“الإخوان” في أوروبا: من شريك مجتمعي إلى تهديد هيكلي يفرض إعادة رسم استراتيجيات الأمن والإندماج

“الإخوان” في أوروبا: من شريك مجتمعي إلى تهديد هيكلي يفرض إعادة رسم استراتيجيات الأمن والإندماج

“الإخوان” في أوروبا: من شريك مجتمعي إلى تهديد هيكلي يفرض إعادة رسم استراتيجيات الأمن والإندماج


09/07/2025

تُمثّل جماعة “الإخوان المسلمين” تهديدًا متجذرًا داخل المجتمعات الأوروبية، لا سيّما في ألمانيا وفرنسا والنمسا، فعلى الرغم من الإجراءات المتعددة التي اعتمدتها الحكومات الأوروبية خلال السنوات الأخيرة، وتحديدًا منذ مطلع عام 2021، لا تزال الجماعة تُشكّل أحد أخطر التحديات الأمنية في القارة، نظرًا لقدرتها المستمرة على إعادة التموضع والتخفي تحت أغطية ثقافية ودينية، هربًا من الملاحقة الأمنية، وإجراءات تتبّع الأنشطة ورصد مصادر التمويل.

وينظر غالبية الساسة والنشطاء إلى حركات الإسلام السياسي بوصفها تهديدًا مباشرًا لقيم الحرية والديمقراطية، كما أنها تُشكّل بيئة خصبة لتفريخ التطرف، وممارسة العنف، ونشر الفكر المتشدد داخل المجتمعات. وقد شكّلت أحداث فيينا الدامية التي وقعت في النمسا عام 2020 نقطة تحوّل في مقاربة المخاطر المرتبطة بهذه التنظيمات، لا سيّما بعدما أثبتت التحقيقات ارتباط المتهم الرئيسي في الهجوم بعدد من التنظيمات المتطرفة داخل البلاد، إلى جانب محاولات تنسيقية للالتحاق بتنظيم “داعش”.

على ضوء ذلك، أقرّت دول الاتحاد الأوروبي حزمة إجراءات ضمن خطة عمل متكاملة لمواجهة أنشطة التطرف والإرهاب، تضمنت آليات لتعزيز مراقبة الأنشطة، وتتبع مصادر التمويل، واستحداث أدوات للرصد الرقمي، فضلًا عن تعزيز الإطار التشريعي الناظم لمكافحة هذه الظواهر.

فرنسا: الهيكل التنظيمي ومصادر التمويل

تضمّ فرنسا أكبر عدد من الجاليات المسلمة في أوروبا، إذ يُقدَّر عدد المسلمين المقيمين في المجتمع الفرنسي بنحو ستة ملايين مسلم، وهو العدد الأكبر بين الدول الأوروبية. ومن الجدير بالذكر أنّ الغالبية الساحقة من مسلمي فرنسا ينحدرون من دول المغرب العربي، إذ تُقدَّر نسبتهم بـ82% من مجمل مسلمي البلاد، وتتوزع النسب على النحو التالي: 43.2% من الجزائر، 27.5%  من المغرب، 11.4% من تونس،9.3%  من إفريقيا جنوب الصحراء،8.6%  من تركيا،0.1%  من الفرنسيين الذين اعتنقوا الإسلام، ويُقدّر عددهم بنحو 70,000  شخص.

وقد عملت جماعة “الإخوان المسلمين”، منذ عام 1978، على بناء إمبراطورية مالية وفكرية في فرنسا، بهدف تعميق وجودها وتعزيز نفوذها داخل المجتمع الفرنسي. كما ارتبط التنظيم بعلاقات مصلحية مع عدد من الأحزاب السياسية الفرنسية.

وتضمّ فرنسا أكثر من 250 جمعية إسلامية تنتشر في مختلف أرجاء البلاد، من بينها51  جمعية تُعدّ تابعة لجماعة الإخوان المسلمين، إلى جانب عدد من الكيانات الأخرى مثل “التجمع لمناهضة الإسلاموفوبيا”، و”جمعية الإيمان والممارسة”، و”مركز الدراسات والبحوث حول الإسلام”، و”المعهد الأوروبي للعلوم الإنسانية”، و”معهد ابن سينا” لتخريج الأئمة. وتقوم هذه الجمعيات بأنشطة ذات طابع سياسي، وتعمل في كثير من الحالات لصالح جماعات متطرفة.

ويُعدّ “اتحاد المنظمات الإسلامية في فرنسا” — الذي يُعرف حاليًا باسم “مسلمو فرنسا” — أحد أكثر الكيانات الإسلامية تأثيرًا في البلاد، وقد تأسّس في إقليم مورت وموزيل في يونيو/حزيران 1983.

تُجري السلطات الفرنسية حاليًا تحقيقًا واسع النطاق حول مصادر تمويل جماعة الإخوان في فرنسا، بحسب ما أفادت صحيفة لو فيغارو الفرنسية. وكانت الإدارة العامة للأمن الداخلي قد حدّدت نحو 20 صندوق هبات خاصًا تشتبه في قيامها بأنشطة تمويل مشبوهة. وقد أطلق وزير الداخلية، جيرالد دارمانان، هذا التحقيق منذ خريف عام 2021، في أعقاب صدور قانون مكافحة الانفصالية، الذي ينصّ على احترام مبادئ الجمهورية.

هذا وكشفت التسريبات المرتبطة بالتحقيق أن هذه الصناديق أنشئت عام 2008 بهدف جمع تمويلات خاصة، نظرًا لكونها آنذاك لا تخضع لرقابة دقيقة من قبل السلطات. وقد استغلّ الإسلام السياسي هذه الثغرة لتمويل أنشطته المختلفة في الخفاء، عبر آليات مالية معقّدة وغامضة. ورصد التحقيق نحو عشر شبكات تابعة لجماعة الإخوان المسلمين، تمتدّ من مدينة ليل في الشمال، مرورًا بالمنطقة الباريسية وبوردو، وصولًا إلى مارسيليا في الجنوب.

كما كشفت الأجهزة الاستخباراتية الفرنسية أن جماعة الإخوان المسلمين تستخدم منظمات غير حكومية مُعترف بها من قبل الدولة كواجهة لترويج أفكارها المتطرفة داخل البلاد. وذكرت التقارير أن الجماعة تسللت إلى هذه المنظمات من خلال تقديم دعم مالي مباشر، وتنصيب قياداتها داخل مجموعات المجتمع المدني، تحت غطاء الدفاع عن حقوق المسلمين. وقد اتُّهمت الجماعة بترويج أيديولوجيا الإسلام السياسي، مستخدمةً بذلك واجهات تبدو منظمات مدنية تمثّل مصالح مسلمي فرنسا.

ألمانيا: تزايد النفوذ وتنامي الشبكات

كشفت الاستخبارات الألمانية في ولاية شمال الراين-وستفاليا، أكبر ولايات ألمانيا، عن تزايد عدد قيادات جماعة الإخوان المسلمين على الأراضي الألمانية. وتملك الجماعة مواقع إلكترونية، كما تحظى بحضور متزايد على وسائل التواصل الاجتماعي باللغة الألمانية. وتحذّر تقارير استخباراتية من تزايد نفوذ الإخوان في مختلف الولايات، من خلال توظيف الخطاب الديني لاستقطاب الجاليات المسلمة وتجنيد أعداد متزايدة من الشباب والمراهقين.

وتُعد مؤسسة Europe Trust  الأداة المالية الرئيسة للإخوان المسلمين في أوروبا. ويُصنَّف أعضاؤها في ألمانيا ضمن ما يُعرف بـ”الطيف الإسلامي”، وهي مجموعات تنتمي إلى الإسلام السياسي، تلتزم بالقانون ظاهريًا، بينما تسعى فعليًا إلى بناء مجتمع موازٍ عبر اختراق المؤسسات، عوضًا عن استخدام “الجهاد” كوسيلة لتحقيق أهدافها. في 20 ديسمبر/كانون الأول 2021، أشارت تقارير أمنية إلى أن Europe Trust تعتمد هيكلًا شبيهًا بالمافيا، وسط صعوبات في تتبّع تعاملاتها المالية. وتتخذ من العمل الخيري والتنموي واجهةً لجمع التبرعات وتوفير الموارد لصالح اتحاد المنظمات الإسلامية في أوروبا. كما تملك المؤسسة أصولًا عقارية تفوق قيمتها 8.5 ملايين جنيه إسترليني، وتحوّل عائدات الإيجارات إلى شبكة غير رسمية من منظمات مرتبطة بالإخوان في عموم القارة الأوروبية، لا سيما في ألمانيا.

وتُظهر تقارير أخرى وجود دعم مالي خارجي لتنظيم الإخوان في ألمانيا. ففي 25 سبتمبر/أيلول 2022، كُشف عن تمويل خارجي لمسجد ومركز “دار السلام” المرتبط بالجماعة. كما تلقّى فرع منظمة “الإغاثة الإسلامية” في ألمانيا أكثر من نصف مليون يورو من ميزانية الاتحاد الأوروبي عام 2019، وفقًا لنظام الشفافية المالية المعتمد من المفوضية الأوروبية. وفي عام 2018، منحت المفوضية الأوروبية 400 ألف يورو لمنظمة الإغاثة الإسلامية العالمية، و340 ألف يورو لفرعها الألماني في عام 2022.

وتمكنت جماعة الإخوان من بناء شبكة علاقات متينة مع عدد من الكيانات الإسلامية في ألمانيا، أبرزها: الاتحاد الإسلامي التركي، المجلس الأعلى للمسلمين، التجمع الإسلامي، ومنظمة الجالية المسلمة. وقد أتاح هذا التحالف للجماعة فرصة التغلغل في أوساط المسلمين الألمان، وبسط سيطرتها على المساجد تدريجيًا دون إثارة الريبة، مع السعي إلى كسب ثقة المجتمع والسياسيين الألمان عبر النأي بنفسها عن الخطابات المتشددة التي تصدر عن تنظيمات متطرفة أخرى. وتعتمد الجماعة على خلايا سرية لاستقطاب فئات الشباب، والمهاجرين غير المندمجين، وذوي التعليم المتدنّي، ما منحها حضورًا راسخًا داخل المجتمع الألماني على مدى عقود.

وفي ظل تزايد مخاطر تمدّد نفوذ الجماعة، ارتفعت الأصوات داخل البرلمان وبعض الأحزاب الألمانية مطالِبةً بحظر أنشطة الإخوان وتعقّب تحرّكاتها. ففي عام 2022، قدّم حزب البديل من أجل ألمانيا مشروع قرار للبرلمان يدعو إلى تشديد الرقابة على مصادر تمويل تيار الإسلام السياسي، وتجفيف منابع تمويل جماعة الإخوان. كما نشر البرلمان الألماني وثيقةً تتضمّن ردًّا على طلب إحاطة تقدّم به الحزب ذاته حول بعض منصّات الإسلام السياسي. وكشفت الوثيقة عن وجود داعمين للجماعة داخل الحكومة، وبعض المؤسسات الإعلامية، إضافة إلى حزبي اليسار والخضر.

النمسا: مواجهة متصاعدة لشبكات الإسلام السياسي

تعود جذور شبكات جماعة الإخوان المسلمين في النمسا إلى ستينيات القرن الماضي، حين أسسها عدد من أعضاء التنظيم المصريين المهاجرين، من أبرزهم يوسف ندى وأحمد القاضي الذي لعب لاحقًا دورًا محوريًا في ترسيخ الوجود الإخواني في الولايات المتحدة. أما ندى فقد عمل على بناء إمبراطورية مالية عابرة للحدود، امتدت بين الشرق الأوسط وأوروبا، قبل أن يتولى رئاسة العلاقات الخارجية للتنظيم انطلاقًا من النمسا. ويُشار إلى أن قصره الواقع في منطقة “كامبيوني ديتاليا” اعتُبر بمثابة وزارة خارجية غير رسمية للتنظيم.

في هذا السياق، استضافت فيينا في 5 ديسمبر/كانون الأول 2022 “منتدى فيينا الثاني لمكافحة التطرف”، الذي نظمته وزيرة الاندماج النمساوية سوزان راب، بمشاركة نحو 150 سياسيًا ودبلوماسيًا أوروبيًا. وقد ركز المؤتمر على تعزيز التعاون الدولي، سياسيًا ومهنيًا، للتصدي لشبكات الإسلام السياسي ومكافحة أنشطتها المتنامية في أوروبا.

وفي أعقاب حظر النمسا لشعارات جماعة الإخوان في الأماكن العامة عام 2021، توالت الإجراءات الحكومية لتعزيز اندماج المسلمين في المجتمع ومكافحة التطرف. وخصصت الحكومة النمساوية ميزانية قدرها 4.7 مليارات يورو لمكافحة الإرهاب، تضمنت تجهيز وحدات أمنية متقدمة للتعامل مع التهديدات المحتملة.

وفي عام 2022، أعلن “مركز توثيق الإسلام السياسي” الحكومي تشديد الرقابة على أنشطة جماعة الإخوان داخل “المجلس الإسلامي” ومسجد “الهداية” في فيينا، وذلك بعد عام من إطلاق “خريطة الإسلام” التي صنّفت 623 مسجدًا وهيئة إسلامية خاضعة للرقابة، مع تتبّع علاقاتها المحتملة بالخارج.

بلجيكا: تسلّل مؤسساتي وتمويلات خفية تثير قلق الاستخبارات

لا تزال هناك جماعات تتوسّع ضمن الحركة السلفية “الجهادية” في بلجيكا، لا سيما في مدينة أنتويرب شمال البلاد. وقد تلقّت بلجيكا 218 تهديدًا متطرفًا، وفقًا للتقييم السنوي الصادر عن هيئة التنسيق لتحليل التهديدات (OCAM) في أغسطس/آب 2022، وتبيّن أن ثلث هذه التهديدات يستند إلى أيديولوجيا جهادية.

استغلّت جماعة الإخوان المسلمين المساحة التي أُتيحت للهيئة الإسلامية في بلجيكا لاختراق الجمعيات والمساجد والأحزاب السياسية، حيث جرى استقدام أئمة من الخارج إلى المسجد الكبير، ما أدى إلى تأسيس جمعيات على صلة بالإخوان. وفي عام 1992، أُنشئ “المركز الإسلامي البلجيكي” الذي تم إغلاقه في عام 2002. أما في عام 1997، فقد تم تأسيس “رابطة مسلمي بلجيكا” في عدد من المدن، وباتت تسيطر على عشرة مساجد. ويُعد مسجد “السلطان أحمد” في هوسدن زولدر من أبرز مراكز التشدد في البلاد، ويديره محمد أوستن، رئيس الهيئة الإسلامية.

وبفعل العلاقات القوية بين إخوان بلجيكا وإخوان فرنسا، ظهر “التجمّع المناهض للإسلاموفوبيا” في بروكسل في عام 2021، بعد أن تم حله في فرنسا بتهمة كونه ذراعًا تنظيميًا للإخوان وتحريضه ضد سياسات الاندماج الأوروبية.

في 2022، كشفت الاستخبارات البلجيكية عن الأنشطة والتمويلات السرّية لتنظيم الإخوان المسلمين، التي تهدف إلى استقطاب الجاليات المسلمة وتجنيدها، وخلق مجتمع موازٍ داخل الدولة. كما حذّرت من تطرّف بعض الأئمة وأعضاء التنظيم. ووصفت الاستخبارات جماعة الإخوان بأنها “المنظمة الأمّ” التي انبثقت منها معظم الجماعات المتطرفة، مشيرة إلى أن للتنظيم تاريخًا معروفًا في إخفاء معتقداته الحقيقية ودوافعه المتطرفة.

وكانت الأجهزة الأمنية البلجيكية قد رصدت تحويلات مالية تُستخدم لاقتناء مستحضرات ومواد كيميائية تدخل في تصنيع المتفجرات، وذلك ضمن عمليات تمويل تدريجية. كما تسعى الجماعات الإسلاموية المتطرفة للسيطرة على المؤسسات المالية، مثل شركات السمسرة والتأمين، بغرض تمويل الإرهاب.

في هذا السياق، نفّذت بلجيكا سلسلة من القوانين والتشريعات لمكافحة تمويل الإرهاب، وفرضت التزامات قانونية على البنوك ومقدّمي الخدمات المالية لحفظ السجلات وتقديم تقارير دورية. كما وسّعت من تعريف جرائم غسل الأموال لتشمل تمويل الإرهاب، وليس فقط الاتجار بالمخدرات.

بريطانيا: تمويل مشبوه وتغلغل استراتيجي في السياسات الأمنية

يرتبط الإخوان المسلمون في بريطانيا بمنظومةٍ شديدة الأهمية من المصالح السياسية والأمنية والاجتماعية، ما منحهم مكانةً بارزة لدى الحكومات البريطانية المتعاقبة. ويتم ذلك عبر نظام مؤسسي محكم، يضم نحو 60  منظمة تعمل داخل المملكة المتحدة. في موازاة ذلك، تزايد حجم الاستثمارات المباشرة وغير المباشرة للجماعة، وتشير التقديرات إلى أن الإخوان المسلمين يمتلكون ثروات مالية تتراوح بين 8 و10 مليارات دولار.

وقد حصلت شركات الجماعة ومؤسساتها على الاعتراف القانوني، وهو ما يُعزى جزئيًا إلى مخاوف السلطات البريطانية من تحوّل الجماعة إلى العمل السري، بما قد يهدد المصالح الوطنية والأمن القومي.

وفي 2022، كُشف عن وثيقة تضمنت مراجعة مهمة لبرنامج Prevent الحكومي المعني بمكافحة التطرف. وقد بيّنت الوثيقة أن أموال دافعي الضرائب البريطانيين استُخدمت في تمويل جماعات تروّج للتطرف، وتضمنت الكشف عن شخصيات بارزة تعمل ضمن منظمات ممولة من Prevent يُشتبه بأنها دعمت حركة طالبان، ودافعت عن جماعات متشددة محظورة في المملكة المتحدة، واستضافت دعاة يروّجون لخطاب الكراهية، وفقاً لمسودة مسرّبة اطلعت عليها جهات إعلامية.

أما على صعيد السياسات المالية، فقد نشرت مجموعة العمل المالي (FATF)، وهي الهيئة الدولية المعنية بوضع معايير مكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب، تقرير التقييم المتبادل (MER) للمملكة المتحدة في 2022. وقد أقرّ التقرير بأن نظام المملكة المتحدة في مكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب هو من بين الأقوى عالميًا، مقارنة بأكثر من 100 دولة جرى تقييمها حتى الآن. لكن، رغم ذلك، أشار التقرير إلى وجود نقاط ضعف كبيرة في النهج القائم على المخاطر لدى الجهات الرقابية كافة.

وفي خطوة تشريعية استباقية، اقترحت الحكومة البريطانية في 2022 مشروع قانون جديد يُلزم بعض الأماكن العامة بما يُعرف بـ”واجب الحماية” (Protect Duty)، لتعزيز التدابير الأمنية ضد التهديدات الإرهابية. ومن المقرر أن تُصبح خطة “York Anti-Terror”، التي تبلغ قيمتها 1.8  مليون جنيه إسترليني، جزءًا دائماً من سياسات مكافحة الإرهاب في المملكة المتحدة.

من منفى سياسي إلى شبكة نفوذ متغلغلة

في أعقاب سقوط جماعة الإخوان المسلمين عن الحكم في مصر عام 2013، دخل التنظيم في دوامة من الأزمات والتحولات البنيوية التي طالت امتداداته العالمية، لا سيما في أوروبا. وتواجه الجماعة اليوم تصعيدًا أوروبيًا متناميًا في الإجراءات الرامية إلى تطويق تمدد التيارات الإسلاموية المتطرفة داخل المجتمعات الأوروبية.

لطالما اعتبرت الجماعة القارة الأوروبية بيئة حاضنة لنشاطها، حيث استطاعت على مدار ستة عقود، منذ تأسيس المركز الإسلامي في ميونخ عام 1954، أن تنسج شبكات مالية ومجتمعية معقدة تتغلغل في النسيج المدني الأوروبي، مستفيدة من هامش الحريات ومناخ التعددية. غير أن استراتيجية الجماعة في أوروبا تختلف جذريًا عن نشاطها في الدول العربية، إذ تتخذ شكل منظمات خيرية ومؤسسات مدنية غير مرتبطة علنًا بهيكل تنظيمي موحد، ما يصعّب على السلطات ضبط انتماءاتها وتحديد علاقتها بالتنظيم الأم.

ورغم اختلاف البنى التنظيمية من دولة إلى أخرى، تجمع تلك الكيانات أهداف ومواقف متقاربة، تدعم بشكل غير مباشر أجندة الإخوان العالمية، ما يضعها تحت مجهر الحكومات الأوروبية التي باتت أكثر وعيًا بخطورة هذا التغلغل الناعم، في سياق أوسع من مكافحة التطرف العابر للحدود.

تكشف المعطيات الحديثة عن تحول القارة الأوروبية إلى الساحة الأكثر حيوية في نشاط جماعة الإخوان المسلمين عالميًا، بعد تراجع نفوذها في العالم العربي، حيث يعتمد التنظيم الدولي، الذي يتخذ من لندن مقرًا له، على منظومة متشعبة من الجمعيات والمنظمات المدنية التي تعمل تحت غطاء قانوني، لكنها في الواقع تنفذ أجندات الإخوان السياسية والفكرية، وتنسق بشكل غير مباشر مع القيادة المركزية للجماعة.

وتحظى أوروبا اليوم بتموضع استراتيجي داخل الهيكل الإخواني العالمي، حيث تنشط مؤسسات بارزة مثل المجلس الإسلامي البريطاني، والمركز الإسلامي في ميونيخ، والتجمع الإسلامي في ألمانيا، وغيرها. وتلعب هذه الكيانات دورًا محوريًا في تحقيق هدف “أستاذية العالم” الذي أرساه مؤسس الجماعة حسن البنا.

أما على المستوى المالي، فتغيب الأرقام الدقيقة عن ثروة الإخوان، لكن المؤشرات تؤكد وجود إمبراطورية اقتصادية متعددة الأذرع، تشمل شركات “أوف شور”، واستثمارات مصرفية وتجارية واسعة، أبرزها في تجارة الأغذية الحلال، التي تقدر عالميًا بمليارات الدولارات. وتدار هذه الشبكات من شخصيات نافذة في التنظيم، على رأسها عبد الرحمن الشواف، ويوسف ندى، وأنس التكريتي.

رقابة مشددة وتحولات مالية مرتقبة

في ظل تزايد الشكوك الأوروبية، يبدو أن الجماعة أمام مرحلة دقيقة من المواجهة مع السلطات الغربية، التي باتت تتعامل مع مؤسسات الإخوان كجسم موازٍ يحمل أجندات تتقاطع مع قضايا الأمن القومي والتطرف الديني. لذا تشهد جماعة الإخوان المسلمين اليوم واحدة من أعقد أزماتها البنيوية في أوروبا، مع تصاعد الجهود الأوروبية لمحاصرة أنشطتها ووضع قياداتها ومصادر تمويلها تحت رقابة مشددة، ما يهدد بانهيارات داخلية حادة وتفكك هيكلي يُفقد التنظيم قدرته على التحكم في مفاصل النفوذ والسلطة داخل شبكاته المنتشرة.

وتتأثر الروافد المالية للجماعة بشكل مباشر بهذه الحملة، في ظل تضييق الخناق القانوني والأمني، ما يدفع بقيادات التنظيم إلى البحث عن ملاذات بديلة خارج أوروبا، في دول مثل ماليزيا، وغرب أفريقيا، وشرق آسيا، حيث يُعتقد أن البيئة الرقابية أقل صرامة.

وبحسب تقديرات أمنية، تتعرض الجماعة للمرة الأولى لمواجهة أوروبية مباشرة، تهدد واحدة من أهم ساحاتها التنظيمية في الخارج، رغم العلاقات التي تربط بعض قياداتها بمسؤولين أوروبيين. غير أن الضغط الشعبي والسياسي داخل أوروبا بات يشترط التحرك ضد الجماعة كجزء من استراتيجية مكافحة التطرف التي أقرها الاتحاد الأوروبي نهاية 2020.

وفي إطار الاستراتيجية الأوروبية لمكافحة التطرف، شُرعت سلسلة من الإجراءات الصارمة تمثلت في تشديد الرقابة على الجماعة، تتبع مصادر تمويلها، وفرض عقوبات قانونية مشددة. غير أن هذه الخطوات، على الرغم من جديتها، لم تحقق النتائج المرجوة بعد، ما يستدعي تعزيز أدوات التصدي عبر أربعة محاور رئيسية:

  1. تشديد الرقابة الشاملة على المؤسسات المرتبطة بالإخوان وحرمانها من التمويل الرسمي أو الخارجي، ومنعها من الاندماج المجتمعي.
  2. محاسبة المتورطين بعلاقات مع الجماعة في الشرق الأوسط، خاصة في ضوء إدراجها على لوائح الإرهاب في دول عربية، وتورطها في تمويل عمليات إرهابية.
  3. توسيع التنسيق الأمني مع الدول العربية الحليفة لرصد وتتبع نشاط التنظيم وشبكاته العابرة للحدود.
  4. إصلاح تشريعي وأمني يمنح الأجهزة الأمنية والاستخباراتية مرونة أكبر في التعامل مع التهديدات المرتبطة بالتنظيم.

ورغم الجهود المكثفة التي تبذلها دول مثل فرنسا وبلجيكا، لا يزال خطاب الإخوان المتطرف فاعلًا داخل عدد من المنابر الإسلامية، مستغلًا شعارات الإسلاموفوبيا لاستدرار التعاطف، وتوسيع قاعدة التجنيد بين الشباب في الجاليات المسلمة. كما تعتمد الجماعة أساليب التضليل والتخفي، مع إنكار أي صلات تنظيمية مباشرة، ما يعقّد جهود كشف امتداداتها داخل أوروبا. لذلك، تُعد المواجهة الفكرية إلى جانب الأمنية ضرورة قصوى، خصوصاً في ظل استمرار “غسل العقول” الذي تمارسه الجماعة عبر أدواتها الناعمة داخل المجتمعات.

ولا يُستبعد، في ضوء هذا المناخ التصعيدي، أن تتجه بعض العواصم الأوروبية إلى تصنيف الإخوان تنظيمًا إرهابيًا، خصوصًا بعد توثيق ارتباطاته بكيانات متطرفة، وتوسيع نطاق قرارات الحظر التي طالت مؤسساته ورموزه في عدد من الدول الأوروبية. ويبقى تجفيف منابع التمويل، وفق خبراء، السبيل الأنجع للحد من تمدد التنظيم، وتقليص قدرته على التأثير والنفوذ.

الحرة




انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات

آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية