بعد الكلام الأمريكي عن انسحاب من سوريا، وجدتْ طهران أنّ ذلك قد يُقدّم فرصة لها لتمديد نفوذها في المنطقة، وملء مساحات كبيرة من الفراغ الذي سيخلفه الانسحاب الأمريكي. إيران ترى أنّ ذلك يستدعي تقديم مزيد من الدعم للنظام السوري من جهة، ورفع عقيرة المليشيات الشيعية في العراق والقيادات السياسية العراقية الأكثر ولاء لإيران بالدعوة لإخراج القوات الأمريكية-الأجنبية من العراق. وقد كانت زيارة وزير الخارجية الإيراني، محمد جواد ظريف، الأخيرة إلى العراق هي الأطول له كوزير خارجية، وشملت لقاءات واسعة مع قيادات شيعية وسنّية وكردية وعشائرية، في وقت تتحضر فيه واشنطن لعقد مؤتمر وارسو الشهر المقبل تحت عنوان أساسي وهو: مواجهة سياسات إيران في المنطقة.
المكاسب تقلّ تدريجياً
وحتى من دون الهبوط الحادّ في حجم الإيرادات الإيرانية، بسبب حُزمة العقوبات الأمريكية المشددة، لم تكن إيران، بحسب الأستاذ المشارك في قسم الاقتصاد في جامعة دي بول، كريم باكرافان، تملك الوسائل الاقتصادية اللازمة لتمويل مساعداتها لنظام بشار الأسد وحزب الله – وهما المتلقّيان الأساسيان للتقديمات الإيرانية السخية – التي يُقدّر أنّها تكلّف طهران مليارات من الدولارات سنوياً. ويضيف باكرفان في مشاركة نشرها موقع "مركز كارنيغي للشرق الأوسط"، أنّ هذا الدعم لا يحظى بالشعبية في إيران إلى حدٍّ بعيد. ومع ذلك، يُعتبر دعم الأسد وحزب الله عنصراً أساسياً في الإستراتيجية الإقليمية لعتاة النظام الإيراني. ومع الانسحاب الأمريكي من سوريا، قد تسعى إيران إلى توسيع رقعة نفوذها، إلا أنّ ذلك قد يصبح مُكلفاً على نحو مطّرد، فيما المكاسب تقلّ تدريجياً، في وقتٍ تقترب الهموم الاقتصادية المحلية في إيران من نقطة الغليان، كما يذكر باكرافان.
فشل القمة الأخيرة رسالة لطهران وحزب الله بأنّ الدول العربية لن تُقدّم تغطيةً تُشرعن اختطافَ الحزب للقرار الأمني والسياسي بلبنان
ولعلّ هذا يشير بوضوح إلى أنّ معضلة الاقتصاد في إيران ستترك أثرها العميق في نفوذها الإقليمي، في حال أخذت العقوبات الأمريكية مسارها الجديّ بعيد المدى، الذي أعلنت عنه إدارة دونالد ترامب.
وقد كان فشل القمة العربية الاقتصادية الأخيرة في لبنان رسالة إلى طهران ووكيلها حزب الله بأنّ الدول العربية الرئيسية لن تُقدّم تغطيةً "تُشرعن" اختطافَ حزب الله للقرارين؛ الأمني والسياسي في لبنان، عبر الاستقواء بسلاحه (حزب الله) المليشيوي.
والأرجح أنّ هذه مسألة معقدة، لن تكفي هذه الرسالة وحدها بحلّها، في ظل ضعف الفرقاء السياسيين وتشتتهم في مواجهة ما يُوصف بـ "دويلة حزب الله". وبرغم ذلك، فقد قال وزير المالية السعودي، محمد الجدعان، أمس إنّ السعودية ستدعم لبنان "على طول الطريق" لحماية استقراره، كما نقلت وكالة "رويترز".
اقرأ أيضاً: لماذا تصعّد إسرائيل ضد إيران في سوريا؟
مجرد قوّة قادرة على الإزعاج
وفي مداخلته في موقع "مركز كارنيغي للشرق الأوسط" قال الباحث في معهد الشرق الأوسط في واشنطن العاصمة والأستاذ المساعد في كليّة الدراسات الدولية المتقدّمة في جامعة جونز هوبكنز، جان-فرانسوا سيزنك، إنّ طموحات إيران في الشرق الأوسط تشمل تمويل الميليشيات العراقية، ومساعدة الحوثيين في اليمن، إلى جانب تسليح الفروع المتعدّدة من قواتها العسكرية والأمنية الضخمة. ويرى سيزنك أن كلّ هذه الجهود كلّفتها عشرات المليارات من الدولارات، بيد أنّ مدخول إيران الذي يعتمد على النفط والغاز آخذٌ في الانخفاض؛ فالعقوبات الأمريكية تقلّص حجم الصادرات النفطية الإيرانية إلى نحو مليون برميل يومياً، ما قد يُفقد إيران أكثر من 32 مليار دولار من مدخولها، كما أنّ إيران، التي تعتزّ بأنّها تملك أكبر احتياطيات من الغاز الطبيعي في العالم، تقف، وفق سيزنك، عاجزةً عن توفير ما يكفي من العرض في السوق المحلّية، بسبب افتقارها إلى التكنولوجيا والاستثمار الأجنبي.
اقرأ أيضاً: انسحاب أمريكا من سوريا تعزيز لإرهاب إيران
وأردف الباحث قائلاً: "يبدو أنّ جهود إيران المتواصلة لتوسيع نفوذها في المنطقة تقوّض اقتصادها تماماً. لذا، فطموحاتها الرامية إلى فرض هيمنتها على المنطقة تضمن بقاءها كقوة مُزعجة، إنما قوة من الدرجة الثانية ليس إلا".
من جانبه، فإنّ كبير المراسلين حول إيران في صحيفة "فايننشال تايمز" في الفترة بين 2003–2007، غارث سميث، يرى في مداخلته التي نشرها أيضاً "مركز كارنيغي للشرق الأوسط" أنّ نفوذ إيران الدولي محدود؛ بسبب الطابع الشيعي للجمهورية الإسلامية التي تقبع بتوتر إلى جانب أغلبيات سنّية في العالمين العربي والإسلامي.
سيزنك: طموحات إيران في الشرق الأوسط تشمل تمويل الميليشيات العراقية ومساعدة الحوثيين في اليمن
ويلفت سميث إلى أنّ طهران قد تملك خيارات تقوّي موقفها؛ حيث بالمقارنة مع إدارة ترامب، تريد أوروبا إدخال إيران إلى النظام الاقتصادي العالمي وإلى منظومة الترتيبات التعددية، بما في ذلك الحفاظ على الصفقة النووية التي أبرمت العام 2015. وقد أعلنت فرنسا أمس أنّ الآلية الجديدة الخاصة بالتبادل التجاري ستكون جاهزة في غضون أيام. كما أنّ إيران، يضيف سميث، تواصل نسج علاقات مصالح مع تركيا وروسيا والصين وغيرها من الدول.
وفي هذا السياق ينبّه الكاتب السعودي عبد الرحمن الراشد في مقاله أمس في "الشرق الأوسط"، إلى أنّه لا يمكن إنكار أن التدخل الإيراني في حرب سوريا الأهلية أنقذ النظام السوري، وأنّ هذا الاستنتاج لا يمكن أن يتجاهله راسمو السياسات الإقليمية عندما يطلبون من حكومة دمشق إخراج إيران. ويضيف: يبدو أنّ الحكومة السورية تؤمن بأنّ العلاقة مع الإيرانيين ضرورة لمنع إسقاطها مستقبلاً. لهذا؛ يستبعد أن يغادر الإيرانيون سوريا برضاهم، بعد أن خسروا فيها من الدم والدولارات ما لا يستهان به، وجعلوها قطعة رئيسية في لعبة سياستهم الخارجية، التي تقوم على مد نفوذهم إلى خارج الحدود.
اقرأ أيضاً: بومبيو: هذا ما تفعله إيران في العراق واليمن
إيران أمام تحديات ومخاطر داخلية
ويرى الراشد أنّ علاقة طهران بدمشق هي العقبة الوحيدة في إنهاء الحرب، والاعتراف بسلطة النظام، وعودة العلاقات الإقليمية والدولية مع دمشق، ويوضح أنّ معظم حكومات المنطقة لا تهوى التدخل في كيف يحكم نظام دمشق بلاده؛ لأنها لا تريد للآخرين أن يملوا عليها كيف تدير شؤونها، لكن، في المقابل، فإنّ إيران كانت، ولا تزال، تمثل خطراً على هذه الدول، وجودها واستقرارها.
اقرأ أيضاً: عقوبات أوروبية جديدة على إيران.. ما هي؟
ويستطرد الكاتب السعودي بالقول: إنّ دمشق أمام وضع جديد مختلف عن السابق في علاقتها بطهران؛ فأولاً، إسرائيل ترفض وجود إيران عسكرياً في محيطها الجغرافي المباشر، وستستمر في عملياتها العسكرية ضدها التي بلغت الأعلى منذ حرب 1973. والوجود الإيراني يدفع الكثير من الدول العربية للاصطفاف مع إسرائيل؛ رغبة في إخراج إيران من سوريا وحتى لبنان. وثانياً، إيران أمام تحديات داخلية تشي بأنها مقبلة على تغييرات مهمة. ويختم الراشد بالقول: "علينا ألا نقلل من خطورة عمليات التمرد اليومية في داخل الجمهورية الإسلامية، التي أضعفتها، وستضطرها إلى تقليص نفوذها الخارجي، وسيبقى على سوريا أن تختار في النهاية إما مع إيران أو الخروج من فلكها؟".