غسان إبراهيم
طموحات الرئيس التركي لتحويل تركيا إلى قوة عثمانية ضاربة تتجاوز الحدود اصطدمت بواقع أن مشاريعه أكبر من إمكانيات بلاده، وأنها بنيت بمزيج من الأوهام والتمنيات.
فعندما يريد رجب طيب أردوغان أن يحوّل بلاده إلى قوة إقليمية ودولية تدخل صراعات متعددة وتفرض ما تشاء يتطلب عليه أن ينظر خلفه ليعلم على ما يستند بهذه الطموحات. فتركيا ليست روسيا وليست الولايات المتحدة، واقتصادها لا يمكنه أن يحرك حروبا متعددة الجبهات، ونزاعات من كل صوب.
كما أن الحديث عن العثمانية ودمج الإسلام بالقومية قد يمكن استخدامه في الخطابات الشعبوية داخلياً لجذب المعجبين وتحويلها إلى أصوات انتخابية كحد أقصى، ولكن بالتأكيد لا يمكن تحويلها إلى مشروع توسعي تحت صيغة العثمانية الجديدة لتصبح جاهزة للتصدير الخارجي والتنفيذ المباشر.
فأوهام العثمانية أصبحت ورطة لتركيا ليس مع دول الجوار فحسب، بل جعلت الدول الغربية ترى أن ما كان يوماً سورها المنيع على حدودها التي تفصل الشرق بالغرب، أصبحت نقطة ابتزاز ومصدر إزعاج مستمر وأصبح صديق الأمس عدواً موتوراً.
أردوغان الذي اعتقد بأن تغطية الفشل ممكنة بفشل آخر، فانطلق من سوريا إلى ليبيا وأذربيجان. فتحولت مشاريعه في سوريا وليبيا إلى عبء اقتصادي وحرج سياسي، أما في أذربيجان تحول النصر العسكري إلى هزيمة سياسية لا تغفر.
فما جناه أردوغان في أذربيجان ابتلعته روسيا وعاقبته عليه الولايات المتحدة، فقرار الرئيس الأميركي جو بايدن الاعتراف بالإبادة الجماعية للأرمن يعتبر أكبر هزيمة سياسية عرفتها تركيا منذ تأسيسها.
انتصر أردوغان على جيب أرمني في أذربيجان، ولكنه خسر المعركة الرئيسية في واشنطن التي قررت تخفيض علاقتها من استراتيجية إلى دون العادية بإعلانها الإبادة الجماعية.
الفشل ثم الفشل، كان متوقعاً لمن يعرف كيف يفكر أردوغان ويعرف حجم تركيا الطبيعي.
والأهم من هذه الهزائم الميدانية هو خروج تركيا من الحلف الغربي دون شيء، فلا هي كسبت إقليميا ولا هي وجدت بديلاً بوزن حلفاء الأمس، فكل ما جنته من علاقتها مع روسيا كان تكتيكياً ولا يرتقي إلى مستوى أكثر من صداقة الضرورة.
فما تقدمه روسيا لتركيا أقل مما تأخذه، واستمرار هذه العلاقة يعتمد على مزيد من انهيار العلاقة الاستراتيجية مع المحور الغربي.
دخل أردوغان مرحلة حرجة على الصعيد الخارجي، فهو غير قادر على التخلي عن مشاريعه في سوريا وليبيا وأذربيجان نظراً لانعكاسها الداخلي على الانتخابات، وغير قادر على الاستمرار خارجياً مع انهيار اقتصاده القائم على الاقتراض.
ما جعل الاقتصاد التركي ينتعش ما قبل الهبة العثمانية الجديدة هي الاستثمارات الأوروبية التي تدفقت على تركيا ليس لأنها قريبة جغرافيا ولديها يد رخيصة وماهرة، بل الثقة النابعة من العلاقة الاستراتيجية التي ربطت هذا البلد بالجانب الأميركي والغربي بشكل عام. فهذا الاعتبار الرئيسي الذي جعل المستثمر الأوروبي يضع المليارات من الدولارات في بلد لم يكن أحد يتوقع أن يصبح في صفّ الأعداء.
تستدين الشركات التركية من المؤسسات المالية الإسبانية ما يزيد عن 60 مليار دولار، وحوالي 30 مليار دولار من البنوك الفرنسية، وأكثر من 10 مليار دولار من البنوك البريطانية، و11 مليار دولار من البنوك الألمانية، و9 مليار دولار من البنوك الإيطالية. وهذا يعني أن 5 دول أوروبية قدمت ما يعادل 120 مليار دولار.
هذه الاستثمارات الغربية ما كانت لتتدفق على تركيا دون تحالفها مع الجانب الأميركي الذي يعني للمستثمر أولا وأخيراً أن هذا بلد مستقر، مما يجعل المستثمر مطمئنا على قدرته وحريته بتحريك هذه الأموال بالاتجاهين.
تركيا اليوم عندما تخسر هذا البعد الاستراتيجي من الغرب فإن خسارتها تتجاوز السياسة والجيش لتدخل في عمق اقتصادها، لذلك لم تعد الاستثمارات الحقيقية تتدفق على البلاد وأصبحت الاستثمارات الجديدة مجرّد أموال ساخنة تتحرك مع تحرك أسواق المال ومؤشرات الفائدة.
ما جعل أردوغان يتوهم بعظمة قدرته على التدخل الخارجي كان نابعاً من اقتصاد نشط، وما جعله اليوم ينكفئ على الأقل بشكل تكتيكي هو الاقتصاد المنهك.
العلاقة الاستراتيجية التي ربطت أنقرة بواشنطن أصبحت علاقة قائمة على الشد والرخي، فما كان في الماضي من متانة وثقة لن تعود على المدى القريب، هذا لا يعني أبداً تخلي غربي عن تركيا، فهذا البلد في عيون الأوروبيين والأميركيين هو أكبر من الفترة القصيرة التي يحكم بها أردوغان، ولكن أيضاً قد تعني علاقة وظيفية تعتمد على مهمات محددة، لخلق التوازنات مع روسيا والمحور الشرقي.
ما جعل طموحات أردوغان التوسعية تتحول إلى مجرد أوهام أن اقتصاد بلاده قائم على أموال الآخرين لذلك فإن قراره بيد أكثر من لاعب عندما تتحول تحركاته لمصدر خطر للمموّلين، والأسوأ من ذلك أنه ذهب حد التحدي للدول التي تعتبر مصدر تمويله الأساسي.
استدارة أردوغان التصالحية تجاه الأوروبيين والدول المجاورة ينبع من معرفة تامة بحجم الخسارة في العلاقات الاستراتيجية مع الغرب والجوار وما ترتب عنها من عجز في التحرك نحو الأمام وحتى الخلف.
لا تدار الدول بالأحلام وبالتأكيد تتهاوى بالأوهام، فما بناه أردوغان من رغبات وأمان عثمانية جديدة دفع ثمنها ما قد يهدد كل مكاسبه السياسية الداخلية والمصالح الخارجية عائداً إلى مربع الصفر.
عن "العرب" اللندنية