الملاحة والصراعات الإقليمية والدولية.. ماذا عن البحر الأحمر؟

الملاحة والصراعات الإقليمية والدولية.. ماذا عن البحر الأحمر؟


08/05/2021

إسلام أبو العز

ما بين الانسحاب والانكماش وإعادة التموضع، اتت إدارة الرئيس الأميركي، جو بايدن، بإعادة هيكلة محددات بلاده الاستراتيجية وعلاقاتها بدول الشرق الأوسط، وفق ضرورات تمزج ما بين ماهو ثابت واصيل في علاقتها ببلدان المنطقة من منظور مصالحها الاستراتيجية، وما بين ماهو مستجد وفق اولويات سياسات واشنطن الخارجية.

في عهد رئيس كثيراً ما يوصف بكلاسيكيته فيما يخص مأسسة استراتيجيات طويلة الأمد، سواء في الداخل او الخارج طيلة مسيرته المهنية قبل ان يصبح الرئيس ٤٧، وذلك بعد سنوات من استقطاب داخلي لم يحدث منذ الحرب الاهلية الأميركية فاقمه وباء كورونا وتداعياته الاقتصادية، وتخبط خارجي تمثل في ترهل السياسات الاميركية الخارجية وطول امد اعادة تقييمها وتموضعها وفق المخاطر والتهديدات التي وصفها بايدن قبل ايام في خطاب ال١٠٠ يوم بأنها تتركز حول سياسات وطموحات كل من روسيا والصين في مختلف مناطق العالم.

المؤشرات الأولى لكيفية تطبيق الإدارة الأميركية لإعادة هيكلة وتقييم علاقة واشنطن بحلفائها تقوم على خفوت اهمية معظم المحددات الكلاسيكية لمصالح واشنطن الاستراتيجية في المنطقة، مثل امن اسرائيل وتدفق النفط، لصالح محدد أهم وهو أمن الملاحة في المنطقة، التي باتت في نظر ساكن البيت الأبيض والمؤسسات الاميركية في خطر من حيث تركها لنزاعات وتنافس الحلفاء، او استقواء الخصوم الاقليميين والدوليين بها في كباشهم مع الولايات المتحدة، استغلالا لسنوات التخبط والتموضع الاميركي طيلة العقد الماضي.

ونظرا للأهمية الجيوسياسية الكبرى للبحر الاحمر والقرن الافريقي على مستويات متعددة لا تقف فقط عند حركة الملاحة الدولية والتجارة، فإن واقع الملاحة فيه بات اولوية لإدارة بايدن، سواء من حيث التأكيد على هيمنة واشنطن ويدها العليا فيما يخص الملاحة الدولية، أو فيما يتعلق بتجنب تحوله لساحة نزاع اقليمي ودولي بوادرها موجودة بالفعل منذ سنوات، وهو ما قد يسمح لقوى دولية انتزاع هذه المكانة من واشنطن في المدى المتوسط حال بقاء الوضع كما هو عليه دون تدخل اميركي عاجل لشغل الفراغ الذي خلفته واشنطن بنفسها.

ترصد هذه الورقة تحولات أمن الملاحة كركيزة اساسية ضمن ركائز الاستراتيجية الاميركية في المنطقة، وممراته الاستراتيجية، وعلاقة ذلك بمستجدات أولويات حلفاء واشنطن التقليديين فيها وعلى رأسهم مصر، وتحديدا فيما يتعلق بالبحر الأحمر، الذي بات في السنوات الاخيرة بمثابة ساحة لصراع مكتوم اوشك على الانفجار لأسباب ودواعي ودوافع متنوعة لمختلف القوى الاقليمية والدولية، ومدى تشظي هذه الركيزة بين مختلف الملفات والصراعات الإقليمية، مثل العودة للاتفاق النووي وأزمة سد النهضة، وعلاقة ذلك بالنزاع بين الثلاثة الكبار (واشنطن، بكين، موسكو)، ومن ثم وضع تصور مبدئي عن المستقبل القريب لمشهد اقليمي معقد أقل تجلياته التأثير على الملاحة في المنطقة والبحر الاحمر بشكل خاص.

التحكم في الملاحة كمرتكز للهيمنة الإقليمية والدولية

“لا تثبت قوة الدولة مهما كان حجمها إلا بمبادرة عسكرية خارج أراضيها”. مقولة للمؤرخ العسكري البريطاني ليدل هارت، في كتابه «الطريق للانتصار في الحروب» المنشور قبل ما يزيد عن سبعين عامًا، والذي تناول خلاله القوة العسكرية المتنامية بسرعة للولايات المتحدة آنذاك، وخاصة فيما يتعلق بورثتها لدور بريطانيا فيما يتعلق بالهيمنة البحرية، والتي رأى أن لها مردود في ميزان القوة الدولية والنفوذ السياسي كقوة عظمى جديدة، وليس فقط دولة قوية من الناحية العسكرية والاقتصادية.

ويدلل على ذلك بأن أولى خطوات واشنطن نحو التحول لقطب عالمي لم تبدأ بعد الحرب العالمية الثانية وهزيمة ألمانيا واليابان وامتلاك واشنطن للأسلحة النووية، بل مع قرار الكونجرس الأميركي إبريل 1917 بإنهاء حالة الحياد وإعلان الحرب على ألمانيا بعد إغراقها للسفن والناقلات الأميركية كسبب مباشر جعل مبدأ عزلة وحياد الولايات المتحدة الجغرافية عن مناطق الصراعات وقتها غير ذي معنى، وهو ما تأكد بأثمان مضاعفة بعد ذلك في الحرب العالمية الثانية، بعد الهجوم الياباني على ميناء بيرل هاربور.

تاريخياً، وعلى نفس المنوال، فإن هذه البديهية المتعلقة بكون التحولات الجيوسياسية الخاصة بالملاحة لا تعني تبدل الموقع الجغرافي للدول المطلة على مسطح مائي والمعنية بالملاحة فيه، ولكن تعني مقدرة دولة أو أكثر أخرى بسط نفوذها عليه كجزء من تجلي تحولها لقوة إقليمية أو دولية؛ فبداية من اسبانيا والبرتغال في عصر الاستكشاف، مروراً بفرنسا وبريطانيا وباقي الدول الأوربية في مرحلة التوسع الاستعماري، وصولاً لروسيا والولايات المتحدة إبان الحرب الباردة ومؤخراً الصين والولايات المتحدة.

حيث يتصاعد صراع نفوذ على بحر الصين الجنوبي والمحيط الهادي بالتوازي مع القلق الأميركي المتصاعد من الطفرة المطردة في القوة البحرية الصينية المتمثلة في تحديث وإنتاج مزيد من الغواصات وحاملات الطائرات، وهو الأمر الذي يعتبر الأميركيون على مستويات عديدة تهديد وجودي لهيمنة واشنطن على البحار الدولية منذ نهاية الحرب الباردة، ناهيك عن العامل الأهم والأشمل والمتمثل في مبادرة الحزام والطريق، والتحولات الاستراتيجية الكبرى في المشهد الاقتصادي العالمي وسلاسل التوريد العالمية، سواء كانت طارئة كتداعيات وباء كورونا، أو مستدامه من حيث تمركز حركة التجارة العالمية من وإلى الصين.

فعلى سبيل المثال وبعد استغناء واشنطن عن نفط المنطقة بدافع من نمو صناعة النفط الصخري وكذلك الاعتماد على المصادر المحلية الأميركية، فإن حركة تجارة نفط المنطقة أضحت تتجه بشكل أكبر نحو بكين، كونها أكبر مستهلك حالياً للوقود الأحفوري بأنواعه.

أما على مستوى إقليمي، فإنه لا يسبق نفوذ وتأثير دولة ما على الإقليم الجغرافي والسياسي الذي تتواجد فيه قبل سيطرتها أو نفوذها على البحار والممرات الحيوية الهامة، وليس فقط نفوذاً أو سيطرة يقتصر على الشق العسكري، ولكن تتعدد أشكال الهيمنة وتتنوع بتناسب مرن ديناميكي بتغير الظروف الذاتية والموضوعية لدول الإقليم بما في ذلك توازن بين العسكري والسياسي والاقتصادي.

 أقرب نموذج لهذه العملية المعقدة المتعددة المستويات ومتغيرة العوامل باستمرارية هو نموذج الشرق الأوسط، وخاصة الخليج والبحر الأحمر وشرق البحر المتوسط، والذي يجمعهم تعدد الدول المطلة على سواحل كل منهم وكونهم ممرات مائية دولية هامة وكذالك الصراعات وفرص التوافق المتتالية بين الدول المُطلة عليه، وأخيراً هيمنة القوى الدولية بدرجات متفاوتة – وإن كان أكبرها الولايات المتحدة- عليها أو بالحد الأدنى ضمان مصالحها وعدم تضررها، مع ترك هامش للتصرف الذاتي لحلفائها لحماية مصالحهم، الذي سرعان ما تحول خلال السنوات القليلة الماضية لمحور تنافس ونزاع بين هؤلاء الحلفاء، واستغلال ورقة الملاحة والممرات البحرية بشكل متعدد الاستخدامات في إدارة خلافاتهم بعضهم البعض، أو حتى كهامش للمناورة مع واشنطن، ولكن ليس على أرضية مناطحة نفوذها بالطبع، ولكن إمكانية ان يكونوا حامل إقليمي لأي طموح روسي أو صيني في ما كان يعتبر مناطق هيمنة خالصة للولايات المتحدة منذ انتهاء الحرب الباردة.

الملاحة في البحر الأحمر بين القوى الإقليمية والدولية

قياساً على المنطقة، فإن البحر الأحمر شكل تاريخياً الساحة الأنسب لإثبات النهج السابق الإشارة إليه لمختلف القوى الإقليمية وخاصة خلال العقد المنصرم، وهو ما جعل من حالة السيولة التي تلت 2011، والتي واكبت ما عُرف بـ”الانكماش الأميركي” بمثابة فرصة لتعزيز طموحات هذه القوى في إبراز مدى قدرتها على مد نفوذها لما هو بالأساس محيط حيوي مشترك لمعظمها، ولكن دون مقدرة فعلية على استغلاله وتوظيفه بما يخدم مصالح وأهداف هذه القوى على مستوى دولي، حيث تعهد واشنطن الكلاسيكي بمسألة أمن الملاحة في الممرات البحرية الاستراتيجية وخاصة الواقعة في البحر الأحمر كأحد أهم ثلاثة مرتكزات لاستراتيجيتها في الشرق الأوسط -يعاد صياغتها مؤخراً- سواء كان ذلك عبر حضورها العسكري المباشر في القرن الافريقي وباب المندب بخلاف الخليج والمتوسط والمحيط الهادي، أو ضمان سلاسة وأمن الملاحة عبر علاقات استراتيجية جيدة مع قوى إقليمية وتحديداً القاهرة فيما يخص قناة السويس وشمال البحر الأحمر، وهو ما تغير منذ بداية العقد الماضي ليتيح فرص لبعض القوى الإقليمية في مد نفوذها على النحو السابق، وهو أيضاً ما شكل مخاطر على البعض الآخر وتحديداً مصر، حيث كانت معظم تجليات هذا الطموح على حسابها سواء جاء كوجه من أوجه الصراع فيما بينهم، او سعي لترسيخ تحالفات سياسية مستجدة لم يتوفر لها حامل جيوسياسي الا عبر البحر الأحمر.

 السابق أتى كأحد تداعيات متغيرات الاستراتيجية الأميركية الخاصة بالمنطقة، والتي أضحت اثنتان من محدداتها الكلاسيكية؛ حماية أمن إسرائيل من محيطها العدائي وضمان تدفق النفط العربي إلى الأسواق الأميركية، لا تتطلب تواجد وإشراف أميركي مباشر.

وبات واضحاً خلال السنوات القليلة الماضية، ان البحر الأحمر يشكل محوراً أساسياً من محاور التناقض والتقاطع بين مختلف القوى الإقليمية، والتي سعى كل منها لتوسيع نفوذه بوسائل اقتصادية أو حتى عسكرية من خلال اقامة القواعد العسكرية على سواحله الجنوبية (السودان، جيبوتي، إريتريا).

حيث شهدت سنوات العقد الماضي ما يمكن وصفه بـ”حرب إقليمية باردة” على مستوى التواجد والنفوذ على مسطح مائي هام مثل البحر الأحمر وسواحل القرن الأفريقي، وعلاقة ذلك بمسألة أمن وحرية الملاحة في المياه الدولية، وقبلها الوقوف على استراتيجية واشنطن المستقبلية في المنطقة فيما يخص المنطقة، وعلاقتها بما عُرف بـ”الانكماش” أو “إعادة التموضع” الأميركي، وتغير مواقع وتراتبية قوى إقليمية حليفة لواشنطن في خارطة مصالحها، وتأثير هذا على علاقات هذه القوى ببعضها البعض سلباً وإيجاباً، وانعكاسه كذلك على ضرورة اكتساب بعض الدول نفوذ بحري أكبر من حدود قُطرية وسيادية، وعلاقة ذلك بفتح أفق توسيع نفوذ الدول المعنية بشكل يمتد أحياناً كثيرة خارج نطاق الجغرافيا والنطاق الحيوي، ليصبح الصراع/التوافق على هذا المقياس الإقليمي فيما يخص السيطرة والنفوذ البحري محور هام في تحديد ورصد التطورات السياسية في المنطقة، بين قوى صاعدة وأخرى تحاول تثبيت تواجدها التقليدي في ظل حالة السيولة التي انتابت المنطقة في السنوات الأخيرة.

ما سبق يعني أن المحدد الثالث، وهو ضمان سلاسة وأمن الملاحة وابتعاد الصين وروسيا عن زحزحة احتكاره اميركياً، أضحى هو الأهم فيما يخص تأكيد بايدن منذ أولى أيامها على اضطلاع بلاده بدورها في حماية أمن واستقرار الملاحة حول العالم والمنطقة كذلك، وذلك ليس فقط في إطار تأكيدها على هكذا دور بعد سنوات من التخبط والتراخي في عهد ترامب، وكذلك عقداً من سياسات الانكماش وإعادة التموضع بدأت منذ عهد أوباما، ولكن احتدام الصراع مع الصين فيما يخص طموح الأخيرة المتعلق بمبادرة الحزام والطريق، وتعجيل وباء كورونا وتداعياته على سلاسل الإمدادات الأميركية والدولية، بما يمكن تسميته في سياق الملاحة بـ”رسم خطوط الحيازة”.

هنا نجد أن البحر الأحمر والقرن الأفريقي يشكل أحد محاور تغيرات العلاقات بين القوى الاقليمية، وذلك في شكل تنافس أو توافق، وكذلك كهامش مستجد للمناورة مع واشنطن سواء فيما يخص علاقات ثنائية، أو -وهو الأهم- تداعيات تموضعات استراتيجياتها في المنطقة، وارتباط هذا التموضع المستمر منذ أكثر من 10 سنوات بمعظم قضايا وملفات المنطقة، وهو الأمر الذي جعل هذه الرقعة الجغرافية بيئة مناسبة لربط الملاحة فيه -كالمحدد الاستراتيجي الأهم أميركياً- بمصالح وتطلعات هذه القوى الإقليمية، بل وتطور هذا إلى احتمالية التماهي مع تطلعات كل من بكين وموسكو في إيجاد موطئ قدم استراتيجي في منطقة تعج بالممرات الملاحية الاستراتيجية.

ليس لبسط النفوذ في المنطقة فحسب، ولكن كجزء من كباشهم مع الولايات المتحدة ومحدداته التي لا تقتصر على طرق الامدادات والملاحة الدولية أو ملف مثل الملاحة في بحر الصين الجنوبي، بل كورقة متعددة الاستخدامات يمكن تثمينها مستقبلاً لما هو أكبر من مجرد النفاذ من ثغرات التموضع/الانكماش الأميركي في المنطقة، وخاصة إذا ما كان هذا يتلاقى مع بعض من القوى الإقليمية التي سرعان ما اعتمدت نفس السياسة فيما يخص ربط الاستقرار الإقليمي وأمن الملاحة في البحر الأحمر والقرن الأفريقي بقضايا  مثل مياه النيل وسد النهضة وسرعة إنهاء حرب اليمن.

قناة السويس وسد النهضة.. وما بينهما البحر الأحمر

أعادت حادثة جنوح السفينة “ايفرجرين” توجيه الانتباه إلى مكانة مصر الجيوسياسية من بوابة قدرتها على التحكم بواحد من أهم الممرات المائية في العالم، وهي مكانة ظلت مهملة حتى الأمس القريب، بالنسبة إلى القوى الخارجية، حتى في ذروة الاندفاعة المصرية لتطوير هذا الممر المائي قبل سنوات، حين دشنت قناة السويس الجديدة.

وبعيداً عن الآثار المؤقتة لتعطل الملاحة في قناة السويس، والخسائر التي تكبدها الاقتصاد العالمي طوال الفترة التي علقت فيها السفينة في المجرى المائي، جاءت الفرصة بحد ذاتها لتعيد تذكير اللاعبين الدوليين والإقليميين بأهمية قناة السويس باعتبارها المرتكز الجيوسياسي الأهم في الشرق الأوسط، ليس على المستوى الاقتصادي فحسب، وإنما على المستوى السياسي، أي باعتبارها ورقة يمكن لمصر استثمارها في سياق السياسات الخارجية التي تبلورها القاهرة مؤخراً وفق محددات ومقدرات قوتها الجيوستراتيجية.

هذا ما يفسر مسارعة الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي إلى الاستفادة من أزمة القناة لرسم خطوط حمراء، منها ما هو مباشر، ويتصل بخطورة عدم تسوية ملف مياه النيل، ومنها ما هو غير مباشر، ويتصل بشكل أساسي بالبديهيات الجغرافية، لا سيما بعدما شهدت السنوات الماضية حراكاً من جانب قوى اقليمية  لمد النفوذ الجيوسياسي باتجاه منطقة البحر الأحمر والقرن الأفريقي، سواء عبر محاولات اكتساب أوراق نفوذ وتأثير خاصة بالملاحة البحرية، سواء كان ذلك في الكباش الدائر في الجغرافيا المحيطة بباب المندب، أو مثلاً توظيف اتفاقية تيران وصنافير استراتيجياً في خلق مجال حيوي مشترك بين الرياض وتل أبيب عبر البحر الأحمر وخليج العقبة وعلى حساب القاهرة.

يضاف إلى ذلك أن حالة الفوضى وعدم الاستقرار التي أشار إليها السيسي لن تكون في صالح أحد، حتى في ظل حديث (أقرب إلى التمنيات) عن بدائل مستقبلية لقناة السويس، فتأثيرات الإضرار بمصالح مصر ستشمل، بالحد الأدنى، المخاطرة باستقرار سلاسل التوريد وسلاسة حركة التجارة الدولية في المديين المتوسط والبعيد.

هنا يمكن القول أن مصر نجحت بشكل تكتيكي في استثمار الأزمة الأخيرة على مستويات مختلفة أقلها اعادة التأكيد على تأثيرها وثبات قدرتها على استعادة أوراق نفوذها الإقليمي بوتيرة متزايدة منذ العام الماضي، وكذلك تحويل الأزمة الى فرصة فريدة ربطت من خلالها الاستقرار الإقليمي بمحدد جديد هو ملف سد النهضة، وليس الصراع مع إيران كما هو حال “حلفاء” واشنطن، الذين تتعارض تحركاتهم مع أولويات القاهرة، وذلك وفق المحدد الأميركي الأهم وهو أمن الملاحة في الممرات الاستراتيجية.

في ما يتسق أيضاً مع توجهات إدارة بايدن في الإسراع في إنهاء حرب اليمن على حساب الطموحات السعودية، وذلك خشية أن تنتقل هذه الحرب، في حال إطالتها، إلى مستوى جديد من التصعيد الإقليمي والدولي عبر اصطناع أزمات لتعطيل الملاحة في الممرات المائية الاستراتيجية في الخليج والبحر الأحمر، وهو ما ألمحت إليه حركة “أنصار الله” الحوثية خلال تعليق بعض قياداتها على حادثة قناة السويس، ما يعني عملياً امكانية الإضرار بالمصالح الأميركية المباشرة، والأهم من ذلك توفير فرصة لنفوذ روسي وربما صيني عبر إيران وأذرعها.

استشراف

تشير تطورات الأحداث مؤخراً إلى بوادر ذهاب المنطقة لتسويات كبرى لمعظم صراعاتها المشتعلة خلال العقد الماضي، سواء بدافع من رغبة بايدن في إنجاز هكذا تسويات تتلاءم مع تموضع وإعادة هيكلة واشنطن لعلاقاتها بدول المنطقة بما يحقق ما يمكن تسميته بسد الثغرات أمام روسيا والصين، أو لعوامل الانهاك والاستنزاف التي لحقت بأطراف الصراعات الإقليمية التي لا تتحمل اشتعال صراع جديد وخاصة مع تداعيات وباء كورونا والتباطؤ الاقتصادي العالمي، وهو ما تحقق بشكل معتبر بين مصر وتركيا منذ أوائل العام الجاري، وربما أيضاً بين إيران والسعودية في المستقبل القريب جداً.

 ومن ثم فإن انعكاس هذه التسويات على ما يتعلق بأمن وسلاسة الملاحة في البحر الأحمر -كأحد ساحات تجلي هذه الصراعات- يعني بالدرجة الأولى اضطلاع واشنطن بشكل منهجي في إقرار سلم أولوياتها في المنطقة، والذي يشكل أمن الملاحة فيه أولوية متقدمة لاعتبارات متعددة تتعلق بسياساتها تجاه بكين وموسكو، وهو ما يعني أيضاً تمحور مظاهر الحضور الأميركي في المنطقة وفق هذه الأولوية دون غيرها من أولويات ودوافع صراعات حلفاء وخصوم واشنطن.

هنا يمكن رصد عاملين رئيسيين يتحكمان في مقدرة واشنطن إبقاء يدها العليا على الممرات الملاحية في البحر الأحمر في المستقبل المتوسط، وإبعاد مسألة الملاحة وأمنها عن توظيفها مستقبلاً في إدارة صراعات المنطقة مما قد يشكل عن  فرصة مستدامة لتدخل الصين وروسيا:

الأول: تسوية مع إيران -رضى عنها الحلفاء ام لم يرضوا- من شأنها انهاء تخفيف حدة الصراعات الإقليمية لحدود دنيا تختفي معها حروب الوكالة وغيرها من أوجه عسكرة هذه الصراعات، والتي كان أحد روافدها حرب اليمن والكباش بين مختلف القوى الإقليمية في البحر الأحمر والقرن الافريقي.

الثاني: وهو المستجد والاهم كونه يرتبط بمصر، القوى الاقليمية التي هيمنت على البحر الاحمر حتى في ذروة الحرب الباردة وخاضت أكثر من حرب ارتبطت أسبابها بالملاحة فيه، وهو ربط القاهرة الاستقرار في المنطقة بملف سد النهضة عقب حادثة قناة السويس، وهو ما ألمحت واشنطن التعاطي الإيجابي مع ما يخص الملاحة بالتعاون مع مصر بحكم الجغرافيا والقوة العسكرية للقاهرة، والتي كان أحد أهم أوجه تطورها ونموها مؤخراً تدشين الأسطول الجنوبي وإنشاء قاعدة برنيس العسكرية.

هنا يمكن فهم محاولات كبح مصر عن التصرف بشكل منفرد تجاه سد النهضة وخاصة بشقه العسكري، وبالتالي فان توجه الأخيرة للربط بين أمن الملاحة والاستقرار الاقليمي بملف السد، يأتي في إطار الدفع بأولوياته القاهرة الخارجية المرتبطة بأمنها القومي إلى موقع متقدم بأجندة التسويات الشاملة المرتقبة، وان لا يتم تجاهلها لكلفة وفاتورة ذلك على الجميع أيضاً؛ ففيما ترغب واشنطن وتل ابيب وقوى إقليمية أخرى في إبقاء ملف السد في إطار ثنائي أو ثلاثي أو ضمن إطار افريقي، فإن مصر بربطها ذات الملف بالملاحة والاستقرار الإقليمي على النحو السابق ذكره تمهيداً لتدويله، يعني أنه في حال القفز على أولويات الأخيرة فإن هناك إمكانية لتوسيع هامش المناورة هذا للحد الذي يسمح بدور روسي وربما صيني في القرن الأفريقي والبحر الأحمر.

ومن ثم يمكن القول ان مصر تدير توازن متعدد الاهداف التي ركيزتها استعادة مقدرات امنها القومي وابقاءها بعيده عن النزاعات الإقليمية، وادارتها بتوازن لا يتصادم مع القوى الدولية بل يتكامل معها وليس حكراً على احداها؛ فمثلا مع التعليقات الرسمية الأميركية المصاحبة لحادثة القناة وتأكيدها على التعاون مع القاهر فيما يخص أمن الملاحة، قد أتى بالتوازي مع عدم ممانعة بل وتسهيل مصري لأن يكون لروسيا والصين تواجد متعدد المظاهر في البحر الأحمر، سواء اقتصادي عبر مشاريع لوجيستية بشراكة صينية او عبر قاعدة عسكرية روسية في السودان.

في حال عدم تحقق السابق فإن هذا يعني احتمالية كبيرة لاستدامة هذه الحرب الاقليمية الباردة، بل وتنشيطها لبؤرة صراعات اقليمية جديدة متعددة المستويات والاهداف، وبالتالي تجاوزها لمستوى الصراعات الإقليمية لكباش دولي لبديهة أن أمن الملاحة في الممرات الاستراتيجية هو شأن دولي يهم الجميع، وخاصة في ظل الظروف المستجدة من وباء كورونا وتداعياته على سلاسة حركة الخدمات اللوجستية التوريدات العالمية ومتغير بحجم مبادرة الحزام والطريق، وهو الأمر الذي حتى كتابة هذه السطور لا يبدو أن واشنطن تريد حدوثه كونه يضر باستدارتها الاستراتيجية، ويتيح لمنافسيها الدوليين، موسكو وبكين، النفاذ بأشكال متعددة لحيازات جيوسياسية كانت -ولاتزال وإن بشكل أقل خلال العقد الماضي- اليد العليا فيها.

عن "مركز الإنذار المبكر"



انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات

آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية