
شهد الأول من حزيران (يونيو) الجاري تطورات عسكرية واستراتيجية لافتة، في سياق الحرب المستمرة بين روسيا وأوكرانيا، وصفتها وسائل إعلام غربية بأنّها بدأت بــ "سلسلة هجمات أوكرانية جريئة في عمق الأراضي الروسية".
وقد تزامنت هذه الأحداث مع تصاعد الحديث عن هجوم أوكراني مضاد واسع النطاق مع بداية الصيف.
معركة السكك الحديدية
في الساعات الأولى من فجر الأحد وقعت انفجارات غامضة؛ أدت إلى انهيار جسرين في جنوب غرب روسيا قرب الحدود الأوكرانية؛ أحدهما جسر لسكة حديد في مقاطعة كورسك، والآخر جسر طرقي في مقاطعة بريانسك. وأسفرت هذه الانفجارات عن خروج عدة قطارات عن مسارها، حيث انقلب قطار ركاب ليلي في بريانسك متسببًا في مقتل ما لا يقلّ عن (7) أشخاص، وإصابة نحو (66) آخرين بجروح. وأظهرت صور نُشرت على حساب حاكم مقاطعة كورسك المؤقت مشاهد لقطار بضائع محطّم عند موقع انهيار جسر السكة الحديدية.
وعلى الفور، أعلنت السلطات الروسية حالة الطوارئ المحلية، وبدأت تحقيقات جنائية في الحادثين، واصفةً إيّاهما بأنّهما "عملان تخريبيان إرهابيان" محتملان. وقد أكدت لجنة التحقيق الروسية في بيان رسمي أنّ انهيار كلا الجسرين كان بفعل متفجرات زرعها مجهولون.
وتشير أصابع الاتهام الروسية إلى ضلوع أوكرانيا أو عناصر موالية لها في تنفيذ هذه العمليات التخريبية النوعية. فموقع الحادثتين عند مناطق حدودية (بريانسك وكورسك) لطالما اشتكت موسكو من تسلّل فرق تخريبية عبرها. وفي الحقيقة، لم تعلن كييف رسميًا مسؤوليتها عن تفجير الجسرين؛ إذ التزمت الصمت الرسمي المعتاد حيال هجمات داخل العمق الروسي. إلا أنّ مصادر أوكرانية غير رسمية ـ حسب تقارير إعلامية فرنسية ـ أبدت رضاها الضمني، واعتبرت ما حدث جزءًا من "دفع الثمن"، عقابًا لموسكو على قصفها مواقع تشمل بنية تحتية أوكرانية. وقد نقلت صحيفة (إكسبرس) عن مسؤول أمني أوكراني، رفض الكشف عن اسمه، قوله: "إنّ عرقلة خطوط الإمداد الروسية عمل مشروع، يأتي ضمن جهود الدفاع الذاتي" في إشارة إلى تعطيل السكك الحديدية التي تستخدمها القوات الروسية.
يُذكر أنّه في نيسان (أبريل) الفائت أعلنت روسيا إحباط محاولات تخريب لسكك الحديد في مقاطعة فولغوغراد البعيدة نسبيًا عن أوكرانيا، واتهمت شابًا محليًا بأنّه قام بذلك "بتوجيه من المخابرات الأوكرانية". وحُكم على ذلك الشاب بالسجن (14) عامًا في قضية أثارت اهتمامًا؛ لكونها مؤشرًا على حرب خفية تدور على خطوط إمداد الجيش الروسي. وبالتالي، فالتفجيرات الأخيرة تُعتبر ـ وفق محللين ـ تصعيدًا كبيرًا في تكتيكات التخريب الأوكرانية، إذ أصابت في آنٍ واحدٍ هدفين استراتيجيين، خط سكك حديدية، ومحور نقل بري، داخل روسيا، وعلى مسافة ليست بالقصيرة من الحدود، خصوصًا في بريانسك التي تبعد عشرات الكيلومترات داخل العمق الروسي.
وشكلت هذه الهجمات ضربة للخدمات اللوجستية الروسية؛ فخط السكك الحديدية المتضرر في كورسك يُستخدم لنقل معدات وإمدادات من وسط روسيا إلى جبهات أوكرانيا الشرقية. وكذلك الجسر البري في بريانسك يقع على طريق إمداد نحو جبهات الشمال الأوكراني؛ ممّا أدى إلى تعطيل حركة القطارات والقوافل العسكرية في هذين المحورين لعدة أيام، وهو ما سوف يُربِك الجهد الحربي الروسي، لا سيّما إذا كان الهجوم الأوكراني الكبير متوقعًا ووشيكًا.
روسيا تتوعد
على الجانب الروسي، تابع الرئيس فلاديمير بوتين تطورات تلك الليلة العصيبة، وأفادت تسريبات إعلامية أنّه طوال الليل كان يتلقى تقارير متلاحقة من جهاز الأمن الفيدرالي (FSB) ووزارة الطوارئ بشأن حجم الأضرار ومسار التحقيق.
وفي صباح الأول من حزيران (يونيو) أظهر المسؤولون الروس نبرة تحدٍّ، إذ صرّح حاكم بريانسك ألكسندر بوغوماز أنّ "الإرهابيين لن يفلتوا من العقاب"، بينما توعد رئيس مجلس الدوما فياتشيسلاف فولودين بأنّ "هذه الجرائم لن تزيد روسيا إلّا تصميمًا على تحقيق أهداف عمليتها الخاصة في أوكرانيا".
من جهتها، أعلنت هيئة السكة الحديد الروسية تحويل مسار القطارات إلى خطوط بديلة وبدء العمل في إنشاء جسور مؤقتة. كما شوهدت وحدات من قوات الحرس الوطني الروسي تنتشر لتأمين مواقع البنى التحتية الأخرى، مثل: جسور الطاقة والاتصالات، خوفًا من موجة تخريب إضافية.
كما نشرت السلطات حواجز تفتيش على الطرق في المنطقتين المتضررتين، مع تكثيف للمراقبة الجوية باستخدام مروحيات وطائرات مسيّرة بحثًا عن أيّ مجموعات تخريب أخرى قد تكون ناشطة.
هجوم جوي واسع النطاق
تأتي هذه الأحداث ضمن سياق أوسع من التصعيد. فبعد ساعات فقط من تفجيرات الجسرين، وردت أنباء عن هجوم جوي أوكراني واسع النطاق بالطائرات المسيّرة على عدة قواعد جوية استراتيجية داخل روسيا.
وأكدت صحيفة (لوموند) الفرنسية ـ نقلًا عن مصادر أمنية أوكرانية ـ أنّ كييف نفذت يوم الأول من حزيران (يونيو) الجاري عملية واسعة لتدمير قاذفات القنابل الروسية بعيدة المدى، استهدفت (5) مطارات عسكرية في عمق روسيا، في مناطق مورمانسك وإيركوتسك وإيفانوفو وريازان وأمور.
الهجوم ألحق أضرارًا بأكثر من (41) طائرة حربية روسية متنوعة، بين قاذفات ومقاتلات، وقد عُدَّ أحد أكبر الاختراقات الأوكرانية داخل المجال الروسي منذ بداية الحرب، حيث استهدف الهجوم بشكل مكثف قاعدة في شرق سيبيريا، تبعد آلاف الكيلومترات عن حدود أوكرانيا.
بدوره، أكد مسؤول أمني أوكراني أنّ كييف دمرت أكثر من (40) طائرة روسية، في هجوم بطائرات مسيّرة داخل العمق الروسي، ونقلت (أسوشيتد برس) عن المسؤول قوله إنّ الإعداد لتنفيذ هذا الهجوم استغرق أكثر من عام ونصف العام. لافتًا إلى أنّ العملية جرت عن طريق نقل الطائرات المسيّرة في حاويات، عبر شاحنات إلى عمق الأراضي الروسية.
بدورها، نشرت الاستخبارات الأوكرانية (SBU) لاحقًا عبر قنوات غير رسمية صورًا بالأقمار الصناعية تظهر حرائق وأضرارًا في بعض المدارج الروسية. ومع أنّ موسكو قلّلت من أهمية الضربات ووصفتها بالمبالغ فيها، إلّا أنّ وزارة الدفاع الروسية أقرّت بوقوع هجمات أوكرانية بطائرات دون طيار، وأنّه تمّ إحباط معظمها مع بعض الأضرار المحدودة.
المراقبون اعتبروا قصف المطارات في العمق الروسي خطوة نوعية، ستؤثر على قدرة سلاح الجو الروسي على شن غارات صاروخية، خاصة إذا تأكد خروج عدد من القاذفات بعيدة المدى (طراز تو-95 وتو-160) من الخدمة مؤقتًا نتيجة الأضرار.
الاتجاه نحو ضرب العمق الروسي
يشير التحليل الاستراتيجي لهذه التطورات إلى أنّ أوكرانيا ـ بتخطيط ودعم استخباري غربي على الأرجح ـ انتقلت إلى استراتيجية نقل الحرب إلى العمق الروسي، لضرب شبكات الإمداد مثل السكك والجسور، وتحجيم القدرات الهجومية بضرب القاذفات الاستراتيجية التي تستخدمها موسكو ضد أوكرانيا.
هذا النهج له عدة أهداف: أوّلًا إرباك القيادة الروسية ورفع كلفة الحرب سياسيًا أمام الرأي العام الروسي، عبر إظهار عجز السلطات عن تأمين الداخل.
ثانيًا عرقلة اللوجستيات: إذ تعتمد القوات الروسية بشكل كبير على القطارات لنقل المعدات الثقيلة إلى الجبهات. حيث إنّ قطع خط سكك حديدي رئيسي في كورسك يؤخر وصول الذخائر أو قوات الاحتياط أيامًا، في ذروة المعارك. كما أنّ مهاجمة المطارات العسكرية في عمق روسيا تهدف إلى كبح حملة القصف الصاروخي الروسي للبنية التحتية الأوكرانية.
ثالثًا إعداد ساحة المعركة: يقرأ بعض المحللين هذه الهجمات على أنّها تمهيد أو إشغال للروس عن هجوم أوكراني بري كبير، قد يبدأ قريبًا على جبهات زابوروجيا أو دونيتسك. حيث إنّ موسكو أمنيًا وسعيها نحو تأمين خطوطها يقلل من تركيزها أو تعزيزاتها في الخطوط الأمامية. على أنّ لهذه الضربات تداعيات سياسية كذلك، إذ تمنح أوكرانيا زخمًا معنويًا كبيرًا داخليًا؛ فقد صرّح الرئيس فولوديمير زيلينسكي في خطاب له مساء الأول من حزيران (يونيو) قائلاً: "لقد أثبتنا مجددًا أنّ يد المعتدي لن تكون بمنأى عن الرد، إننا نحقق نتائج باهرة على مسافات طويلة"، في إشارة مبطنة إلى الهجمات داخل العمق الروسي.
ويمثّل التصعيد الأوكراني الأخير نقطة تحوّل تكتيكية في الحرب الروسية الأوكرانية، فمن جهة، كشفت أوكرانيا عن قدرات اختراق عالية، سواء بتخطيط العمليات التخريبية في قلب روسيا، أو بتطوير مسيّرات بعيدة المدى تصل إلى مناطق عميقة، وربما انطلقت بعض تلك المسيّرات من داخل روسيا نفسها، بمساعدة خلايا استخباراتية.
ومن جهة أخرى، تجد روسيا نفسها أمام معضلة أمنية داخلية متفاقمة، فكلما طال أمد الحرب، ظهرت نقاط ضعف جديدة. وسيترتب على ذلك احتمال قيام موسكو بإعادة توزيع لقواتها، كأن تضطر لنشر المزيد من القوات لحراسة الحدود والمنشآت الحيوية بعيدًا عن الجبهة، وهو ما يعني سحب بعض الوحدات من خط القتال، وهذا بحدّ ذاته مكسب استراتيجي لكييف.
وفي حال حدوث الهجوم البري الأوكراني، المتوقع في أواخر حزيران (يونيو) الجاري، ستكون خطوط السكك الحديدية والجسور في جنوب روسيا وشبه جزيرة القرم تحت تهديد متزايد لضرب مؤخرة الجيش الروسي وإبطاء ردّه.
في المقابل، قد تلجأ موسكو إلى تكتيكات غير تقليدية، مثل تكثيف الهجمات السيبرانية أو شن عمليات تخريبية في الداخل الأوكراني؛ فالحرب لم تعد مقتصرة على ساحات كوسيك ودونيتسك وزابوروجيا، بعد أن شملت البنية التحتية الحيوية في العمق الروسي، في مرحلة خطرة من التصعيد قد تقرّب الحرب من منعطفات أكثر حدة.
وربما تختبر روسيا منظوماتها الأمنية، وتكيف تكتيكاتها لحماية عمقها، فيما ستسعى أوكرانيا لاستثمار الزخم ومواصلة ضغطها المركز على نقاط الضعف الروسية.
ويمكن القول إنّ تداعيات هذا التصعيد سياسية بقدر ما هي عسكرية؛ فقد تعيد تشكيل حسابات الكرملين حول كلفة الاستمرار في الحرب طويلة الأمد. وإذا شعر صناع القرار الروس أنّ العمق الاستراتيجي لبلادهم بات مهددًا بشكل جدي ومستمر، فقد يواجهون ضغوطًا داخلية لإيجاد مخرج تفاوضي أو حل وسط، خشية انزلاق الوضع لما هو أسوأ.