
أثار تقرير استخباراتي فرنسي جدلًا واسعًا، بعدما كشف عن تحولات خطيرة في أساليب تنظيم الإخوان المسلمين داخل فرنسا. وأكد التقرير أن التنظيم بات يشكّل تهديدًا مموّهًا للمجتمع والدولة، عبر تبني أسلوب "الاختراق الهادئ" للمؤسسات والجاليات.
من خلال متابعة دقيقة لتحركات التنظيم، خلصت الاستخبارات إلى أن الإخوان تخلّوا عن الأسلوب الصدامي العنيف، وركّزوا على التغلغل داخل المجتمع المدني، عبر جمعيات ومساجد ومدارس دينية، وهو ما يسمح لهم ببناء شبكات نفوذ طويلة المدى. وتكمن الخطورة في اعتمادهم خطابًا مزدوجًا، يُخفي نواياهم السياسية تحت غطاء ديني وحقوقي.
وفي سياق مواجهة هذا التهديد، أوصى التقرير باتخاذ إجراءات أكثر صرامة تجاه الجمعيات الدينية المموّلة من الخارج، وتحديث الأطر القانونية لمواجهة هذا النوع من "التطرّف المموّه". وأكد أن التصدي لهذا المشروع يتطلب تعاونًا بين المؤسسات الأمنية والتعليمية والثقافية.
ولتحضير هذا التقرير، أجرى المؤلفان منذ عام 2024 10 زيارات ميدانية داخل فرنسا، و4 إلى دول أوروبية أخرى، كما التقيا ما لا يقل عن 45 أكاديميا فرنسيا وأجنبيا من تيارات فكرية متعددة، إلى جانب مسؤولين محليين ووطنين من الجالية المسلمة. كما تمت أيضا مراجعة عشرات المقالات والدراسات الأكاديمية المتعلقة بالموضوع.
اختراق هادئ وتغلغل مؤسسي
وجاء في التقرير الذي يحمل عنوان "الإخوان المسلمون والإسلام السياسي في فرنسا"، وأعده سفير فرنسي ومسؤول في الشرطة بتكليف من وزارات الداخلية والخارجية والدفاع، أن "جماعة الإخوان المسلمين تقوض الدولة الفرنسية من الداخل بشبكة واسعة من العناصر والمؤسسات المتغلغلة".
وأشار إلى وجود 139 مكان عبادة تابعة لمسلمي فرنسا تعتبر، بحسب التقرير، مقارا رئيسية للإخوان في فرنسا، رغم نفي الجماعة ذلك.
كما أضاف أن "68 مكانا آخر يعتبر قريبا من الجماعة، موزعة على 55 مقاطعة فرنسية، مما يشكل 7 بالمئة من إجمالي 2800 دار عبادة إسلامي في فرنسا، و10بالمئة من أماكن العبادة التي افتتحت بين عامي 2010 و2020 (45 من أصل 447)".
ووفق التقرير، فإن هناك 280 جمعية مرتبطة بجماعة الإخوان تنشط في مجالات متنوعة، تشمل الدين والأعمال الخيرية والتعليم والمجالات المهنية والشبابية وحتى المالية.
وهو ما يكشف أن التنظيم بات يتّبع تكتيكًا يقوم على التسلل داخل البنى الاجتماعية الفرنسية، لا سيما من خلال المساجد والجمعيات الثقافية والتعليمية. وتظهر معطيات أمنية موثقة أن التنظيم يسعى إلى خلق شبكات محلية من النفوذ، تستند إلى العمل الاجتماعي والديني، لكنها تخفي في جوهرها مشروعًا سياسيًا إسلامويًا يرفض الانخراط في قيم الجمهورية.
ويوضح التقرير أن عناصر التنظيم يستخدمون واجهات قانونية وجمعوية للحصول على تمويلات مشبوهة من دول أجنبية، ولبناء مواقع تأثير داخل الجاليات، خصوصًا في الأحياء الفقيرة والهشة.
هناك 280 جمعية مرتبطة بجماعة الإخوان تنشط في مجالات متنوعة تشمل الدين والأعمال الخيرية والتعليم والمجالات المهنية والشبابية وحتى المالية
خطاب مزدوج وخطر عقائدي مقنّع
أحد أبرز مظاهر خطر الإخوان، بحسب التقرير، هو اعتمادهم خطابًا مزدوجًا: خارجيًا يروّجون لخطاب معتدل يتماشى مع القوانين الفرنسية، وداخليًا يُبث خطاب انعزالي يرفض العلمانية ويعادي الاندماج. ويستثمر هذا الخطاب في قضايا الإسلاموفوبيا والتمييز، لتعزيز سردية "الاضطهاد"، بهدف كسب شرعية داخل المجتمعات المسلمة.
التقرير يحذر من أن هذا الخطاب يسهم في خلق قطيعة نفسية بين الجاليات والدولة، ويؤسس لثقافة موازية ذات ولاء ديني يتفوق على الولاء المدني، ما يهدد وحدة المجتمع الفرنسي.
وتضم فرنسا وألمانيا أكبر نسبة من المسلمين مقارنة مع باقي بلدان الاتحاد الأوروبي. وتسعى السلطات الفرنسية لمنع أيّ انتشار للفكر الإسلامي المتشدد في بلد هزّته سلسلة هجمات جهادية دموية.
وكثيرا ما اتهمت الحكومة الفرنسية بالتلكؤ في مواجهة جماعة الإخوان بالرغم من وجود تقارير وشهادات سابقة حول خطر الجماعة في فرنسا خاصة وأوروبا عموما، فضلا عن تقارير عربية وإسلامية مختلفة
تجنيد ناعم وتعبئة نفسية للجاليات
وأوضح التقرير أن الجماعة لا تسعى لفرض "الشريعة الإسلامية" بشكل مباشر أو إقامة دولة إسلامية في فرنسا، لكنها تتبع نهجاً "خفيا وتدريجيا" يهدف إلى زعزعة التماسك الاجتماعي من خلال "إسلام بلدي" يؤثر على الحياة العامة والسياسات المحلية.
التقرير يرصد أيضا محاولات التنظيم لاستقطاب الشباب المسلم، خصوصًا أولئك الذين يعانون من التهميش الاجتماعي، عبر تقديم الهوية الدينية كبديل للهوية الوطنية. ويوظف التنظيم شبكة من الدعاة والمؤطرين في المدارس والمراكز الثقافية، لبناء ولاء طويل الأمد لأفكارهم.
كما يُحذر من أن هذا النوع من التجنيد لا يكون صريحًا أو مباشرًا، بل يتم عبر رسائل رمزية ومناهج ثقافية تتبنى مفاهيم الشريعة، وتُشكّك في مشروعية القوانين الفرنسية، مما يمهّد لبناء أجيال تحمل قناعات انعزالية.
وقد أشار التقرير إلى "الطابع الهدام للمشروع" الذي يعتمده الإخوان المسلمون، وعملهم على المدى الطويل للتوصل تدريجياً إلى تعديلات للقواعد المحلية أو الوطنية، ولا سيما تلك المتعلقة بالعلمانية والمساواة بين الرجال والنساء.
لكن، رغم ما سبق، فإن هيمنة الجماعة على المساجد وأماكن العبادة غير موجودة. وإذ عدّ التقرير أن منظمة "مسلمو فرنسا" ترفع راية الإخوان، فإنها لا تُمثّل سوى 7 في المائة من أصل 2700 مسجد ومكان عبادة على الأراضي الفرنسية كافة.
ويرصد التقرير أولويات الجماعة للتأثير، وأولها القطاع التعليمي والتربوي، وثانيها شبكات التواصل الاجتماعي، وثالثها دينامية العمل الخيري مع التزام استراتيجية "إضفاء الشرعية والاحترام الرامية إلى تغيير تدريجي للقوانين المحلية والوطنية المطبقة على السكان، وخاصةً ما يتعلق منها بالنظام القانوني للعلمانية والمساواة بين الجنسين".
ورغم ضعف أعدادها، فإن المساجد وأماكن الصلاة التابعة للجماعة تسعى إلى إنشاء "أنظمة بيئية إسلامية" تتكوّن من "دروس تعليم القرآن"، و"جمعيات خيرية"، و"ثقافية"، و"محلات مجتمعية" و"أنشطة رياضية".
توصيات استخباراتية لمواجهة الاختراق
التقرير الاستخباراتي ختم بسلسلة من التوصيات التي ترى أنها ضرورية لحماية الجمهورية من "الاختراق الناعم". وتضمنت هذه التوصيات؛ مراقبة دقيقة للجمعيات الدينية والثقافية المموّلة من الخارج، وتشديد الرقابة المالية وفرض الشفافية على التمويل الأجنبي.
يرصد التقرير أولويات الجماعة للتأثير وأولها القطاع التعليمي والتربوي وثانيها شبكات التواصل الاجتماعي وثالثها دينامية العمل الخيري
هذا إلى جانب توسيع برامج التربية المدنية في المدارس داخل المناطق الهشة، ودعم المؤسسات الدينية المعتدلة التي تلتزم بقيم الجمهورية.
ويؤكد التقرير أن التحدي لا يكمن فقط في ضبط الأنشطة المتطرفة، بل في حماية النسيج الوطني من التأثيرات العقائدية الهادفة إلى تقويض أسس العيش المشترك.
جدل واسع
وأثارت نتائج التقرير الصادم وتوصياته جدلاً واسعاً، ونددت منظمة "مسلمو فرنسا" بما وصفته بـ"الاتهامات الباطلة"، محذرة من "الخلط الخطير" بين الإسلام والتطرف، مؤكدة التزامها بالقيم الفرنسية، رافضة أي اتهامات بمحاولة فرض مشروع سياسي أجنبي أو استراتيجية "الاختراق".
كما عبر المجلس الفرنسي للديانة عن "قلقه العميق إزاء الانحرافات المحتملة واستغلال المعطيات التي تم الكشف عنها". وأكد المجلس في بيان أن "مكافحة التطرف الذي يتستر بالإسلام (...) هي في صميم أولوياتنا".
لكنه أشار إلى أن "غياب تعريفات واضحة للمفاهيم" المستخدمة في التقرير، "يُبقي على حالة من الالتباس الضار"، مضيفاً أن "عدداً كبيراً من المواطنين المسلمين يشعرون اليوم بأنهم لم يعودوا بمنأى عن الشك الدائم".
من جهته، شدد الإليزيه على أهمية عدم الخلط بين المسلمين ككل وبين جماعة الإخوان، وقال مسؤول في الرئاسة: "نقاتل ضد الإسلاموية وتطرفها وليس ضد المسلمين"، مضيفا أن الهدف هو "رفع الوعي" داخل الاتحاد الأوروبي حول هذا التهديد.
ويأتي هذا التقرير في وقت تشهد فيه فرنسا نقاشات محتدمة حول الهوية الوطنية والإسلام، مع تزايد شعبية اليمين المتطرف بقيادة مارين لوبان، كما أن فرنسا التي تعرضت لسلسلة هجمات إرهابية منذ عام 2015 تسعى لمنع انتشار الأفكار المتطرفة، مما يجعل هذا التقرير جزءاً من استراتيجية أوسع لتعزيز الأمن القومي.