قلق الطبقات الشعبية في الغرب من التهميش وضعف الأمن الثقافي

الغرب

قلق الطبقات الشعبية في الغرب من التهميش وضعف الأمن الثقافي


06/11/2018

يصف كاتب فرنسي الاقتراع الشعبوي في الأقاليم الأوروبية والأمريكية بأنه شبيه بمحدلة يعمّ فعلها العالم الغربي من أدناه إلى أقصاه، ويبلغ السويد، البلد الذي يتمتع بضمانات اجتماعية متينة، وتقتصر البطالة فيه على مستوى متدنٍّ، وعلى رغم ذلك جمع يمينه المتطرف 17 في المئة من أصوات المقترعين في انتخاباته الأخيرة.

اقرأ أيضاً: هل أصبح الإيطاليون معادين للأجانب اليوم؟

ولا يجافي عموم الاقتراع هذا المنطق، في نظر الكاتب كريستوف غيلوي، فنحن، كما يقول، كنا نحسب أنّ ثمة "مثالات" اجتماعية مختلفة؛ المثال البريطاني والمثال الفرنسي والأمريكي. واختلاف المثالات أو النماذج لم يحل دون ملاحظة ديناميات متشابهة. فنزعت سوق العمل تدريجاً نحو استقطاب الحواضر، أو "المدن – الدول" الكبيرة والمركزية، مرافق العمالة والوظائف، بينما ضمرت إلى حد الجفاف البلدات الصغيرة والمتوسطة والمناطق الزراعية.

اقرأ أيضاً: ما مستقبل الإسلام في أوروبا الغربية؟

ويرى الكاتب في مقال نشر في "لوبس" الفرنسية أنّ انتشار دينامية الاستقطاب المتفاوت في أوضاع اقتصادية وسكانية مختلفة، أمر يدعو إلى الوقوف والتساؤل. فهذه ألمانيا، ينظم يمينها المتطرف تظاهرات بالغة العنف، بينما يتمتع البلد بميزان مزدهر، وتتفوق صناعته على منافساتها، وبطالة اليد العاملة فيه لا تكاد تُذكر. والحق يقال، إنّ هذه المؤشرات لا تعبر عن حياة الناس، ولا عن خطوط أطوارها البيانية تبعاً للفئات الاجتماعية.

اقرأ أيضاً: هل يمكن للديمقراطيات الليبرالية أن تنجو من سياسات الهوية؟

واستذكر كاتب المقال الذي ترجمته صحيفة "الحياة": في أثناء الانتخابات الألمانية الأخيرة، دعاني صحفيون ألمان إلى مقارنة انتخاباتهم بظواهر فرنسية سبق أن تناولتها بالوصف. فلاحظت أنّ الإفقار والهشاشة يصيبان في المرتبة الأولى، في ألمانيا، شطراً من المتقاعدين.

نزعت سوق العمل تدريجاً نحو استقطاب المدن الكبيرة والمركزية

عندما كان عمال المناجم يكافحون

وفي أواخر عقد 1970، حين كان عمال المناجم يكافحون في سبيل الحؤول دون غلق مصانعهم، قلنا: لا ريب في أنّ آلام البطالة قاسية وثقيلة، لكن التطور التاريخي أمر لا رادّ له، وعلينا التكيف معه، وعلى المهن ومرافق العمل مجاراته. وعولنا على نهاية سعيدة. لكن هؤلاء العمال تركوا لمصيرهم البائس. وهي حال عمال مولينكس، في النورماندي، الذين لم يحصل عامل واحد منهم على فرصة عمل جديدة، وأكثرهم حظاً صُرف بموجب بند التقاعد المبكر.

يرى الكاتب كريستوف غيلوي أنّ معظم المواطنين في الدول الغربية يجهلون أنّ الشركات المتعددة الجنسيات تمتنع من تسديد ضرائبها

كما يتطرق المقال إلى أزمة المناطق الصناعية العميقة، في طوال العالم الغربي وعرضه، من با- دي – كاليه إلى شمال إنكلترا وبينهما حزام الصدأ في الولايات المتحدة، ونحن أدرجناها في سياق منطقي ولا مناص منه. وتوقعنا أن تؤدي العولمة إلى تقسيم دولي للعمل، فيضطلع العامل الصيني بالعمل الشاق وينتج السلع الرخيصة، بينما يحصل عمالنا المؤهلون التأهيل المناسب على مرافق عمل أكثر تعقيداً ومنفعة. ولم تجر الأمور وفق هذا التصور.

وأردف: لم تحصل الطبقة العاملة على المحل المأمول، وتعاقبت مذاك ثلاثة أجيال من العمال على تقاضي الحد الأدنى من العائد المشترك، وتعويض البطالة. والظاهرة، منذ عقد 1980، تتسع، وتصيب فئات أخرى، ومناطق أخرى. وانتقلنا من صرف عمال شركات صناعية إلى صرف المزارعين والمستخدمين. وإلى 1999، في فرنسا، استفادت معظم المناطق من نمو العمالة. لكن هذا النمو في مرحلة تالية، اقتصر على دزينة من المدن الكبيرة التي حازت وظيفة واحدة من اثنتين. والحال أقوى بروزاً في بريطانيا حيث يغلب قطب لندن الكبيرة في مقابل بقية المناطق. والسوق العقارية منذ عشر سنوات خير تمثيل على هذا. فسعر المتر المربع في المدن الكبيرة لم ينفك يتعاظم بينما لا يكاد يتزحزح عن مستواه الثابت في غيرها. والمدن المتوسطة في مناطق شهدت البحبوحة وقتاً طويلاً تترنح وتتردى أوضاعها، شأن منطقة البريتاني الفرنسية الأطلسية ومعاملها المتوسطة والصغيرة في قطاع الصناعات الغذائية. وتتضافر على التردي عوامل كثيرة مثل الأسواق (المخازن) الكبرى التي تفقر وسط المدن، لكننا نشهد تبلور جغرافيا اجتماعية متعاظمة التفاوت والفروق.

في بريطانيا يغلب قطب لندن الكبيرة في مقابل بقية المناطق

تناول مستحدث للمجتمعات الغربية

ويرى الكاتب أنه من المستحيل اليوم تناول المجتمعات الغربية على الشاكلة التي كانت عليها في سبعينيات القرن الماضي وثمانينياته، حين كان (الرئيس الفرنسي الأسبق) جيسكار ديستان يقول إنّ فرنسييْن من ثلاثة موعودان بالارتقاء الاجتماعي. وكانت الطبقة المتوسطة يومها تضم جملة الفئات المندمجة اجتماعياً واقتصادياً، أي سياسياً، من العامل إلى الكادر في الفئة العليا، على رغم التفاوت. وتغير مفهوم الطبقة المتوسطة يحول بيننا وبين قراءة الواقع. وعندما نتناول الطبقات المتوسطة اليوم، يتابع غيلوي، نقصد فعلاً كوادر الفئة العليا والمهن الحرة الجامعية. وطرحت الفئات الأخرى المتواضعة من الكتلة، والواحدة بعد الأخرى. وفي مرآة الأرقام، نحن نزداد ثراءً، وناتجنا المحلي الإجمالي لا ينفك يتعاظم، إلا أنّ هذا المثال، للمرة الأولى في تاريخنا، يقصّر عن العقد والجمع بيننا، ويعجز عن الاضطلاع بدمج الشطر الأعظم من المواطنين. ومفهوم حزام الضاحية لا يقتصر على الجغرافية، فهو مفهوم اجتماعي وثقافي، ويصاحبه شعور بذواء الاشتراك في معايير واحدة.

اقرأ أيضاً: كيف يعيش اللاجئون المسلمون إيمانهم في فرنسا ؟

ويحمّل الكاتب الأوساط الشعبية وزر رؤيا سلبية إلى العالم ليست رؤياهم. وغالباً ما يتردد قول يزعم إنّ الفرنسيين عاجزون عن التكيف، على خلاف المعقول. فهم لا يناهضون أوروبا ولا العولمة، ولا يناوئون الليبرالية. فهذا ليس شاغلهم. وما يريدونه هو الحصول على عمل، والشعور بالاندماج والأمن. وهذا ما لا تعبأ به النخب السياسية والإعلامية والأكاديمية التي يمضي معظمها على "بيع" مقالات العولمة الهانئة، وعلى الوعظ الأخلاقي. وتدعو هذه النخب إلى عالم منفتح ومشرع على الثقافات، لكنها تحرص على اعتزال الناس الفقراء، وتمتنع عن إرسال أولادها إلى مدارس أولادهم، وتتركهم وحدهم يتحملون أعباء اختياراتها السياسية، في قضية الهجرة وفي غيرها. وتهزأ هذه النخب بأهل الضعف الاجتماعي، وتسعى في عزلهم، وتتهمهم بالعنصرية. وتصفهم هيلاري كلينتون بـ"المعتّرين"، وفرانسوا هولاند بـ"فاقدي الأسنان"، بينما هم من يقع على عاتقهم دمج القادمين الجدد.

يعمد اليمين إلى استعمال الهجرة للطعن في السياسة الأوروبية والدولية

التحفظ عن كل أشكال التمثيل والتعبير

ويعتقد الكاتب أنّ رفض الاستماع إلى ما يطالبون به منذ عشرين عاماً يحملهم على التحفظ عن كل أشكال التمثيل والتعبير، ولو من طريق الصحافة ووسائط الاتصال. لكن، ما معنى المضي على الأخذ بمقالات تمدح التفوق والسبق بينما ثلاثة أرباع الناس يجرون الخطو في الخلف؟ ولا يرضى أحد أن يحوز واحد في المئة معظم الثروات. لكن الذين ينددون بهذه الحال اقترعوا لماكرون. وهو لم يفز في الانتخابات نتيجة أصوات الأغنياء جداً وحدهم، ولا جزاء الـ5 في المئة من الذين عادت عليهم العولمة بالربح. والتمثيل المفرط للفئات الاجتماعية العليا ولسكان الحواضر المدينية الكبيرة في الانتخابات يعني أنّ النصر أحرزه فريق الدفاع عن الامتيازات العقارية في المرتبة الأولى. ونظام التمثيل السياسي في دولنا يزداد قطبية وانقساماً بين من يتربعون في السدة العليا وبين المترسبين في القعر التحتي. وهؤلاء يلجأون إلى الاستنكاف ويمتنعون من المشاركة، أو يقترعون للتيار الشعبوي الذي يفتقر إلى خطة حكم فعلية. وتؤدي هذه العوامل مجتمعة إلى انفجار النظام التمثيلي تحت وطأة تناقضاته، ويبتعد من الديموقراطية. ومن أعراض هذا الابتعاد، انهيار النشاط الحزبي والنقابي في كل بلدان أوروبا وفي الولايات المتحدة.

الأوساط الشعبية لها رؤيا سلبية إلى العالم ليست رؤياهم، وغالباً ما يتردد قول يزعم أنّ الفرنسيين عاجزون عن التكيف

ويعمد اليمين، منذ وقت طويل، إلى استعمال الهجرة للطعن في السياسة الاجتماعية والاقتصادية الأوروبية والدولية. لكنه لا يغفل عن مصلحة أصحاب العمل في حدود مفتوحة تخفض سعر اليد العاملة من الداخل وتقلص الأجور. وعدد الداخلين إلى الأراضي الوطنية (الفرنسية) لم يبلغ يوماً المستوى العالي الذي بلغه في عهد حكومة ساركوزي. وتعاظم دور الجبهة الوطنية، وبروز المسألة العرقية، هما قناعان لانقسام اجتماعي: فما يختلف عليه البورجوازيون اليساريون والبورجوازيون اليمينيون أضعف كثيراً من خلاف الفريقين مع الأوساط الشعبية. وينبغي تمييز ما يحصل فعلاً من المقالات والإعلانات. فالمال يتقدم على الهوية، واليسار واليمين يتقاسمان "حصص السوق" من الناخبين من غير عزيمة ثابتة. وتحسب الفئات المسيطرة والغالبة أنّ مصير هذه الخلافات هو امتصاصها وتصريفها في حركة السوق. لكن هذا لا يبدد قسوة الوقائع التي يعانيها فريق كبير من المواطنين المهمشين.

معظم المواطنين بالغرب يجهلون أنّ الشركات المتعددة الجنسيات تمتنع من تسديد ضرائبها

قلق الطبقات الشعبية من ضعف "الأمن الثقافي"

وينبغي الإقرار، وفق الكاتب، بأنّ قلق الطبقات الشعبية من ضعف "الأمن الثقافي" ليس حكراً على من يسمون بـ"صغار البيض" (الجماعات الدنيا من المستعمرين في البلدان المستعمرة). فالأسر المغربية المندمجة في المجتمع الفرنسي والأسر الأفريقية في طور الارتقاء الاجتماعي، تشكو من القلق هذا. وتسعى، بدورها، في تغيير مسكنها، وفي ترك الأحياء التي يكثر فيها المهاجرون. ويؤدي النهج الذي يقدم مساعدة آخر القادمين من المهاجرين على سواهم الى المفارقة التالية: يستبعد أكثر المواطنين احتياجاً إلى التعويضات الاجتماعية من أنظمة التعويض ومن دور الدولة التي تتولى تقديمها بذريعة انتفاع "الآخرين" (آخر القادمين) وحدهم منها. وعلى هذا، ألغيت دولة الرعاية في بريطانيا على وقع تصفيق الطبقات المحتاجة نفسها.

اقرأ أيضاً: اللحظة الشعبوية: انتهاء ثنائية اليمين واليسار في أوروبا

ويرى المقال أنّ معظم المواطنين في الدول الغربية يجهلون أنّ الشركات المتعددة الجنسيات تمتنع من تسديد ضرائبها. فأصحاب الامتيازات ابتعدوا من المواطنين "اللي تحت" إلى حدٍّ لم يعد فيه النزاع قائماً. وهم على يقين من أنّ انشقاقهم يجعلهم بمأمن مما يصيب غيرهم. وعلى رغم أنّ قلب المسألة، أو "اسطوانتها الصلبة"، اقتصادي واجتماعي، إلا أنّ محور الأزمة السياسية الراهنة هو قضية المهاجرين. ويرى الكاتب أنّ ضواحي المدن الفرنسية لم تعجز عن إنشاء طبقات متوسطة، لكن المضي على تكديس سكان جدد فيها يخلف اختناقاً يستحيل على الضواحي معالجته. ويجتمع القادمون في مواضع واحدة لا تلبث أن تعاني مشكلات سكن وتعليم وطبابة، بينما يتقلص عدد الموظفين الذين يصطدمون بالمعالجة. ويترتب على عمى الطبقات العليا عن التصدع الاجتماعي، انفجار وشيك. وتجديد الروابط الاجتماعية رهن انخراط هذه الطبقات في مجتمعاتها، وخروجها من حدتها و"انشقاقها".


آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية