الحاجة إلى استراتيجية شاملة: ما الذي تخبرنا عنه الهجمات الإرهابية في الساحل الأفريقي؟

الحاجة إلى استراتيجية شاملة: ما الذي تخبرنا عنه الهجمات الإرهابية في الساحل الأفريقي؟

الحاجة إلى استراتيجية شاملة: ما الذي تخبرنا عنه الهجمات الإرهابية في الساحل الأفريقي؟


14/05/2025

تئنّ منطقة الساحل الأفريقي من وطأة التصاعد غير مسبوق للهجمات الإرهابية، لدرجة صنفتها ضمن أخطر بؤر الإرهاب عالمياً في الأعوام الأخيرة، بينما لم تبرح هذا التصنيف في تقارير مؤشر الإرهاب العالمي. هذا التصاعد لا يعكس فقط تدهوراً أمنياً، بل يكشف عن واقع المناطق الرخوة أمنياً التي تفاقم أوضاعها العوامل السياسية والاقتصادية والاجتماعية.

بحسب مؤشر الإرهاب العالمي في تقريره الصادر العام الحالي، فإنّ منطقة الساحل تمثل أكثر من نصف الوفيات المرتبطة بالإرهاب عالمياً في عام 2024، مع تسجيل أكثر من (25) ألف حالة وفاة ناجمة عن الصراعات، منها (4794) حالة مرتبطة بالإرهاب. وتُعدّ بوركينا فاسو الدولة الأكثر تضرراً، رغم انخفاض عدد الوفيات والهجمات بنسبة 21% و57% على التوالي، إلا أنّها ما تزال مسؤولة عن خُمس وفيات الإرهاب عالمياً. كما سجلت النيجر أكبر زيادة في عدد الوفيات الناجمة عن الإرهاب على مستوى العالم، حيث ارتفعت بنسبة 94% إلى (930) حالة إجمالية. 

الاستقطاب العرقي حاضنة للتطرف

تُعزى هذه الزيادة إلى مجموعة من العوامل؛ أبرزها ضعف الحكومات المركزية، والاستقطاب العرقي، ونمو الإيديولوجيات المتطرفة العابرة للحدود. وقد أسهمت الانقلابات العسكرية، مثل تلك التي حدثت في مالي وبوركينا فاسو والنيجر، في تفاقم الوضع الأمني، حيث شهدت المنطقة (6) محاولات انقلاب منذ عام 2021، نجحت (4) محاولات منها. وتعتمد الجماعات الإرهابية على أنشطة غير مشروعة لتمويل عملياتها، مثل الاتجار بالمخدرات، وطلب الفدية، والتنقيب غير القانوني عن الذهب. في بوركينا فاسو يُعدّ التنقيب عن الذهب مصدراً رئيسياً للتمويل، حيث بلغ حجم الإنتاج السنوي من الذهب في بعض مناطقها نحو (80) طناً في عام 2018. وقد أدى تصاعد الإرهاب إلى تفاقم الأزمات الإنسانية، حيث يحتاج نحو (4.7) ملايين شخص في بوركينا فاسو للمساعدات الإنسانية، وتسبب الإرهاب أيضاً في تشريد أكثر من مليوني نازح داخلياً، و(8.8) ملايين شخص في مالي. 

تئنّ منطقة الساحل الأفريقي من وطأة التصاعد غير مسبوق للهجمات الإرهابية، لدرجة صنفتها ضمن أخطر بؤر الإرهاب عالمياً في الأعوام الأخيرة

وأسهمت هذه الأوضاع في زيادة معدلات الهجرة من المنطقة، حيث أصبحت منطقة الساحل تشهد واحدة من أكبر حركات الهجرة والنزوح على مستوى العالم.

وفي محاولة لمواجهة التهديدات المتزايدة، أعلنت دول الساحل (مالي، والنيجر، وبوركينا فاسو) عن تأسيس قوة عسكرية مشتركة لمكافحة الإرهاب في آذار (مارس) 2024. إلا أنّ هذه الجهود تواجه تحديات كبيرة، خاصة مع انسحاب قوات مكافحة الإرهاب الدولية، مثل قوة برخان الفرنسية وتاكوبا الأوروبية، بالإضافة إلى إنهاء بعثة الأمم المتحدة في مالي (مينوسما) مهامها؛ الأمر الذي يتطلب مراجعة وسائل وآليات التصدي لتصاعد الإرهاب في منطقة الساحل الأفريقي، والبحث عن خطط تتضمن تعزيز قدرات الحكومات المحلية، وتحسين الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية، والتعاون الإقليمي والدولي الفعال، حتى لا تظل المنطقة عرضة لمزيد من التدهور الأمني والإنساني.

بنية أمنية هشة

بتصاعد الهجمات الإرهابية في منطقة الساحل الأفريقي؛ تنكشف بنية أمنية واقتصادية هشة تُستغل من قبل الجماعات المسلحة لفرض نفوذها، لا سيّما مع الفراغ الأمني وتقويض الدولة الوطنية. ومن أبرز مؤشرات تصاعد الهجمات هو الانهيار الواضح لسلطة الدولة في بعض دول الساحل. فبعد الانقلابات العسكرية المتكررة (مالي 2021، بوركينا فاسو 2022، النيجر 2023)، ضعفت مؤسسات الدولة الرسمية والانحسار الشعبي والثقة بالأنظمة الحاكمة؛ ممّا ترك فراغاً ملأته الجماعات المسلحة بسهولة. فالجماعات الإرهابية مثل (داعش) و(جماعة نصرة الإسلام والمسلمين)، وسعت من نطاق عملياتها عبر الحدود بسهولة. بل إنّ خروج القوات الدولية (فرنسا، الأمم المتحدة) أوجد فجوة عميقة، لم تتمكن الجيوش الوطنية الضعيفة من مواجهة تداعياتها، ممّا زاد من نفوذ الجماعات الإرهابية في تنفيذ عمليات واسعة النطاق.

ويقول الباحث المصري المختص في الشؤون السياسية والإقليمية الدكتور سامح مهدي: إنّ المنطقة شهدت تراجعاً في الانخراط الدولي، لا سيّما بعد فشل العمليات العسكرية الغربية طويلة الأمد (مثل عملية برخان الفرنسية)، التي لم تحقق الاستقرار الموعود، وهو ما أدى إلى نفور شعبي واسع ضد التدخل الأجنبي. كما أنّ الانسحاب الغربي جاء في وقت غير مناسب، حيث لم تكن الجيوش الوطنية قد استكملت بناء قدراتها، وهو ما جعلها عاجزة عن الصمود أمام التوسع الإرهابي.

ويوضح مهدي لـ (حفريات) أنّ القوى الكبرى بدأت تتحول إلى مقاربة "الاحتواء عن بُعد" بدلاً من التدخل والانخراط المباشر؛ الأمر الذي يفتح المجال أمام لاعبين آخرين، مثل روسيا (عبر مجموعة فاغنر)، بما يؤدي إلى تفاقم الأزمة لجهة اعتمادهم القمع العنيف والعمل الميليشياوي القائم على النهب والمتسبب في السيولة والفوضى الأمنية عوضاً عن إصلاح الهياكل السياسية. ويردف: "تُظهر البيانات أنّ الجماعات المسلحة لا تعتمد فقط على دعم خارجي، بل بنت اقتصاداً موازياً داخل دول الساحل، يعتمد على السيطرة على مواقع استخراج الذهب وتحصيل ضرائب/ إتاوات، والاتجار بالبشر والمخدرات والأسلحة، وطلب الفدية مقابل الرهائن. هذا النموذج الاقتصادي غير المشروع يعزز قدرة الجماعات على التجنيد والدفع للمقاتلين، ممّا يجعلها أكثر تنظيماً من بعض الحكومات المحلية".

وقال الدبلوماسي السياسي الفرنسي السابق في منطقة الساحل الأفريقي، نيكولا نورماند، لموقع (العين الإخبارية): إنّ "الانسحاب الفرنسي من مالي والنيجر وبوركينا فاسو لم يكن مجرد انسحاب عسكري، بل شكّل تحولاً جذرياً في موازين القوة في واحدة من أكثر المناطق هشاشة على مستوى العالم". وأردف: "وقد أُتبِع بتراجع في الجهود الاستخباراتية والدبلوماسية، ممّا فتح المجال أمام جماعات مثل نصرة الإسلام والمسلمين وداعش في الساحل لإعادة تموضعها في مناطق جديدة، وخصوصاً في المثلث الحدودي بين مالي والنيجر وبوركينا فاسو". مضيفاً أنّ "الخروج الفرنسي تسبّب في إحداث فراغ معقّد تجاوز البُعد الأمني، ليمتد إلى تعطيل شبكات التنسيق الاستخباراتي والجهود الدبلوماسية التي كانت قائمة لعقود، وهو ما استغلته الجماعات الإرهابية بأقصى سرعة".

الدبلوماسي السياسي الفرنسي السابق في منطقة الساحل الأفريقي: نيكولا نورماند

انكشاف استراتيجي

وأوضح نورماند أنّ هذا التحول أدى إلى ما سمّاه "انكشافاً استراتيجياً" لدول المنطقة، في ظل غياب بدائل فعالة تملأ الفراغ الذي تركته باريس، لا من قبل السلطات العسكرية الحاكمة في الساحل، ولا من قبل الحلفاء الجدد. فالأنظمة الحاكمة في النيجر تعمل بكثافة على تطوير آليات وطنية ناجعة، وتحالفات أفريقية، لمكافحة التنظيمات الإرهابية، لكنّ هذه الإجراءات تحتاج وقتاً لتظهر نتائجها، وفق محللين أفارقة. 

نورماند قال أيضاً: إنّ "الجماعات المتطرفة، وعلى رأسها جماعة نصرة الإسلام والمسلمين المرتبطة بالقاعدة، وتنظيم (داعش) في الساحل، وجدت في هذا الفراغ فرصة لإعادة التمركز والتوسع، خصوصاً في المثلث الحدودي بين مالي والنيجر وبوركينا فاسو، وهي منطقة ذات تضاريس معقدة وحدود رخوة، تعاني أصلاً من ضعف السلطة المركزية وغياب البنية التحتية الأمنية".

كما أنّ التصعيد الأمني أدى إلى نتائج كارثية على السكان المحليين، على مستوى نزوح ملايين المدنيين، ممّا يخلق أزمات لوجستية وإنسانية حادة، فضلاً عن زيادة معدلات الفقر والمرض نتيجة انهيار الزراعة والتجارة، وتفكك الهوية الوطنية، حيث بدأت بعض المجتمعات تتماهى مع الإرهابيين كوسيلة للبقاء، لا لقناعة إيديولوجية، بل لأنّ الدولة لم تعد موجودة"، يقول مهدي. 

ويختتم حديثه قائلاً: "جميع المحاولات الإقليمية حتى الآن (كالقوة الثلاثية بين مالي والنيجر وبوركينا فاسو) تعاني من نقص في التمويل والخبرة والتنسيق. كما أنّ غياب استراتيجية تنموية موازية للردّ الأمني يجعل أيّ تقدم عسكري هشاً ومؤقتاً. والأزمة في الساحل الأفريقي ليست فقط أمنية، بل هي سياسية واقتصادية واجتماعية في عمقها. والحل لن يتخطى ضرورة بناء مؤسسات شرعية قادرة على تقديم خدمات حقيقية للمواطنين، واستثمار دولي وتنمية شاملة تخلق فرص عمل وتنقذ الشباب من التجنيد، فضلاً عن تنسيق أمني استخباراتي إقليمي فعال تحت مظلة أفريقية أو أممية جديدة. من دون ذلك، ستبقى منطقة الساحل بيئة تتهيأ دائماً لصراع طويل الأمد تتحول فيه الهجمات من عمليات إرهابية إلى حروب نظامية أهلية.




انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات
الصفحة الرئيسية