الفاو: عاصمة مملكة كندة الأولى.. وفصول من حكاية التحضر العربي قبل الإسلام

الفاو: عاصمة مملكة كندة الأولى.. وفصول من حكاية التحضر العربي قبل الإسلام


29/10/2020

في الأربعينيات من القرن العشرين، وفي مكان صحراوي جاف، على مشارف الربع الخالي، لم يكن متوقعاً أبداً العثور فيه على أيّ من مظاهر التحضر البشريّ، كانت المفاجأة مع اكتشاف عمال من شركة "آرامكو"، مصادفةً، آثاراً لمدينة متكاملة مدفونة تحت الرمال. وتوالت أعمال التنقيبات إثر ذلك، كاشفةً عن فصل من أهم فصول حضار العرب قبل الإسلام.

كيف كانت البداية؟

خلال الألف الأولى قبل الميلاد، برزت مملكة سبأ باعتبارها أقوى الاتحادات القبليّة في اليمن، وكان من ضمن هذا الاتحاد قبيلتان يمنيتان كبيرتان، هما كندة ومُذحج. إلّا أنّ جزءاً من أهالي هاتين القبيلتين، وبحدود القرن الرابع قبل الميلاد، توجهوا شمالاً، مبتعدين عن الأراضي اليمنيّة الجبليّة الخصبة، باتجاه المناطق الجافة على مشارف الربع الخالي، وفي المنطقة المعروفة اليوم باسم "وادي الدواسر" تحديداً. ليؤسسوا هناك المدينة التي ستعرف باسم "قرية الفاو". وتشير نصوص السبئيّة إلى قبيلتي كندة ومذحج بعبارة "أعراب سبأ". وذلك بالرغم من أنهم كانوا متحضرين  ويعيشون في منازل مستقرة، إلّا أن صفة البداوة اقترنت بهم بسبب تمركزهم في المناطق الجافة والصحراويّة.

موقع قرية الفاو في عمق الجزيرة العربية على مشارف الربع الخالي

وقد أصبحت "الفاو" مركزاً وعاصمة لـ "مملكة كندة الأولى"، والتي حكمتها عائلة "آل ثور" من قبيلة كندة. وكان الاسم الأول الذي أطلق على المدينة هو "ذات كاهل" تيمناَ بكبير آلهتهم، "كاهل".

كانت القوافل التجارية المنطلقة من اليمن وإليه لا تستطيع السير دون المرور بالفاو والنزول بها

ولا يمكن الجزم بسبب توجه الكنديين شمالاً، فقد يكون نتيجةً لوقوع مواجهات مع سائر القبائل في مملكة سبأ، أو أنّ الانتقال كان بترتيب وتخطيط من مملكة سبأ كجزء من سياسة توسع لها باتجاه الشمال، وبهدف حماية القوافل الخارجة من اليمن باتجاه العراق وبلاد فارس. وأياً كان السبب، كانت الفاو ومملكة كندة امتداداً للممالك اليمنيّة الجنوبيّة باتجاه الشمال.

مركز على طريق القوافل

بحكم موقعها على الطريق التجاري الواصل ما بين اليمن ومدينة الجرهاء، المركز التجاريّ في شرق الجزيرة، والتي تنطلق منها القوافل باتجاه العراق وبلاد فارس، كانت الفاو محطة مهمة على طريق القوافل التجارية.

نمط البناء في الفاو أقرب ما يكون  للطرز والأنماط المعماريّة السائدة في الممالك اليمنيّة القديمة

وكانت القوافل التجارية المنطلقة من اليمن وإليه، باتجاه الخليج العربي والعراق وبلاد فارس، وبالعكس، لا تستطيع السير دون المرور بالفاو والنزول بها. فكانت القوافل المحملة بالبخور، والتوابل، والحبوب، والأقمشة، تنزل بها وتتاجر فيها، ما أسهم بتنشيط حركة التجارة باستمرار فيها، وزاد من ثراء أهلها، فكانت عامرة بالمساكن والمخازن والحوانيت، وفي المحصلة أصبحت مركزاً اقتصادياً وسياسياً وحضارياً بارزاً في عمق الجزيرة العربيّة.

خراب الفاو والنزوح نحو الشمال

ظلت مملكة كندة متمركزة حول عاصمتها قرية الفاو. ومع نهاية القرن الثالث وبداية الرابع الميلادي، وبعد غزو حمير لممالك حضرموت وسبأ، تعرضت الفاو ومملكة كندة لغزوات من مملكة حمير. وجاء في النقوش الحميريّة أن الملك "شاعر أوتر"، زعيم قبائل حاشد اليمنيّة، توجه نحو قرية كاهل (الفاو) وهاجمها.

صورة جوية تظهر جانباً من آثار الأبنية في الفاو

ترافق ذلك مع تحولات في خطوط التجارة وطرقها على مستوى الجزيرة، وتراجع أهمية موقع الفاو، فكانت النتيجة أن غادرت قبيلة كندة، الفاو، بحلول أوائل القرن الرابع للميلاد، واتجهوا شمالاً نحو نجد، وبدأوا بالاستقرار في مناطق حفر الباطن، ودومة الجندل، والقصيم، وبذلك انهارت مملكة كندة الأولى وأصبحت الفاو خربة مهجورة.

قيام مملكة كندة الثانية وتوسعها.. وسقوطها

تزامن انهيار مملكة كندة مع صعود المملكتين العربيتين الشماليتين، المناذرة والغساسنة، ونتيجة انهيار كندة شرعتا بالتوسع نحو الجنوب وبدأتا بتهديد حركة القوافل التجارية المتجهة إلى اليمن. إثر ذلك، استشعرت حميَر التهديد وأدركت خطأ تسببها في انهيار مملكة كندة، فعملت على إعادة تأسيس مملكة كندة لمواجهة خطر المناذرة والغساسنة.

تمثّل الدور الحضاري الأهم للفاو في نقلها التحضر العربيّ الجنوبيّ والمساهمة في تعميمه ونقله شمالاً

قامت مملكة كندة الثانية بحدود عام 480م على يد حجر بن عمرو بن حارث الكندي، المعروف بـ "آكل المرار"، ودعمتها حميَر في مواجهة الغساسنة والمناذرة، لتكون بمثابة دولة حاجزة وحامية لهم ولطرق القوافل التجارية المرتبطة بهم. وبدأت "كندة الثانية" بالتوسع نحو الشمال، واتسع ملك "آكل المرار" ليشمل نجد، والبحرين، ودومة الجندل، ووصل ملكه إلى حدود دولة المناذرة في العراق. واتخذ حجر عاصمة المملكة الجديدة في بلدة "غمر كندة".

الممالك العربيّة الجنوبيّة في القرن الثالث الميلادي

وكان حفيد آكل المرار، الحارث بن عمرو بن حجر الكِنديّ، آخر ملوك كِندة الأقوياء، وهو جدّ امرؤ القيس الشاعر الشهير، وكان مقرباً من بيزنطة، وإمبراطورها، جستين الأول، لينافس بذلك الغساسنة في الشام، مقدماً مملكته باعتبارها بديلاً محتملاً لهم في حماية مصالح الإمبراطورية البيزنطيّة. وكانت مغامرة الحارث الكبرى عندما تمكن من انتزاع الحيرة، عاصمة المناذرة. ما زاد من عداء المناذرة له.

بالتزامن مع ذلك، وفي عام 525م كانت مملكة "أكسوم" الحبشيّة قد غزت مملكة حميَر وتمكنت من هزيمتها، ما أدى إلى فقدان كندة الدعم والإسناد من حِميَر، وقام الملك "المنذر ابن ماء السماء" بقتل الحارث بن حجر غدراً، عام 528م، وانتزع الحيرة وأعادها مجدداً لملك المناذرة.

وإثر مقتل الحارث، عام 528م، تفرقت مملكة كندة إلى أربعة قبائل: أسد، وتغلب، وقيس، وكنانة. وبحلول منتصف القرن السادس كانت القبائل العدنانية في نجد والحجاز قد تمكنت من التغلب عليها وإخضاعها.

الجانب الحضاريّ.. العمارة ونمط البناء

بخصوص عاصمة مملكة كندة الثانية، التي عرفت باسم "غمرة كندة" أو "غمرة ذي كندة" فلم يتم التعرف على الموقع الأثري الخاص بها، لذا بقيت "قرية الفاو" الموقع الأثريّ الأهم والوحيد الذي يكشف عن التراث المعماري والفنيّ والحضاري لمملكة كندة.

أمثلة على التماثيل التي عثر عليها في موقع المعبد بالفاو

وتمثل "الفاو" نموذجاً للمدينة العربية المتكاملة قبل الإسلام، ونمط البناء في الفاو أقرب ما يكون  للطرز والأنماط المعماريّة السائدة في الممالك اليمنيّة القديمة. وتتوزع مدينة الفاو ما بين منطقتين، واحدة سكنيّة، وأخرى تجاريّة. المنطقة السكنية تشمل منازل وساحات وطرقات، وغالب البيوت فيها مكونة من طابقين. أما المنطقة التجاريّة فتشمل منطقة السوق الرئيسي، وتضم أيضاً خان القوافل. ويصل عدد الطوابق في المباني المحيطة بالسوق إلى سبعة طوابق. وكان قصر الملك يقع بجانب معبد القرية، في مركز المدينة.

النقوش والتماثيل.. تأثير يوناني محيّر

كانت القطع الفنيّة المكتشفة من أكثر الألغاز المدهشة والمحيّرة في الفاو، وذلك بسبب التأثير اليوناني الواضح فيها، بما في ذلك احتواؤها رموزاً ميثولوجية يونانيّة، وذلك رغم البعد الجغرافي الشاسع بينها وبين مناطق تأثير الثقافة اليونانية.

مملكة كندة الثانية في أقصى اتساع لها.. وتظهر حدودها مع مملكتي المناذرة والغساسنة في الشمال

وفي محاولة للكشف عن هذا اللغز، لجأ الآثاريون للبحث في النصوص والنقوش المدوّنة في القرية، ولكنهم لم يعثروا على ما يشير إلى تبني سكان الفاو المعتقدات اليونانيّة، ما دفع بالبعض إلى ترجيح أن تكون مثل هذه التماثيل بضائع اشتراها التجار في رحلاتهم التجاريّة مع المدن في مناطق حضور التأثير اليوناني. وفي تحليل آخر، أشار بعض الآثاريين إلى النص السبئيّ الذي دونه الملك شاعر أوتر عن القرية، والذي ألمح فيه إلى وجود يوناني في الفاو، وهو ما قد يكون جاء عبر إقامة تجار أجانب قادمين من مناطق الإمبراطورية الرومانيّة مثلاً، أو عبر وجود عبيد من الرومان والإغريق. ووجدت معظم هذه التماثيل في مقر المعبد في مركز القرية.

أما على صعيد النقوش فقد تميزت الفاو بنقوشها الكثيرة المكتوبة بالخط المسند اليمنيّ، حيث كتبت النقوش فيها على الجدران والأواني والجرار، وحتى على سفوح الجبال المحيطة. وكانت توثق النشاط التجاري، والحياة الاجتماعيّة، والدينيّة، والعلاقات والشؤون السياسية للمملكة. ومن خلال الفاو انتشر خط المسند شمالاً إلى ممالك عربية أخرى، فانتقل منها إلى مملكة لِحيان، شمال غرب الجزيرة.

مثال على الأبنية السكنية في قرية الفاو

كانت قرية الفاو مركزاً تجارياً وحضارياً ودينياً وسياسياً وثقافياً هاماً في قلب شبه الجزيرة، وتمثل الدور الحضاري الأهم لها في نقلها التحضر العربيّ الجنوبيّ الذي كان مرتبطاً بالممالك اليمنيّة، وساهمت في تعميمه ونقله شمالاً. ولتوسع بذلك نطاق حضوره وتأثيره في أرجاء شبه الجزيرة العربيّة، وهو ما كان له دور هام في صياغة التحضر والثقافة العربيّة ذات الخصائص المشتركة على مستوى كامل الجزيرة، وهو ما استمر البناء والتطوير عليه وازدهر لاحقاً  في المرحلة التالية لظهور الإسلام.



انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات

آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية