
تظل جماعات الإسلام السياسي عامة، وجماعة الإخوان المسلمين خاصة، على اعتقادها الراسخ الذي تُصدّره للجميع، على مدار سنواتها في العمل الدعوي، أنّها دعوات سلمية، تنكر في سبيل ذلك جميع الاتهامات الموجهة إليها باستخدام العنف المسلح سبيلاً للسيطرة على مقاليد الحكم في الدول التي عملوا فيها، وتؤكد الكتابات المتعاقبة لقيادات الجماعات على أنّ بعض الأحداث التي اتُهم فيها شباب الإخوان، أو غيرهم من شباب الدعوة السلفية، هي أحداث فردية، نفذها شباب متحمس دون العودة إلى رأي القيادة. هكذا أنكرت الجماعة علاقتها بمقتل القاضي الخازندار، أو مقتل النقراشي، أو حتى محاولة اغتيال الزعيم الراحل جمال عبد الناصر في حادث المنشية عام 1954.
وفي سوريا أيضاً، نفت الجماعة أيّ علاقة لها بتنظيم الطليعة المقاتلة المسلح، الذي قاد عمليات دموية في حماة وحلب على مدار عدة سنوات، منتصف السبعينات وبداية الثمانينات، وصولاً إلى اقتحام قوات حافظ الأسد مدينة حماة عام 1982، في اشتباكات دموية أودت بحياة عشرات الآلاف من أعضاء الجماعات الدينية.
عام 1966 شكل مجموعة من طلاب العلم خلية الجهاد الأولى في القاهرة، هدفها الانقلاب على حكم عبد الناصر
ومع تصاعد الأحداث بعد انتفاضات الربيع العربي، تظل عملية الإنكار مستمرة من أعضاء الجماعات الدينية، وقد خرج "أسعد البيك" إمام أهل السنّة والجماعة في شمال سيناء، بعد فضّ اعتصامي رابعة والنهضة عام 2013، ليخطب في أتباعه مؤكداً أنّ دعوتهم سلمية، وأنّهم لن ينجروا لحمل السلاح في مواجهة الدولة، مؤكداً أنّ اعتصامات الجماعات الدينية في القاهرة، رفضاً لخلع الرئيس السابق محمد مرسي من كرسي الحكم في البلاد، كانت اعتصامات سلمية، بالمخالفة لما أكدته الدولة على الجانب الأخر، وحين سئل البيك في لقاء تلفزيوني أذاعته فضائية (الجزيرة) عام 2012 عن جماعة "أكناف بيت المقدس" المقاتلة في جبال سيناء، أنكر وجودها قائلاً: "لا يوجد في سيناء أيّ تكفيريين"، وما لبث أن قبض عليه نهاية عام 2013، باعتباره قائد السلفية الجهادية، وهي مسألة تدفعنا لطرح السؤال من جديد، "هل جماعات الإسلام السياسي أصحاب دعوة سلمية، أم مسلحة"؟
تنظيم 1965 ومجموعات الجهاد الأولى
إن كان التحول الأهم في حياة سيد قطب، بدأ مع عودته من بعثته العلمية لأمريكا عام 1950، فإنّ التحول الأبرز في خريطة الجماعات الجهادية حدث عام 1965، مع كشف حكومة عبد الناصر، في ذلك الوقت، مخططاً لإعادة إحياء جماعة الإخوان من جديد، بعد سنوات من الهروب والاعتقالات، بدأت بمحاولة اغتيال ناصر عام 1954.
في ذلك العام لم تنكشف فقط مخططات بعث الإخوان من جديد، لكن حدث التحول في شكل المواجهة بعد ذلك بعام، تحديداً عام 1966، حين قرّر عدد من طلاب العلم تشكيل خلية الجهاد الأولى في القاهرة، هدفها السعي من أجل الانقلاب على حكم ناصر، حجتهم في ذلك أنّ جماعة الإخوان أخطأت حين آمنت للضباط الأحرار، الذين سرقوا ثورتهم كما تروج أدبيات الجماعة، وكان مؤسسها الأول إسماعيل طنطاوي، بالتعاون مع علوي مصطفى، ونبيل البرعين، ويحيى هاشم، ورفاعي سرور، ثم انضم إليهم لاحقاً أيمن الظواهري. وكان ممّن انفصل عنهم لاختلافات في الرؤى الفقهية صالح سرية، مؤسس فرع الجهاد الذي اشتهر إعلامياً باسم "تنظيم الفنية العسكرية".
وفي العام 1965 تبلورت أفكار "جماعة المسلمين" المشهورة إعلاميّاً باسم "جماعة التفكير والهجرة"، ونظّر لها في السجن علي إسماعيل، شقيق عبد الفتاح إسماعيل، أحد الستة الذين أعدموا مع سيد قطب.
ما لبث علي إسماعيل أن تخلى عن أفكار التنظيم، ليتولى مسؤوليته شكري مصطفى، أحد المقبوض عليهم على خلفية قضية تنظيم 1965، ومحاولة بعث جماعة الإخوان من جديد.
ومن التحولات المهمة في خريطة الجهاد الناتجة عن أحداث 1965 تلك الخاصة ببدء تبلور فكر السلفية الجهادية الذي يسيطر على مشهد الجماعات المتطرفة الآن، في تنظيمي (داعش والقاعدة).
عروس كرداسة
في أثناء القبض على مجموعات منتمية لجماعة الإخوان في محافظات مصر المختلفة سعت للعمل من أجل بعث التنظيم من جديد عام 1965، تقدمت قوات الجيش للقبض على سيد نزيلي عوضية، من قرية كرداسة، دخلت قوات الشرطة العسكرية القرية مرتدية زياً مدنياً لا يفصح عن هويتها، ممّا ألقى ريبة في نفوس أهالي القرية، فقاموا بالاعتداء عليهم، بعد أن شاهدوهم يقتادون عروس عوضية، السيدة فوزية عبد المجيد عبد السميع، وهي لم تزل عروساً في أسبوعها الأول.
في العام 1965 تبلورت أفكار "جماعة المسلمين" المشهورة إعلاميّاً باسم "جماعة التفكير والهجرة"
على إثر المواجهات أصيب أحد الضباط وفرّ آخرون، بينما حررت العروس، وبعد مرور أقل من ساعة على الاشتباكات حوصرت كرداسة بالطائرات الحربية والمدرعات؛ بحثاً عن سيد نزيلي وعروسه، في الموقعة التي سطّرت لها أدبيات الإخوان باسم "عروس كرداسة".
صدر الحكم على سيد نزيلي في قضية تنظيم 1965 بالسجن المؤبد، وأفرج عنه بعد تصالح النظام مع الإسلاميين عام 1975، ثم ترقى في المناصب داخل الجماعة حتى أصبح عضواً في مكتب الإرشاد.
في لقاء تلفزيوني معه، أكد سيد نزيلي أنّ الجماعة لا علاقة لها بعمليات القتل المنسوبة إليها زوراً، على حدّ قوله، ونفى سيد نزيلي واقعة محاولة اغتيال ناصر، مشيراً إلى أنّه حادث مزيف لاستخدامه من أجل ضرب الدعوة الإسلامية، لكنّ قراءة الأسماء المحيطة بسيد نزيلي عوضية وزوجته تشير إلى غير ذلك.
ميلاد التيار القطبي في السجون
كان بصحبة سيد نزيلي في السجن، أحمد عبد المجيد عبد السميع، المقبوض عليه في قضية تنظيم 1965، والأخ الأكبر لزوجة نزيلي فوزية عبد المجيد، وأحد السبعة المحكوم عليهم بالإعدام مع سيد قطب، غير أنّ الحكم خفف عن أربعة منهم، أحدهم عبد المجيد، وفي القضية نفسها زاملهم في السجن عبد المجيد الشاذلي، وقد سبق أن تتلمذ في الإخوان على يد محمد يوسف هواش الذي أعدم مع قطب، وعبد الفتاح إسماعيل في قضية التنظيم.
خرج عبد المجيد والشاذلي من السجن منتصف السبعينات، بعد تصالح نظام السادات مع جماعات الإسلام السياسي؛ على خلفية تدخل الملك فيصل بن عبد العزيز، ملك السعودية، وفي العام نفسه أسسا سوياً جماعة "أهل السنّة والجماعة"، التي اشتُهرت باسم "تيار القطبيين".
في العام 1964 أيضاً كان الطالب السوري مروان حديد المولود في مدينة "حماة" قد أنهى دراسته في جامعة عين شمس، وتأخر حديد في دراسته بالقاهرة لسنوات؛ بعد عدة اعتقالات من قبل المخابرات المصرية، على خلفية اعتناقه أفكار جماعة الإخوان، وفي السجن تعرّف إلى سيد قطب وأفكاره، ليعود حديد إلى سوريا، مؤسساً إحدى مجموعات الإخوان المسلحة في سوريا، التي سمّاها "الطليعة المقاتلة".
كتب موقع "طريق النجاة"، أحد المنابر الإعلامية لدعوة "أهل السنّة والجماعة" التي أسسها عبد المجيد الشاذلي، عن مروان حديد، باعتباره من رواد الجهاد في دعوة أهل السنّة والجماعة، وقد وضعوا اسمه إلى جانب سيد قطب، ومحمد يوسف هواش، وأحمد عبد المجيد عبد السميع، وعز الدين القسام، وآخرين.
مات مروان حديد في سجون حزب البعث عام 1976، ليخلفه عضو جماعة الإخوان عدنان عقلة، الذي بدأ المواجهة المسلحة مع الدولة بتنفيذ عملية قتل (300) طالب علوي بمدرسة حربية في 16 حزيران (يونيو) 1979، العملية التي استنكرتها مجموعات الإخوان الأخرى العاملة في سوريا، غير أنّ جميع تنظيمات الإٍسلام السياسي التي استنكرت تلك العلمية، ما لبثت أن توافقت تحت راية "الوفاق الإسلامي"، مع بدء مهاجمة قوات حافظ الأسد لمدينة حماة؛ على خلفية تعدد عمليات الطليعة المقاتلة المسلحة، تلك المواجهات أضحت واحدة من المذابح التي لا تنسى في التاريخ السوري، وقد قتل على إثرها آلاف السوريين في مدينة حماة.
تعرّف مروان حديد إلى سيد قطب في السجن، ولاحقاً أسس مجموعات الطليعة المقاتلة في سوريا
تحولات العمل المسلح من القطبيين إلى داعش
في تلك الفترة، ومع نهايات الثمانينات ورحيل الاحتلال الإسرائيلي عن منطقة سيناء المصرية، وصعود المدّ الإسلامي فيما عرف بـ "الصحوة الإسلامية"، برز النشاط الدعوي في سيناء، وكان من قيادات الدعوة هناك أسعد البيك في العريش، الذي يُعدّ امتداداً لدعوة أهل السنّة والجماعة، التي أسسها تيار القطبيين، المقبوض عليهم في تنظيم 1965.
كان البيك أحد المقبوض عليهم على خلفية أحداث تفجيرات شرم الشيخ وطابا عام 2005، باعتباره من منظّري الدعوة السلفية في المدينة، الذين تأثر بهم خالد مساعد، مؤسس تنظيم "التوحيد والجهاد" ومنفذ التفجيرات، وقد تأثر مساعد أيضاً بفكر أبي مصعب الزرقاوي الأردني، مؤسس "التوحيد والجهاد" في العراق، الجماعة التي تطورت مسمياتها فيما بعد، حتى أصبحت "داعش"، دولة الإسلام في العراق والشام.
في السجن انضم البيك إلى دعوات المراجعات التي قادها أمراء الجماعات الإسلامية، وبعد أحداث كانون الثاني (يناير) هرب أغلب شباب سيناء، الذين تأثروا بفكر الدعوة السلفية الجهادية، وبعض المقبوض عليهم من تنظيم التوحيد والجهاد، ثم عادوا إلى سيناء ليؤسسوا تنظيم "أكناف بيت المقدس"، أو "أنصار بيت المقدس"، مع بعض الفارين من غزة إلى سيناء عبر الأنفاق؛ على خلفية مواجهات الدعوة السلفية مع حركة حماس بعد حادث مسجد ابن تيمية عام 2009.
وكان ممّن هربوا من السجن بعد أحدث عام 2011 في القاهرة، كمال علام، مؤسس تنظيم "التوحيد والجهاد" بصحبة خالد مساعد، ورغم أنّه سجن بصحبة آخرين مع أسعد البيك، إلا أنّ البيك ينكر وجود أيّ جماعات تكفيرية أو مقاتلة في سيناء، ناسباً عمليات قتل جنود الجيش هناك إلى أذرع وعملاء الموساد الإسرائيلي؛ كمخطط لتفريغ أرض سيناء من أهلها، حتى يتسنى لإسرائيل احتلالها في أيّ لحظة، لكن في عام 2013 اعتقل البيك، وبعد اعتقاله بعام بايع أنصار بيت المقدس بقيادة كمال علام تنظيم داعش، ليصبح اسمه الجديد "ولاية سيناء".
ممّا سبق من قراءة تحولات العمل الدعوي، الناتجة عن المواجهات الأمنية الشديدة، التي قادتها الأنظمة العربية ضد تيار الإسلام السياسي في الستينات، ربما يُكشف اللثام عن كثير من التفاصيل التي نتج عنها في النهاية تنظيما (داعش والقاعدة). وربط الأحداث ببعضها بعضاً وترتيبها تاريخياً قد يدحض مزاعمهم أيضاً القائلة إنّه ليس هناك تطرّف، ولا تكفير، ولا قتل، وأنّ بداية العمل المسلح دائماً وأبداً في حقيبتهم الدعوية.