
ترجمة: محمد الدخاخني
كان الأسبوع الماضي مليئاً بالتكهنات حول ما إذا كانت (المحكمة الجنائية الدولية) ستصدر مذكرة اعتقال بحق رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، من بين شخصيات إسرائيلية أخرى. مصدر هذه التكهنات هو تسريب مفترض من داخل المخابرات الإسرائيلية، التي يشتبه منذ فترة طويلة أنّ لها آذاناً مُصغية في هيئتي "المحكمة الجنائية الدولية" المسؤولتين عن إصدار مثل هذه المذكرات: "مكتب المدَّعي"، و"الدائرة التمهيدية".
نتنياهو، الذي يخوض حرباً في غزة تحمل أعلى معدل للوفيات بين المدنيين مقارنة بأيّ صراع حتى الآن في هذا القرن، يشعر بالقلق لأسباب مفهومة. فدعمه في الداخل كان هشاً حتى قبل الحرب، ويرجع ذلك جزئياً إلى القضايا الجنائية الإسرائيلية المرفوعة ضده. وهو الآن يواجه خطر تصنيفه مشتبهاً به جنائياً على الساحة الدولية. في خطابه الصاخب ضد (المحكمة الجنائية الدولية)، قدّم نتنياهو (3) ادعاءات، وقد رددها جميعها بدرجات متفاوتة أقوى حلفاء إسرائيل الغربيين، (الولايات المتحدة والمملكة المتحدة وألمانيا).
يقول نتنياهو: إنّ إصدار مذكرة اعتقال دولية بحقه - بالإضافة إلى تعريض حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها للخطر والإضرار بفرص السلام - ينتهك القانون الدولي من خلال فرض اختصاص (المحكمة الجنائية الدولية) على الإسرائيليين حيثما لا تتمتع بذلك.
الادعاءان الأوّلان زائفان؛ أوّلاً: (المحكمة الجنائية الدولية) هي هيئة تحكيم تخضع للقانون الدولي، ولديها أحكام تحمي حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها. ثانياً: من المرجح أن تصدر المحكمة أوامر اعتقال ليس فقط لقادة إسرائيليين، بل لقادة فلسطينيين أيضاً. ومن الصعب أن نرى سيناريو تؤدي فيه محاكمات بشأن جرائم الحرب على كلا الجانبين إلى تحفيز المزيد من الحرب.
لكن قبل التعامل مع الادعاء الأخير المتعلِّق بالاختصاص القضائي، تجدر الإشارة إلى أنّ التكهنات نفسها تستحق بعض الشك، ولو بسبب مصدرها فقط. فالمحادثات بين إسرائيل وحماس لإنهاء الحرب وإطلاق سراح الرهائن الإسرائيليين الذين احتجزتهم الحركة في 7 تشرين الأول (أكتوبر) لا تتقدم بشكل جيد. ويقول نتنياهو إنّه مصمم على مواصلة الحرب على الرغم من تراجع الدعم من جانب حلفاء إسرائيل الغربيين. لكنّ هؤلاء الحلفاء أنفسهم، خاصة أولئك المذكورين أعلاه، يبدون مدينين لإسرائيل بطريقة لا تشبه أيّ دولة أخرى تقريباً.
إنّ توجيه (المحكمة الجنائية الدولية) للائحة اتهام ضد رئيس الوزراء الإسرائيلي من شأنه أن يشكّل قضية خلافية قد يشعر فيها حلفاء إسرائيل بأنّهم ملزمون بدعمها. وإلى أن تُعلَن مذكرة اعتقال فعلية، لا يمكننا أن نستبعد احتمال أن يكون "التسريب" متعمداً، بهدف تحويل تركيز الحلفاء وحشد الدعم لحكومة إسرائيل في الداخل والخارج.
إذاً، هل تتمتع (المحكمة الجنائية الدولية) بالاختصاص القضائي على الجرائم الإسرائيلية المرتكبة في غزة؟ كريم خان المدعي العام (للمحكمة الجنائية الدولية) يقول "نعم"، ويقول نتنياهو وحلفاؤه "لا".
وفي مؤتمر صحافي يوم 29 نيسان (أبريل) رفضت المتحدثة باسم البيت الأبيض كارين جان بيير حتى شرح المنطق وراء "لا". وقالت: "لا نعتقد أنّ لديهم الاختصاص القضائي. سأتوقف هنا في الوقت الحالي".
هل يكذب أحد الطرفين؟ أم أنّها مجرد مسألة رأي؟
تختص المحكمة بنظر (4) أنواع من الجرائم: جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية والإبادة الجماعية والعدوان. ويمكنها إجراء محاكمات بشأن هذه الجرائم في (4) حالات: عندما يرتكبها مواطنون من دولة عضو في المحكمة، وعندما يرتكبها أيّ شخص على أراضي دولة عضو في المحكمة، وعندما تُرتَكب على أراضي دولة غير عضو وجهت دعوة إلى المحكمة للتحقيق في الوقائع، وعندما تُحال القضية إلى "مكتب المُدَّعي" من قِبل مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة، بغضّ النظر عمّا إذا كان المشتبه بهم أو المنطقة على صلة بدولة عضو في المحكمة.
من المهم توضيح ذلك؛ لأنّ إحدى الحجج الأساسية التي تقدمها إسرائيل وحلفاؤها ضد الاختصاص القضائي هي أنّ إسرائيل ليست عضواً في المحكمة، ولم توجه دعوة للمحكمة للتحقيق، ولم يُحل مجلس الأمن الأمر إلى "مكتب المُدَّعي"، هذا كله صحيح، لكنّ الحجة المضادة التي عبَّر عنها مُدَّعي المحكمة ترتكز على الحالة الرابعة: ارتُكبت جرائم إسرائيلية مزعومة على أراضي دولة عضو في (المحكمة الجنائية الدولية)، وهي فلسطين، التي تقدمت بطلب عضوية المحكمة وقبلت عضويتها في عام 2015. ولذلك، من حيث المبدأ، أيّ شخص من أيّ بلد يرتكب إحدى الجرائم الـ (4) في فلسطين يمكن أن يجد نفسه في مرمى "مكتب المُدَّعي".
ومع ذلك، فإنّ المسألة ليست واضحة للغاية. من الأفضل معالجة السؤال بتقسيمه إلى سؤالين منفصلين؛ أوّلاً: هل للمحكمة اختصاص قضائي في فلسطين؟ وثانياً: ما الذي يستلزمه هذا الاختصاص حقاً؟
تم الرد على السؤالين في عام 2021 عندما طلبت فاتو بنسودا، التي شغلت منصب مُدَّعي المحكمة قبل خان، من "الدائرة التمهيدية" إصدار حكم بشأن اختصاص المحكمة قبل أن تفتح تحقيقاً في الجرائم الإسرائيلية المرتكبة في الأراضي الفلسطينية المحتلة (غزة والضفة الغربية، بما في ذلك القدس الشرقية). وقد اعترضت الولايات المتحدة وألمانيا بشدة على أساس أنّ فلسطين ليست دولة. بحسبهما، قد يكون لديها حكومة في هيئة "السلطة الفلسطينية"، ولكنّها في الوقت الحالي على الأقل تفتقر إلى منطقة محددة تستطيع أن تمارس عليها سيادتها وولايتها القانونية؛ وبالتالي ما كان ينبغي لها قط أن تُقبل أمام المحكمة في المقام الأول. (ومع ذلك، فإنّهما لم يطعنا في انضمام الفلسطينيين إلى المحكمة في عام 2015).
ومع ذلك، حصلت بنسودا على حكم إيجابي، وإن لم يكن نهائياً.
وكان ذلك مؤاتياً؛ لأنّ قضاة "الدائرة التمهيدية" الـ (3) أجمعوا على أنّ عضوية فلسطين في المحكمة صحيحة، وبالتالي فإنّ المحكمة لها سلطة قضائية في فلسطين. على الرغم من أنّ الدائرة ذكرت أنّها ليست مختصة في اتخاذ قرار بشأن ما إذا كانت فلسطين "دولة" في مجالات أخرى من القانون الدولي، فإنّها يمكن أن توافق على أنّ انضمام فلسطين إلى المحكمة تم بشكل صحيح وبطريقة لا يمكن للدائرة التراجع عنها، وبالتالي فهي "دولة" عندما يتعلق الأمر بأغراض إجراءات المحكمة. كما اتفقوا بالأغلبية (2) من أصل (3) على أنّ السلطة القضائية تمتد إلى جميع الأراضي الفلسطينية المحتلة منذ عام 1967.
لكنّ الحكم لم يكن نهائياً لسببين؛ أوّلاً: اختلف القاضي بيتر كوفاكس مع زملائه حول عدة قضايا، أهمها فكرة إمكانية تحديد الأراضي الفلسطينية بهذه الدقة في هذه المرحلة. وكما يقول عالم القانون الدولي كيفن جون هيلر: "وافقت المحكمة الجنائية الدولية بالإجماع على أنّ للمحكمة اختصاصاً قضائياً على الوضع في فلسطين. الخلاف يتعلق بالأراضي الفلسطينية التي ينبغي اعتبارها ضمن اختصاص المحكمة".
ثانياً: أقرت الدائرة بأنّ الباب ما يزال مفتوحاً أمام الطعون في مراحل لاحقة من العملية القانونية. فمن ناحية يختلف تكوين قضاة "الدائرة التمهيدية" اليوم عن عام 2021، وقد يحكمون بشكل مختلف بشأن تفاصيل الاختصاص القضائي في فلسطين إذا تقدم خان بطلب للحصول على مذكرة اعتقال. ومن ناحية أخرى يمكن للدول أو المشتبه بهم تقديم طعن على أساس الاختصاص القضائي إلى "الدائرة التمهيدية"، وفي حالة صدور قرار غير مناسب، إلى "دائرة الاستئناف" في المحكمة.
إذاً، ما الجواب عن السؤالين المطروحين سابقاً: "هل للمحكمة اختصاص قضائي في فلسطين، وما الذي يستلزمه هذا الاختصاص"؟ بالنسبة إلى الأوّل، فالإجابة هي "نعم" بوضوح، وبالنسبة إلى الثاني، فهي "سنرى".
بعد وقت قصير من صدور حكم عام 2021 رفض المتحدث باسم وزارة الخارجية الأمريكية نيد برايس جميع تفاصيل القضية عندما قال: "لدينا مخاوف جدية بشأن محاولات المحكمة الجنائية الدولية ممارسة اختصاصها القضائي على المسؤولين الإسرائيليين. اتخذت الولايات المتحدة دائماً موقفاً مفاده أنّ اختصاص المحكمة يجب أن يقتصر على الدول التي توافق عليها، أو القضايا التي يحيلها إليها مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة".
لكن من حيث المبدأ، لا يهمّ كثيراً ما الدول التي تعتقد الولايات المتحدة أنّ اختصاص المحكمة ينبغي أن يقتصر عليها. إنّ القانون (الذي ساعدت الولايات المتحدة في صياغته) واضح فيما يتعلق بالدول (أو بشكل أكثر دقة الأفراد) المخصص لها، ويشمل ذلك، من خلال حكم قانوني، الأشخاص الذين يرتكبون جرائم في فلسطين.
ويبدو أنّ المبادئ الأمريكية بشأن هذا الموضوع قد تغيرت في العام الماضي - وهي الحقيقة التي تجاهلتها جان بيير بسهولة - عندما أمر البيت الأبيض الوكالات الأمريكية بمشاركة الأدلة مع "مكتب المُدَّعي" بشأن جرائم الحرب التي يُزعم أنّ الرئيس الروسي فلاديمير بوتين ارتكبها في أوكرانيا. وروسيا، مثل إسرائيل، ليست دولة عضو في المحكمة، ولم يقم مجلس الأمن بإحالة القضية إلى المحكمة.
بطبيعة الحال، قد تزعم الولايات المتحدة مرة أخرى أنّ فلسطين ليست دولة، في حين أنّ أوكرانيا دولة، وأنّ المحكمة كانت مخطئة عندما اعترفت بأيّ شكل من أشكال الدولة الفلسطينية. لكنّ الأمر متروك لأعضاء المحكمة (وهي مجموعة لا تضمّ الولايات المتحدة) لاتخاذ القرار بشأن عملية الانضمام إلى المحكمة، وإذا كانت واشنطن لا تعتقد أنّ المحكمة تتمتع بالقدر الكافي من الكفاءة لتحديد اختصاصها القضائي، فلماذا تكون في الوقت نفسه مقتدرة كفاية لملاحقة بوتين؟
إنّ التناقض - أو النفاق، كما يقول الكثيرون - بين هذين الموقفين يشير إلى أنّ خط واشنطن هو نتاج لمسرحية سياسية أكثر من كونه نتاجاً للاستدلال القانوني. للأسف، لهذا السبب ربما يكون من الأفضل ترك هذه الأمور للمحاكم.
المصدر:
https://www.thenationalnews.com/opinion/comment/2024/05/02/icc-arrest-warrant-netanyahu/