في الحملة الانتخابية لحركة النهضة) وهو قريب إحدى النائبات عن حركة النهضة ولديه محل لتربية الدواجن، وهو يقوم بدوره بتخزين الكمية التي يحتاجها ليقدمها للدجاج في وقت لا يتمتع بها التونسيون، ويقوم بتوزيعها إلى محافظة صفاقس المجاورة على أنّها علف، دون أن تتم مضايقته بالطريق، ليتم فيما بعد توزيعها خارج تونس.

انتشار ظاهرة تهريب المواد الأساسية المدعّمة من طرف الدولة إلى الجنوب التونسية ومنه إلى ليبيا

وفي استفتاء إلكتروني، طرحت مراسلة "حفريات" سؤالاً حول المتسبب في فقدان المواد الأساسية بالأسواق التونسية على عشرة نشطاء في موقع فيسبوك، حيث أكد 7 منهم أنّ الأطراف السياسية التي كانت تسيطر على الحكم وأُجبرت على تسليمه، هي التي تقف وراء فقدان المواد الأساسية من الأسواق، وهي التي تدعم كبار المهربين.

ويرى الخبير الأمني فيصل الشريف؛ أنّ الأطراف الحاكمة أو التي تمتد أذرعتها في الحكم هي التي تتحمل مسؤوليتها، لأنّها تعرف المهرّبين فرداً فرداً، وتعرف كلّ مسالك التهريب، وحتى من يقف وراءهم، ومن يدعمهم.

اقرأ أيضاً: أوروبا تعزز آليات منع تهريب السلاح إلى ليبيا.. هل ترتدع تركيا؟

 ودعا، في تصريحه لـ "حفريات"، إلى ضرورة تحمل المسؤولية وعدم السماح بإفراغ البلد، أو إغراقه بسلع مهرّبة من تركيا وبعض الأقطار الأخرى.

كما يرى الناشط بالمجتمع المدني من منطقة بن قردان، رضوان عزلوك في تصريحه لـ "حفريات"؛ أنّ أطرافاً سياسية ورجال أعمال يمارسون ضغطاً على الرئيس سعيّد، على خلفية تهديده بكشف شبكات الفساد والتهريب، وهي تحاول أن توتر الأوضاع في تونس، وأن تلفت انتباه الرأي العام إلى قوت التونسيين المفقود من الأسواق، بدل الاهتمام بكبار رجال الأعمال والمهرّبين، الذين استنزفوا البلد، واستغلّوا وجودهم في الحكم للإضرار بالاقتصاد الوطني لصالحهم.

بن قردان سوق سوداء كبرى

وتُعدّ مدينة بن قردان سوقاً سوداء كبرى، تُعرض فيها المواد المدعّمة، كالسميد والمقرونة والكسكسي، مرصّفة فوق طاولات على قارعة الطريق، دون تراخيص بيع أو شراء، كما تنتشر فيها المواد المهرّبة من ليبيا على أرصفة الطرقات، دون رقابة ولا محاسبة، ولا يمانع أهاليها في المجاهرة باستهلاكهم المواد المهرّبة أو بتهريب مواد أساسية، لأنّها مورد رزقهم، فيما يعدّ أهاليها ليبيا موطناً لهم، بسبب أهمية التبادل التجاري، والقرب الجغرافي.

ويقول عزلوك إنّه كلّما قلّ بيع المواد الاستهلاكية الأساسية بتونس، كثُر عدد السيارات المحمّلة بهذه البضائع والمتجهة إلى ليبيا، لافتاً إلى أنّ كبار التجار صاروا يحتكرون المواد الأساسية لبيعها إلى الليبيين بأثمان أغلى.



انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات

آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية