اللحظة الشعبوية: انتهاء ثنائية اليمين واليسار في أوروبا

اللحظة الشعبوية: انتهاء ثنائية اليمين واليسار في أوروبا


24/09/2018

ترجمة: محمد الدخاخني


إنّها أوقات غير مستقرّة للسّياسة الديمقراطيّة؛ فبعد صدمتها من انتصار الائتلافات المشكّكة في فكرة الاتحاد الأوروبي، في كلّ من النمسا وإيطاليا، تزعم النّخب النيوليبراليّة الآن؛ أنّ الدّيمقراطيّة معرّضة للخطر، وتُحذّر من احتمال عودة "الفاشيّة"، وقد كانت هذه النّخب قلقة بالفعل؛ بسبب التّصويت لصالح خروج بريطانيا من الاتّحاد الأوروبيّ (البريكست) وانتصار دونالد ترامب.

ما لا يمكن إنكاره؛ أنّ أوروبا الغربية تشهد حالياً "لحظة شعبوية"، تنشأ عن تكاثر الحركات المناهضة للمؤسّسة، وهو ما يشير إلى أزمة الهيمنة النيوليبرالية، وصحيحٌ أنّ هذه الأزمة تفتح الطريق أمام حكومات أكثر سلطوية، لكنّها يمكن أن تمنح أيضاً فرصة لاستعادة وتعميق المؤسسات الديمقراطية، التي أضعفتها ثلاثة عقود من النيوليبرالية.

 أوروبا الغربية تشهد حالياً "لحظة شعبوية"، تنشأ عن تكاثر الحركات المناهضة للمؤسّسة

ما بعد السياسة

يعدّ وضعنا ما بعد الديمقراطي الحالي، نتيجة عدّة ظواهر:

الأولى؛ التي أُطلق عليها اسم "ما بعد السياسة"، هي عدم وضوح الحدود بين اليمين واليسار، وهو أمرٌ نتج عن التوافق الذي تمّ التوصل إليه بين أحزاب يمين الوسط، ويسار الوسط، حول فكرة أنّه لم يكن ثمّة بديل عن العولمة النيوليبرالية؛ ففي ظلّ إلحاح "التحديث"؛ قبل الاشتراكيّون الديمقراطيون إملاءات الرأسمالية المالية المعولمة، والحدود التي تفرضها على تدخل الدولة والسياسات العامة.

عمليّة ردكلة المؤسسات الديمقراطية ستشمل لحظات تمزّق ومواجهة مع المصالح الاقتصادية المهيمنة إنّها إستراتيجيّة إصلاحية راديكالية

لقد أصبحت السياسة مجرّد مسألة تقنيّة لإدارة النظام القائم؛ أي مجال مخصص للخبراء، وأُعلِن أنّ سيادة الشعب، وهي فكرة في قلب المثل الأعلى الديمقراطي، قد عفا عليها الزمن، و"ما بعد السياسة"؛ تسمح فقط بالتناوب على السلطة، بين يمين الوسط ويسار الوسط؛ فالمواجهة بين المشروعات السياسية المختلفة، وهي مواجهة ضرورية للديمقراطيّة، جرى القضاء عليها.

كما تميز هذا التطور ما بعد السياسي، بهيمنة القطاع المالي؛ ما أدّى إلى عواقب وخيمة على الاقتصاد المنتِج، وصاحبت ذلك سياسات الخصخصة وإلغاء القيود، التي أدّت إلى جانب تدابير التقشف، المفروضة بعد أزمة عام 2008، إلى زيادة هائلة في عدم المساواة.

صحيحٌ أنّ الطبقة العاملة والمحرومين أصلاً يتأثرون، على نحو خاصّ، بهذه السياسات، لكن يتأثر بها أيضاً جزءٌ مهمّ من الطبقات الوسطى، التي أصبحت أكثر فقراً، وأكثر انعداماً للأمان.

في العديد من الدول الأوروبية؛ جرى الاستيلاء على عمليات المقاومة

حركة مضادة

في الأعوام الأخيرة؛ ظهرت حركات مقاومة مختلفة، وهي تجسّد ما قدّمه كارل بولاني، في كتابه "التحوّل العظيم"، باعتباره "حركة مضادة"، من خلالها يردّ المجتمع على عملية إعمال قوى السوق، ويدفع باتّجاه الحماية الاجتماعية، وكما أشار بولاني؛ فإنّ "هذه الحركة المضادّة يمكن أن تتخذ أشكالاً تقدّمية، أو رجعيّة، وتنطبق هذه الازدواجية أيضاً على اللّحظة الشعوبية الحالية".

اقرأ أيضاً: أخطار الشعبوية ... وتسلل الاستبداد إلى الديموقراطيات

وفي العديد من الدول الأوروبية؛ جرى الاستيلاء على عمليات المقاومة هذه، من قِبل الأحزاب اليمينية، التي مفصلت، في مفردات قومية ومعادية للأجانب، مطالب أولئك الذين تركهم يسار الوسط. يعلن الشعوبيون اليمينيون؛ أنّهم سوف يعيدون إلى الشعب الصوت الذي استولت عليه "النخب"، وهم يدركون أنّ السياسة دوماً حزبية، وتتطلب مواجهة قائمة على "هم/ نحن"، وعلاوة على ذلك؛ يدركون الحاجة إلى تعبئة عالم العاطفة والشّعور، من أجل بناء هويات سياسية جماعية، وعبر رسمهم خطّاً بين "الشعب" و"المؤسسة"، يرفضون علانية الإجماع ما بعد السياسي.

تلك هي، بالتحديد، التحركات السياسية التي تشعر معظم أحزاب اليسار بأنها غير قادرة على القيام بها؛ بسبب مفهومها التوافقي للسياسة، ورؤيتها العقلانية، التي تفيد وجوب استبعاد المشاعر، فبالنسبة إلى هذه الأحزاب؛ النقاش العقلاني فقط هو المقبول، وهذا يفسّر العداء الذي تكنّه للشعوبية، التي تربطها بالديماغوغية واللاعقلانية.

للأسف، لن تتمّ مواجهة تحدّي الشعبوية اليمينية، عن طريق التمسّك بعنادٍ بالإجماع ما بعد السياسي، واحتقار "هؤلاء المثيرين للرثاء".

اقرأ أيضاً: القمة الأوروبية وزحف الشعبوية

ومن الأهمية بمكان؛ أن ندرك أنّ الإدانة والشيطنة الأخلاقيّتين للشعبوية اليمينية، تؤدّيان إلى نتائج عكسيّة تماماً، فهما لا تؤديان إلّا إلى تعزيز المشاعر المعادية للمؤسسة، بين أولئك الذين يفتقرون إلى المفردات اللازمة لصياغة ما يمثل، في جوهره، شكاوى حقيقية.

كما أنّ تصنيف الأحزاب الشعبوية اليمينية على أنّها "يمين متطرف" أو "فاشية"، وتقديمها باعتبارها أمراضاً أخلاقية، وعزو جاذبيتها إلى نقص في التعليم، هو بالطبع؛ أمرٌ مريحٌ بالنسبة إلى يسار الوسط؛ فهو يسمح لهذا التيار برفض أيّة مطالب للشعبويين، وتجنّب الاعتراف بالمسؤولية عن صعودهم.

لا يمكن صياغة الوضع من خلال ثنائيّة يسار/ يمين، كما تمّ تكوينها تقليدياً

الشعبوية اليسارية

إنّ الطريق الوحيدة لمحاربة الشعبوية اليمينية، تكون عبر تقديم إجابة تقدمية للمطالب التي يعبّرون عنها بلغة معادية للأجانب، وهذا يعني الاعتراف بوجود نواة ديمقراطية في تلك المطالب، وإمكانية مفصلة تلك المطالب في اتجاه ديمقراطي راديكالي، من خلال خطاب مختلف.

هذه هي الإستراتيجية السياسية، التي أسمّيها "الشعبوية اليسارية"، والغرض منها؛ بناء إرادة جماعية، "شعب" يكون خصمه "الأوليغارشية"، أي القوة التي تدعم النظام النيوليبرالي.

اقرأ أيضاً: 9 دول ينشط فيها اليمين المتطرف والأحزاب الشعبوية

لا يمكن صياغة الوضع من خلال ثنائيّة يسار/ يمين، كما تمّ تكوينها تقليدياً؛ فعلى عكس النضالات المميزة لعصر الرأسمالية الفوردية، عندما كانت هناك طبقة عاملة تدافع عن مصالحها الخاصة؛ فإنّ عمليات المقاومة قد تطورت إلى ما وراء القطاع الصناعي، ولم تعد مطالبها تتوافق مع مجموعات اجتماعية محددة، فالعديد من الأسئلة تتعلق بنوعية الحياة، وتتقاطع مع قضايا مثل؛ الجنسوية، والعنصرية، وغيرها من أشكال السيطرة، ومع هذا التنوّع؛ لا يستطيع التحديد التقليدي لـ اليسار/ اليمين، مفصلة إرادة جماعية.

إنّ الجمع بين هذه النضالات المتنوعة معاً، يتطلب إقامة رابطة بين الحركات الاجتماعية، ونوع جديد من الأحزاب، لخلق "شعب" يُقاتل من أجل المساواة والعدالة الاجتماعية.

الشعبوية بعيدة كلّ البعد عن كونها انحرافاً للديمقراطية، وذلك منظور تحاول القوى التي تدافع عن الوضع الراهن فرضه

ويمكننا العثور على هذه الإستراتيجية السياسية، في حركات مثل بوديموس (نستطيع) في إسبانيا، وفرانس إنسوميز (فرنسا المتمرّدة)، التي يتزعمها جان-لوك ميلانشون، أو لدى بيرني ساندرز في الولايات المتحدة، وهذه الإستراتيجية أيضاً ترفد سياسة جيريمي كوربين، الذي نجحت مساعيه في تحويل حزب العمال إلى حركة شعبية كبيرة، تعمل "من أجل الكثيرين، لا القلّة"، في جعل "العمال" أكبر حزب يساري في أوروبا.

تسعى هذه الحركات إلى الوصول إلى السلطة من خلال الانتخابات، لكن ليس من أجل تأسيس "نظام شعبويّ"، وهدفها هو استعادة وتعميق المؤسسات الديمقراطية، وسوف تأخذ هذه الإستراتيجية أشكالاً مختلفة، يمكن أن يطلق عليها "الاشتراكية الديمقراطية"، أو "الاشتراكية البيئية"، أو "الاشتراكية الليبرالية"، أو "الديمقراطية التشاركية"، اعتماداً على السياق الوطني المختلف.

لكنّ المهمّ، مهما كان الاسم، هو أنّ "الديمقراطية" هي الدلالة التي تتمفصل حولها هذه النّضالات، وأنّ المؤسسات الليبرالية السياسية لا يتم تجاهلها.

لا شكّ في أنّ عمليّة ردكلة المؤسسات الديمقراطية، ستشمل لحظات تمزّق ومواجهة مع المصالح الاقتصادية المهيمنة، إنّها إستراتيجيّة إصلاحية راديكالية ذات بعد مناهض للرأسماليّة، لكنّها لا تتطلّب التخلي عن المؤسسات الديمقراطية الليبرالية.

إنّني مقتنعة بأنه في الأعوام القليلة القادمة، سيكون المحور المركزي للنزاع السياسي، بين الشعوبية اليمينية والشعبوية اليسارية، ومن الضروري أن تدرك القطاعات التقدمية أهمية إشراك نفسها في هذا النضال.

اقرأ أيضاً: عناصر الشعبوية في الخطاب السياسي المغربي

إنّ الشعبية التي خلقتها الانتخابات البرلمانية (حزيران / يونيو 2017)، لميلانشون وفرانسوا روفان، وغيرهما من مرشّحي فرانس إنسوميز، بما في ذلك التي وقعت في مدينتي مرسيليا وأميان، وكلتاهما من المعاقل السابقة لـمارين لوبن، تظهر أنّه عندما يكون الخطاب المتكافئ متاحاً للتعبير عن شكاواهم، فإنّ الكثير من الناس ينضمون إلى النضال التقدمي.

من خلال تصوّرها حول أهداف ديمقراطية راديكالية؛ فإنّ الشعبوية بعيدة كلّ البعد عن كونها انحرافاً للديمقراطية، وذلك منظور تحاول القوى التي تدافع عن الوضع الراهن فرضه، من خلال وصم كلّ أولئك الذين يعارضون الإجماع ما بعد السياسي بالـ "متطرّفين"، تشكّل اليوم في أوروبا أفضل إستراتيجية سياسية لإحياء وتوسيع مُثُلنا الديمقراطية.


المصدر: شانتال موف، الغارديان



انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات
الصفحة الرئيسية