ليبيا بين نهاية خارطة الطريق وفشل المسار الدستوري

ليبيا بين نهاية خارطة الطريق وفشل المسار الدستوري


22/06/2022

الحبيب الأسود

انتهت الآجال القانونية للشرعية التي حظيت بها حكومة الوحدة الوطنية الليبية المنبثقة عن ملتقى الحوار السياسي وفق مخرجات اجتماعات تونس في نوفمبر 2020 واجتماعات جنيف التي تلتها، والتي كانت تعد بانتخابات رئاسية وبرلمانية خلال فترة انتقالية مدتها 18 شهرا، لكن العبث السياسي من قبل الأطراف الداخلية والخارجية والجماعات المتمعشة من تأبيد الصراع أنهى خارطة الطريق وأطاح بأولوياتها لفائدة جملة من الشعارات الوهمية، ليجعل من يوم الثاني والعشرين من يونيو 2022 يوما جديدا في سياق مختلف تماما.

مرة أخرى، فشلت بعثة الدعم الأممية وانتهت وعود المستشارة السياسية للأمين العام للأمم المتحدة المكلفة بالملف الليبي ستيفاني ويليامز إلى فراغات لن يكون من اليسير ملؤها بعد انهيار الجولة الثالثة من المفاوضات المنعقدة بالقاهرة والإعلان رسميا عن عجز وفدي مجلسي النواب والدولة في التوافق حول جملة قوانين المرحلة الانتقالية المؤدية للانتخابات.

لم يكن فشل المسار الدستوري مفاجئا لأحد من المراقبين، فما قامت به ويليامز كان يشير إلى أنه مسار بلا أفق في ظل واقع يسيطر عليه صراع الإرادات؛ وفد مجلس الدولة مثلا كان يعبر عن إرادة الإخوان وأمراء الحرب وقادة الميليشيات والتيار الثوري الراديكالي وأصحاب الأجندة الانعزالية الجهوية ممن يهدفون إلى تدوين دستور على مقاس تطلعاتهم للانفراد بالسلطة والثروة والسلاح، الغاية من ورائه إيجاد قاعدة دستورية للانتخابات تحظر على المنافسين الجديين الترشح للرئاسيات ومن أبرزهم خليفة حفتر، بدعوى أنه عسكري لا يجوز له الخوض في السياسة وأنه يمتلك جنسية ثانية غير الجنسية الليبية.

في الوقت الذي يتجه فيه البرلمان التركي لتجديد اتفاقية إرسال قوات عسكرية إلى غرب ليبيا، تبدي قوى سياسية وميليشياوية في طرابلس ومدن الساحل الغربي ميلا واضحا إلى تقسيم البلاد، مع دعوات لم تعد خافية بشن حرب خاطفة على منطقة الهلال النفطي للسيطرة عليها وإخراج قوات الجيش منها. وقد عبّر عنها المفتي المعزول برلمانيا منذ نوفمبر 2014 والمستمر في وظيفته برعاية الحكومات المتتالية بالعاصمة، وتبناها الكثير من حلفائه وأنصاره ممن يعتبرون أن التعايش مع المنطقة الشرقية بجيشها وبرلمانها لم يعد ممكنا.

لكن الأكثر إثارة في الموضوع أن رئيس حكومة الوحدة الوطنية المنتهية ولايتها عبدالحميد الدبيبة والذي يرفع شعار “نعم للانتخابات ولا لعودة الحرب” هو الذي يوفّر كل الظروف الملائمة للعودة إلى مربع الصراع بإصراره على البقاء في الحكم والاستفراد بالسلطة، وقد حوّل مراكز القرار إلى إمبراطورية خاصة به وبالمقربين منه، ولا يزال يعتمد على آلياته الشعبوية في الترويج لصورته ليس فقط كزعيم سياسي غير قابل للخروج من دائرة الضوء، ولكن كمؤتمن على الديمقراطية وكراع للمسار الانتخابي الذي قد يتأخر لسنوات أخرى.

استطاع الدبيبة أن يعقد تحالفات مصيرية في داخل البلاد مع محافظ مصرف ليبيا المركزي ومع رؤساء عدد من المؤسسات السياسية التي أفلتت خلال السنوات الماضية من إحداث أي تغيير على رأسها، واستطاعت أن تتجاوز اتفاق منتجع أبوزنيقة المغربي بين مجلسي النواب والدولة لتبقى في مواقعها بما يشير إلى وجود أياد طولى، خارجية بالأساس، تمارس نفوذها بقوة لتبقي على من تراهم الأقدر على خدمة مصالحها في مراكز القرار، مع ميل واضح إلى منع مرشحي المنطقة الشرقية والمقربين من البرلمان وقيادة الجيش من تحمل مسؤوليات أساسية بسبب نزوعهم إلى الخطاب السيادي من جهة، وفقدان بعض القوى الغربية ثقتها فيهم من جهة أخرى، وقد تبيّن ذلك بالخصوص في العلاقة مع ممارسة البرلمان حقه الدستوري في حجب الثقة عن حكومة الدبيبة بعد فشلها في الإيفاء بتعهداتها وتحقيق الأهداف التي تشكلت من أجلها، ومن ثمة في تكوين حكومة جديدة ومنحها الثقة وهي حكومة الاستقرار برئاسة فتحي باشاغا الذي كان يعتبر من أكثر سياسيي المنطقة الغربية عداء للجيش الوطني ولمجلس النواب الذي يعتبر من أعضائه المقاطعين منذ انتخابه في العام 2014 بعد اندماجه في منظومة “فجر ليبيا”.

مارس باشاغا عقلانية كان من المفترض أن تسود جميع الفاعلين السياسيين والميدانيين، عندما اتجه بعد التأكد من فشل الأطراف الداخلية والخارجية في تأمين انتخابات الرابع والعشرين من ديسمبر الماضي، إلى بنغازي، وفتح مجالا للتواصل مع عدوه اللدود سابقا المشير خليفة حفتر، ومع مجلس النواب، وانطلق في اتجاه مشروع المصالحة الذي لا غنى عنه ولا فرار منه ولو طال المدى، وتم تكليفه بتشكيل حكومة جديدة يتحدر أعضاؤها من مختلف أرجاء البلاد ولاسيما المنطقة الغربية، واستطاع أن يحظى بثقة النواب، لكن رافضي المصالحة والمتنكرين لمبدأ الشراكة الوطنية اجتمعوا على فكرة التمسك بحكومة الأمر الواقع في طرابلس والحؤول دون التداول السلمي على السلطة، ووجدوا دعما من عواصم غربية لا تريد للوضع العام في ليبيا أن يتغير إلا وفق مصالحها الخاصة وبحسب ما يمكنها ضمانه من مدى التبعية لها ولخياراتها، وهو ما توفر في حكومة الوحدة الوطنية التي تحولت إلى حكومة انقسام سياسي وجغرافي وميداني واجتماعي.

الخميس يعلن المجلس الرئاسي عن رؤيته الاستراتيجية للمصالحة الوطنية كما أعدها عدد من الخبراء، لكن المهتمين بالشأن العام في ليبيا يعتبرون ذلك شكلا من أشكال ذر التراب على العيون، ومحاولة للتغطية على فشل الجولة الثالثة من اجتماعات المسار الدستوري في طرابلس، ولتهميش الخلاف الحكومي في ظل النهاية الفعلية للآجال القانونية لخارطة الطريق المنبثقة عن ملتقى الحوار السياسي المنتهي بدوره منذ أن دفع بالسلطات التنفيذية الحالية في طرابلس إلى الحكم تحت غطاء معلن من شبهات الفساد وشراء الذمم.

هناك كذلك، مؤشرات على نوايا الدفع نحو العودة إلى مربع الفوضى، فتحالف القوى الراديكالية في غرب البلاد بات يحرّض علنا على شن حرب جديدة لوضع اليد على منابع الثروة في وسط وجنوب البلاد، ولاسيما أن حكومة الدبيبة تجد نفسها حاليا محرومة من عائدات النفط، وأمام إمكانية توافق على تقسيم تلك العائدات بينها وبين حكومة باشاغا، وبالتالي أمام حرمان مراكز النفوذ المالي والاقتصادي وشبكات الفساد والمحسوبية والاعتمادات المصرفية من مصادر الكسب الوفير السهل في واحدة من أكبر عمليات نهب المال العام في التاريخ.

سيكون على المجتمع الدولي أن يعترف بفشله في ليبيا، وأن يتأمل جيدا المشهد على ضوء قرارات مجلس الأمن ومخرجات مؤتمري برلين الأول والثاني ومؤتمر باريس ومؤتمر طرابلس ومواقف الاتحاد الأفريقي والجامعة العربية والاتحاد الأوروبي وغيرها؛ فالميليشيات لا تزال ترابط في مواقعها بسلاحها المرتفع فوق سلاح الحكومة، وجحافل المرتزقة والقوات الأجنبية لم تغادر البلاد وإنما تستمر في تدنيسها للأراضي الليبية. وتوحيد المؤسسات تبين أنه كان صوريا، والحوار السياسي أثبت فشله، وبدل حكومة واحدة أصبحت للبلاد حكومتان، والشعب يعاني من الفقر والحاجة والعوز أمام هيمنة هوامير الفساد، واللجنة العسكرية المشتركة تجد نفسها خاضعة لضغوط السياسيين، واللجنة الدستورية تأكد عجزها عن تجميع ما فرقته المصالح والحسابات الشخصية والفئوية.

في هذا السياق، يتواصل الوضع في ليبيا على ما هو عليه، وتبدو الأمم المتحدة أعجز من أي وقت مضى عن إيجاد الحلول المناسبة، ولاسيما أن جزءا مهما من عملها هو المناورة لفائدة أطراف بعينها في غرب البلاد، مع تجاهل تام لإرادة الشعب، ولمبدأ المصالحة الوطنية الذي تخشاه بعض القوى الخارجية نتيجة ما قد يؤدي إليه من وصول أطراف غير مرغوب فيها للحكم.

ومع انتهاء شرعية حكومة الوحدة الوطنية المنبثقة عن ملتقى الحوار السياسي، سيتجه المستفيدون منها ومن بقائها للدفع نحو أزمة طاحنة في مواجهة حكومة باشاغا لتكون نتيجتها كنتيجة حكومة الوفاق برئاسة فائز السراج، والتي جاءت لتقود مرحلة انتقالية مدتها 18 شهرا فاستمرت في الحكم لمدة ست سنوات من الدمار والخراب والدماء والفساد، فالمهندس الدبيبة متمسك بالحكم وليس مستعدا للتنازل عنه، وهو لا يعبر بذلك عن رغبته الشخصية ومصالحه الأسرية والفئوية، ولكن كذلك على مصالح قوى داخلية وخارجية تخاف من السلام أكثر مما تخاف من الحرب، ولاسيما أن الاستثمار في الحرب والصراعات يبقى أحد وجوه الفساد العابر للحدود، كما مثّل في داخل البلاد مصدر  النفوذ الاجتماعي والسياسي والثراء الفاحش لطبقة جديدة تشكلت خلال السنوات الماضية عبر النهب الممنهج للمال العام.

بفشل ويليامز الجديد والمتجدد وانتهاء شرعية حكومة الدبيبة، سيكون على الوطنيين الليبيين الالتفاف حول حكومة الاستقرار التي تباشر عملها من سرت، وتوحيد صفوفها لتحقيق المصالحة الوطنية بين القوى المستعدة لها على أن يترك الباب مشرعا لكل من يرغب في الالتحاق بركب الوفاق، وأن يتم التأكيد من جديد على جملة الأولويات القادرة على ضمان تجاوز الأزمة ومنها حل الميليشيات وإجلاء المرتزقة وتوحيد المؤسسة العسكرية وطي صفحة الماضي بالإعلان عن انتخابات رئاسية وبرلمانية وفق دستور يتحدد من خلال مشروع المصالحة الشاملة لا من خلال حسابات الفرقاء وتناقضات مصالحها.

عن "العرب" اللندنية

الصفحة الرئيسية