سوريا الجديدة.. ضرورات العبور الآمن إلى المستقبل

سوريا الجديدة.. ضرورات العبور الآمن إلى المستقبل

سوريا الجديدة.. ضرورات العبور الآمن إلى المستقبل


13/01/2025

إبراهيم سعيد الظاهري

لا ننكر أنّ الحديث عن الشأن السوري وانعكاساته على استقرار المنطقة ومستقبلها يمكن أن يكون محفوفا بالمكاره والتوجسات لدى البعض، نتيجة التعقيدات والتشابكات التي تعتري الواقع لأسباب عديدة، أبرزها معاناة الشعب السوري تحت نيران النظام السابق، والتحفظات على ماضي الإدارة الجديدة، والتخوفات من مؤامرات جهات بعينها تخطط للتسرب إلى المشهد من خلال أذرعها المشبوهة، لتنفيذ أجنداتها المذهبية والتوسعية.

إنّ زوال تلك المكاره والتوجسات يفرض أمانة التناول، ودقة التشخيص، وسموّ الغاية والهدف، والإنصاف، وتغليب المصالح العليا، وفي مقدمتها استقرار المنطقة، والحيلولة دون نجاح المخططات التي نالت من مقدرات الشعوب في بعض الدول، وأخصها اليمن والعراق وفلسطين ولبنان، ولا يخفى ارتباط الملفين السوري واللبناني ببعضهما البعض.

يجب أن ندرك حقيقة أنّ ما وقع على السوريين من استبداد وطغيان وتعذيب في ظلّ النظام السابق ترك معاناة لا توصف، وجرحا لا يزال ينزف، وسوف يبقى طويلا في ذاكرة أجيال قادمة عديدة من السوريين والعرب أيضا.

إنّ إدانة النظام السابق بكلّ العبارات لا يمكن أن تكشف عن حجم ما قام به من جرائم وفظائع وانتهاكات بحق السوريين. شتّت جمعهم، واحتقر إنسانيتهم، وحوّل الدولة إلى عصابة لتحقيق أغراضه، وجعل سوريا رهينة إرادات ومصالح قوى من خارجها، بالإضافة إلى حجم الدمار المؤسسي الذي أصابها بسبب الفساد، وما لحق بها من دمار وخراب، وتدمير ممنهج للنسيج الاجتماعي طوال أربعة عشر عاما مضت بسبب التدخل الإيراني.

كما ينبغي أن نعي أن كلّ مرحلة انتقالية تكون “شاقة” بمتطلباتها الضرورية والملحة. وهذا يضع الإدارة السورية الجديدة أمام ضرورات حقيقية يجب الوفاء بها، بحيث تستهدف الشعب السوري بجميع فئاته ومكوناته انطلاقا من “مأسسة الشرعية الانتقالية”. وتشمل تلك الضرورات العاجلة:

♦ سرعة الإعداد الجيد للمؤتمر الوطني المزمع عقده، لضمان أن تكون مخرجاته بحجم طموح الداخل والخارج، وحتى يؤسس لمرحلة انتقالية قانونية من خلال إعلان مبادئ دستورية للمرحلة الانتقالية.

♦ تشكيل مجلس رئاسي، وحكومة وحدة وطنية تمثل مختلف مكونات الطيف السوري، انطلاقا من مخرجات المؤتمر الوطني.

♦ أن يختار المؤتمر مجلسا وطنيا أو استشاريا يمثل المؤسسة التشريعية، بحيث تكتمل مؤسسات المرحلة الانتقالية: الرئاسية، والتشريعية، والتنفيذية، والقضائية.

♦ تشكيل لجان أو هيئات متخصصة تُعنى بإعداد الدستور الجديد والقوانين والأنظمة والمراسيم والقرارات، لتستطيع الدولة ممارسة دورها بصورة فعالة داخليا وخارجيا بالاستفادة من خبرات السوريين السياسية والدبلوماسية والقانونية والاقتصادية والإعلامية، وغيرها.

♦ إدراك حقيقة أنّ الاعتماد على “أهل الثقة” وحدهم لا يكفي لإدارة المراحل الانتقالية الفارقة في حياة الشعوب، وتحقيق الغايات الكبرى والأهداف المصيرية التي تتطلع إليها.

♦ سرعة الاستعانة بفريق محترف من الخبراء السوريين في جميع المجالات، وهم كثيرون، لضمان إدارة المرحلة الانتقالية باحترافية ومهنية سياسيا واقتصاديا واجتماعيا وإعلاميا وتعليميا، ونحو ذلك.

♦ ضرورة الاستفادة من الطاقات البشرية السورية الناجحة في إدارة شؤون الدولة بمختلف المجالات، سواء من داخل الإدارة القائمة، أو الذين انشقوا عن النظام السابق، ولم تتلوث أيديهم بدماء السوريين، ولم تمتد بالنهب إلى أموالهم، وكذلك المستقلون والقوى السياسية بالمحافظات السورية.

♦ عدم التأخر في إصدار قرارات حاسمة واضحة تريح الداخل، وتطمئن الخارج، وتبدد المخاوف “المشروعة” لدى كثيرين، والعمل على سرعة تحديد أسس النظام السياسي المؤقت لإدارة البلاد خلال المرحلة الانتقالية، والوصول إلى استقرارها أمنيا وسياسيا واقتصاديا وعسكريا، وعدم ترك الأمور المصيرية للمصادفة، فإدارة دولة كبرى بحجم سوريا لا يصلح معها التعامل بطريقة إدارة محافظة أو منطقة صغيرة.

♦ العمل على تبديد مخاوف الكثيرين من شكل النظام السوري القائم ذي الصبغة الواحدة “الإسلامية الراديكالية” من خلال تقديم تنازلات وتطمينات وممارسات ومقاربات تأخذ بعين الاعتبار مطالب جميع الفرقاء.

ولا بأس من اعتماد نموذج تجربة يحقق مصلحة سوريا والسوريين، كالتجربة المعمول بها في تركيا، أو دول مجلس التعاون الخليجي، حيث يوجد تمازج واضح بين محافظة المجتمع والحياة العامة وعدم التعدي على الحريات العامة، والأخذ بالحداثة ومدنية الدولة التي لا تتعارض مع قيم المجتمع وتراثه الإسلامي.

♦ أما آخر الضرورات، وربما أكثرها إلحاحا، فسرعة التواصل مع مختلف مكونات الشعب السوري في الشمال والجنوب، خاصة الأكراد والدروز والعلويين وغيرهم، لإزالة التخوفات لديهم، والوقوف على مطالبهم، وتشجيعهم على المشاركة في صناعة “سوريا المستقبل” باعتبارهم جزءا لا ينفصل عن الشعب السوري.

وقد أكدت تلك الأطراف حرصها على وحدة سوريا وسلامة أراضيها، وينحصر الخلاف بينها حول شكل النظام السوري القادم، وكيفية تحقيق توافق حوله من مختلف المكونات، بحيث يحصل كل طرف على ما يسعى إليه وفق الكفاءة والقدرة، والاتفاق على شكل النظام وماهيته، الأمر الذي يبدد تخوفات المركز والأطراف، ويُفشل محاولات الطامعين في إخفاق التجربة السياسية في سوريا.

تلك ضرورات عاجلة تمثل، في رأينا، آلية عمل جاد وربما شاق، للحفاظ على وحدة الشعب السوري، وسلامة أراضيه، وضمان استقرار المنطقة، وتجنب الانزلاق في “المأزق” الذي يخطط الأعداء المتربصون بسوريا والمنطقة العربية لدفع الجميع إلى السقوط فيه، ومن ثم التسلل لتحقيق أطماعهم المذهبية والتوسعية.

والحديث عن مخاوف من “مأزق سوري” ليس مبعثه التشاؤم، وإنما قراءة لأحد أهم جوانب المشهد التي يمكننا أن نرصد من خلالها:

♦ أن معظم التقارير والتصريحات التي تصدر من هنا وهناك ليست ذات مصداقية موثوقة، فغالبيتها تستهدف التشويه والهدم وتوسيع هوة الخلافات بين العديد من الأطراف المتصلة بالوضع السوري، وتحيي ألاعيب استعمارية قديمة شعارها “فرّقْ تسُدْ” خاصة ما يتعلق بالأكراد والدروز والعلويين، وغيرهم.

♦ لم يتضح حتى الآن أنّ الإدارة القائمة تعالج الكثير من القضايا بالشكل الصحيح، فالنوايا الصادقة وقصر الاعتماد على أهل الثقة لا يكفيان لتحقيق أهداف الفترة الانتقالية.

♦ صحيح أنّ الإدارة السورية القائمة قدّمت خطابا إيجابيا ومريحا للداخل والخارج، ولكنّ هذا لا يكفي ما لم يقترن بأفعال تحقق مصالح الشعب السوري والمنطقة على أرض الواقع.

♦ هناك ما يمكن اعتباره “هستيريا” مطالبات وانتقادات، وتضليل ممنهج، وتأجيج متعمد لمظاهر الخلافات بلغ حدّ الطعن والتشكيك في الإدارة الجديدة، يقابله احتفاء بها مبالغ فيه، يرى فيها تحقيق حلم سوريا الجديدة. والحقيقة أن الأمرين غير مرغوبين، فالأولى منهما المزيد من العقلانية والوعي والتواضع.

ومن قبيل المصارحة والإقرار بالواقع، أكيد أنّ تصدّر هيئة تحرير الشام المشهد بعد سقوط النظام السوري السابق جسّد في البداية تحديات للكثير من المكونات السورية، وتوجسات بالمنطقة والعالم، وتهديدا للطبيعة الطائفية والثقافية والعرقية المتنوعة لسوريا، وعائقا لإعادة بناء البلاد وفق معايير الدولة الحديثة، بالإضافة إلى ما اعتبره بعض الباحثين والمتابعين “وصاية تركية”.

وعلى الرغم من ذلك لم تمنع تلك التوجسات المشروعة الدول العربية ذات التأثير الفاعل في المنطقة والعالم كالسعودية والإمارات خاصة، ودول مجلس التعاون الخليجي عامة، من التواصل مع الإدارة الجديدة، وإظهار استعدادها لدعمها، لإنجاح عملية التحول.

سارعت السعودية إلى إرسال وفد دبلوماسي إلى دمشق، كما استضافت وفدا من الإدارة السورية الجديدة. وأجرى وزير الخارجية الإماراتي أول اتصال رسمي مع نظيره السوري الجديد أسعد الشيباني، واستقبله في أبوظبي. وزار وزير الخارجية الأردني أيمن الصفدي دمشق، والتقى قائد الإدارة السورية الجديدة، والتقى الشيباني في الأردن.

ومن هنا تبرز أهمية الاجتماعات الوزارية الموسعة حول سوريا في الرياض بمشاركة عربية دولية. دعت إلى رفع العقوبات المفروضة على سوريا، وتقديم الدعم الإنساني لها، وبدء عملية سياسية تضم مختلف مكونات الشعب، بما يكفل استقرارها وسيادتها، ووحدة أراضيها، وألا تكون مصدرا لتهديد غيرها. وذلك لن يتحقق إلا باستجابة الإدارة السياسية القائمة لهذه المطالب العربية والعالمية؛ كي تُولد سوريا بهويتها العربية، وتعود إلى حاضنتها الحقيقية،  ولتتجنب المنطقة والعالم تكلفة المزيد من الخلافات والصراعات.

وهذا يوضح بجلاء أن سوريا الجديدة تولد مدعومة بتطلعات شعب واحد يضم كل مكوناته وأطيافه، وإرادة أمة أنهكتها الخلافات والحروب والتمزقات، فنهضت للتخلص من هذا الإرث الذي أثقل كاهلها ردحا من الزمن، ولا تزال آثاره تنخر في حاضرها، وتهدد مستقبلها.

إن ما قامت به هذه الدول العربية يعد تحركا إيجابيا ومريحا للداخل والخارج، ويُفوّت الفرصة على أي أطراف خارجية إقليمية أو دولية تحاول الصيد في الماء العكر، خاصة بعد أن أصبحت إيران وروسيا خارج المعادلة السورية تقريبا. ويعزز في الوقت نفسه الحضور التركي في المشهد السوري باعتباره ضمانة قوية لتوجيه التحول السوري، والحفاظ على وحدة سوريا، والحد من مخاطر تحولها إلى دولة فاشلة تهدد استقرار الإقليم.

ولا تخفى رغبة الأتراك أنفسهم في أن يكون للعالم العربي انخراط قوي في بناء سوريا الجديدة، وتعافيها من آثار الحرب، انطلاقا من تصور تركي بأن الشراكات الإستراتيجية الناشئة مع المنطقة العربية في السنوات الأخيرة تؤسس لعهد تركي – عربي قادر على لعب دور محوري في إدارة شؤون المنطقة، بينما لم تعد الولايات المتحدة قادرة، أو راغبة، على لعب دور القوة العالمية المهيمنة في الجغرافيا السياسية الإقليمية.

ويعزز هذا التوجه التركي جهودا على مختلف المستويات، أبرزها اتصال الرئيس رجب طيب أردوغان بالشيخ محمد بن زايد آل نهيان رئيس الإمارات، وزيارة وزير خارجيتها الإمارات ولقائه رئيسها، بالإضافة إلى تأكيد مسؤولين أتراك وجود تنسيق عال مع المملكة العربية السعودية، الأمر الذي ينفي أن الحضور التركي في المشهد السوري يهدد المصالح العربية، فالحقيقة أنّ التعاون العربي – التركي يعزز فرص النجاح، ويمكن أن يعالج هواجس بعض الدول، ويمثل حافزا على تخفيف الصبغة الإسلامية للإدارة الجديدة، وتشكيل حكومة شاملة قادرة على بناء دولة المؤسسات والقانون، وإخراجها من عزلتها الدولية.

إن النجاح الذي تحقق في انتخاب جوزيف عون رئيسا للبنان بفضل جهود المملكة العربية السعودية والولايات المتحدة، وفرنسا، والمبعوث الأممي يبعث على التفاؤل بأن التعاون العربي – التركي – الدولي سيحقق أهدافه في نجاح تجربة سوريا وتجنيبها السقوط في “مأزق” الخلافات والأطماع المذهبية والتوسعية.

العرب




انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات
الصفحة الرئيسية