"سيد قطب والأصولية الإسلامية": هل تجاوز الإخوان هذا الفكر؟

"سيد قطب والأصولية الإسلامية": هل تجاوز الإخوان هذا الفكر؟

"سيد قطب والأصولية الإسلامية": هل تجاوز الإخوان هذا الفكر؟


10/03/2024

يرى الكثير من الباحثين والمتتبعين لمسيرة الأصولية الإسلامية أنّ سيد قطب قد شكّل مرحلة انعطاف راديكالي في تاريخ الفكر الأصولي الإسلامي بشكل عام، والفكر الحركي والسياسي الإخواني في مصر بشكل خاص، وذلك بتكريس القطيعة النهائية مع الفكر السلفي الإصلاحي النهضوي، وتبنّي خطاب التكفير والجهاد والعنف الحاقد في مواجهة الدولة والمجتمع تحت شعارات "الحاكمية" و"الجاهلية" و"التكفير"... التي تبنّاها قطب في مواجهة النظام الناصري والدولة القومية الناشئة آنذاك، بعد أن طور تلك الأفكار عن المودودي رغم تباين السياقين؛ الهندي والمصري.

يرى كثيرون أنّ سيد قطب شكّل مرحلة انعطاف راديكالي في تاريخ الفكر الإسلامي الأصولي والحركي

وقد عملت تلك الأفكار على التمهيد النظري والحركي لميلاد جيل جديد من التنظيمات والجماعات الإسلامية الجهادية التي اتخذت العنف منهجاً وطريق الاغتيالات مسلكاً وأسلمة الدولة والمجتمع وبناء الدولة الإسلامية أو الخلافة الإسلامية غاية وهدفاً، "كحركة الجهاد" و"حركة التكفير والهجرة" وغيرها فيما بعد.
لكن يبقى السؤال الذي يحتاج إلى التفسير: ما طبيعة التحول الذي أدى بسيد قطب الشاعر والناقد الأدبي الرومانسي الذي كان تلميذاً ومريداً وثيق الصلة بالأديب المصري عباس العقاد، متنوراً على طريقة طه حسين، وفدياً من أنصار الوطنية المصرية، ومصلحاً اجتماعياً ذا نزعة يسارية واضحة، وواحداً من رجال الانتليجنسيا القومية شبه العلمانية في ذلك العصر، ليختار الانضمام إلى صفوف الإسلام السياسي ويحمل لواء حركة الإخوان المسلمين التي طالما انتقدها من قبل؟ هل هو الفشل في تحقيق الأحلام الطوباوية لذات الشاعر الرومانتيكية الحالمة؟ أم هي صدمة الحداثة الغربية التي تركت أثرها البين على فكر الكثيرين من رجالات النخبة المصرية آنذاك وقطب واحد منهم؟

عملت أفكار قطب على التمهيد النظري والحركي لميلاد جيل جديد من التنظيمات والجماعات الإسلامية الجهادية
وهل يعود الأثر الذي تركه في فكر وتوجهات جماعة الإخوان المسلمين وتفرعاتها اللاحقة إلى صفات خاصة في شخصية وفكر سيد قطب؟ أم إلى ملابسات المرحلة التاريخية التي عاش فيها سيد قطب والنسق الفكري الأيديولوجي السائد الذي يعلي من دور الفرد في التاريخ؟

 

من هذا السؤال ينطلق الباحث والمؤرخ المصري شريف يونس في كتابه "سيد قطب والأصولية الإسلامية" الصادر عن دار طيبة للدراسات والنشر في مصر في طبعة أولى وعن مكتبة الأسرة في مصر بطبعته الثانية 2012 لدراسة الأصولية الإسلامية من خلال حياة وتحولات أفكار واحد من أهم أعلامها في مجال الفكر الأصولي، ومحاولة تقديم رؤية موضوعية لحياة سيد قطب في مختلف مراحلها، ورؤية جامعة لأفكاره السياسية في إطار الأفكار السياسية التي عاصرها، من خلال تتبع سيرة حياته وتحولاته العاصفة ودراسة تطوره الروحي والفكري وبنية أفكاره الأخيرة التي تركت أثرها الواضح على الفكر السياسي لمختلف الجماعات والتيارات الإسلامية.

 

ما طبيعة التحول الذي أدى بسيد قطب ليختار الانضمام إلى صفوف الإسلام السياسي؟

يستعرض الكتاب على مدار خمسة فصول متداخلة طفولة ونشأة سيد قطب، وخلفيته الاجتماعية والفكرية في أسرة ريفية من صغار الملّاكين الميسورين في قرية موشا القريبة من أسيوط في الصعيد المصري، ودور الأم ذات الشخصية القوية والمنحدرة من عائلة عريقة النسب في تربيته وعلو ذاتيته وطموحه، ثم انتقاله إلى المدينة لاستكمال تعليمه، وترافق ذلك مع تدهور حال الأسرة المادي واضطراره ليكون السند والمعيل لها في مرحلة مبكرة من شبابه، والتي شكلت أول صدمة اختبار لتلك الذاتية المشبعة بأحلام العظمة الرومانتيكية لإثبات ذاتها في مدينة كبيرة بدون السند الاجتماعي الذي كان يعضدها ويغذي تميزها في الريف الصغير. وهو ما "جعله يهرب من كل مظاهر الطفولة واكتساب شخصيته نوعاً من التصلب والتقوقع النفسي".

 

 

ويلجأ الباحث للاستعانة بمنهج الديالكتيك الهيغلي لدراسة تحولات سيد قطب الفكرية وتطوره الروحي، والانطلاق من فرض أولي يقول بالطبيعة النخبوية للإنتليجنسيا المصرية وأفكارها الاجتماعية، ورؤيتها المتمركزة حول الذات للإصلاح الاجتماعي والسياسي والفكري، والتي تستند إلى إدراك صريح أو ضمني لوضعها كفئة اجتماعية متميزة ذات مصالح خاصة، بالإضافة لكونها معبرة عن مصالح طبقات اجتماعية أخرى، وأنّ هذه الإنتلجنسيا قد تعرضت لمفاعيل تهميش اجتماعي ضاغطة دفعت بقطاعات واسعة منها إلى تبني أيديولوجيا نخبوية انعزالية رافضة لقيم المجتمع الحديث في غمار الأزمة المزمنة لمسيرة التحديث في العالم العربي.
فرغم اتصال سيد قطب في مرحلة مبكرة من شبابه بالعقاد وانفتاحه من خلاله على عالم ثقافي جديد وثيق الصلة بالثقافة الأوروبية، سواء بالنسبة لمدارس الأدب أو الثقافة الأوربية عامة، سرعان ما اعتزل أستاذه الذي طالما كال له المديح وخاض لأجله الكثير من المعارك الأدبية، بل وهاجم العقاد نفسه بشكل غير مباشر في كتاباته الصحفية لأنّه لم يحظ منه بالاعتراف الذي يطمح إليه، علماً أنّ العقاد كان قد فتح السبيل أمامه لتأكيد ذاته وانتشال أسرته من ظروفها المادية الصعبة عن طريق العمل في الصحف، إضافة لوظيفته في وزارة المعارف.

وما زاد من التمزق النفسي والشعور بالاغتراب في ذات الشاعر الوافد من ثقافة ريفية أمام ثقافة وعادات وأخلاق النخبة المدينية هو عدم تحقيقه للمكانة التي يصبو إليها ويعتقد أنّه يستحقها سواء في عالم الأدب أو في المركز الوظيفي المتميز الذي كان يطمح إليه ويرى نفسه فيه، رغم كل ما قدمه من إسهامات واقتراحات لمحاولة إصلاح التعليم.

يستعرض الكتاب على مدار خمسة فصول متداخلة طفولة ونشأة سيد قطب وخلفيته الاجتماعية والفكرية وتحوّلاته

ولعلّ الفشل الأكبر في حياة سيد قطب بالتأقلم مع حياة المدينة والتي لفت إليها الكاتب وإن لم تأخذ الكثير من الاهتمام هو فشله في أعمق تجاربه الإنسانية بعلاقته العاطفية الوحيدة مع واحدة من بنات المدينة أكثر تشرباً لقيمها المتحررة نسبياً قياساً بالريف الصعيدي؛ "فازداد تمزقه الداخلي ما بين الميل إلى التأقلم مع مفاهيم الحضارة الحديثة-في إطار محافظ-وبين النزعة الصعيدية التقليدية في رؤيتها للمرأة ومعايير الحكم على أخلاقها".
تلك العلاقة ستترك أثرها البيّن فيما بعد في موقف قطب الأصولي من المرأة ومن القيم الحديثة والحضارة الغربية كلها، وستدفعه نحو عزلة داخلية صوفية، خاصة بعد تجربة سفره إلى الولايات المتحدة موفداً من وزارة المعارف لتطوير مناهج التعليم في بعثة أُثير حولها الكثير من الشكوك والتساؤلات؛ فمهمة "إصلاح التعلم" كانت وما زالت حتى اليوم هدفاً لحركة الإخوان للسيطرة على مناهج التعليم والثقافة في جميع البلدان العربية.

 

وهنا كما يشير الكاتب إلى أنّه "يبدأ تاريخ الداعية الإسلامي سيد قطب الذي حاول أن يجمع حوله الوطنيين (الحزب الوطني الجديد) والاشتراكيين (مصر الفتاة) والإخوان"، وأن يهلل للضباط الأحرار وانقلاب يوليو منتظراً تولي وزارة المعارف التي طالما كانت هدفاً له لتنفيذ برنامجه الإصلاحي الإسلامي، ويتحول بعد تردد إلى الانضمام إلى الإخوان المسلمين بعد أن خذله الضباط الأحرار، فيختار الطريق الأقرب إلى أفكاره ليهاجم السلطة الجديدة، ويتلقى حكماً بالسجن خمسة عشر عاماً في السجن الحربي ونصيباً فائضاً من التعذيب الجسدي الذي دفعه إلى الحقد حتى على الشعوب "التي تحطم من يريدون لها الخير وتصفق للمهرجين"، حسبما وصفها.

ويقدم قطب خياره الوقوف في صف الإخوان كخيار استشهادي، ويصور نفسه مشروع شهيد، ويعمل من خلال تقويمه لتجربة الإخوان على بناء حزب انقلابي إسلامي من صفوةٍ مقاتلةٍ عقائديةٍ (العصبة المؤمنة)، ويتبنى ويطور أفكار المودودي، ويطعّمها بالنزعة الحنبلية-الوهابية المتشددة ليعلن كفر النظام والمجتمع، وشمول الجاهلية العالم كله، ويعلن مهمة بناء الإسلام من جديد التي تقوم على مبدأ الحاكمية والدمج التام بين الإسلام والسياسة، ويحتفي في داخل سجنه بنشر كتابه "معالم في الطريق" الذي سيصبح دليل عمل الحركة الإسلامية الراديكالية، ليستقيل سيد قطب الداعية وينبعث المقاتل، وتصبح العصبة المؤمنة أو الصفوة أو الفئة المختارة هي ذاتها الأمة الإسلامية المنوط بها إقامة النظام الإسلامي، أو دار الإسلام التي من حقها أن تغزو العالم كله. ويخلص من التوحيد بين الإسلام والحاكمية ورصد شمول الجاهلية للعالم كله إلى تعين مهمة الإخوان "بإعادة إنشاء الإسلام في الأرض" والفصل الحاسم بين الإخوان والعالم باعتبارهم "كينونة جديدة" تنشأ منفصلة عن جميع التشكيلات الوطنية أو القومية أو العالمية، وهو ما أطلق عليه سيد قطب "المفاصلة الشعورية".

يقدم قطب خياره الوقوف في صف الإخوان كخيار استشهادي ويصور نفسه مشروع شهيد

وهذه ليست المرة الأولى التي يهاجم فيها سيد قطب الأحزاب والقوى الوطنية والحضارة الغربية، لكنها الأكثر حقداً وعنفاً، إذ سبق له أن اعتزل العمل الحزبي في حزب الوفد وغيره، واتهم النخبة المصرية بالتغرب ومداهنة الاستعمار وخيانة القضايا الوطنية والتآمر على الهوية القومية والإسلامية.
يخلص المؤرخ شريف يونس بعد العرض المسهب والتحليل التفصيلي لأحداث حياة سيد قطب العاصفة وتاريخ الحركة الأصولية وأحداث التاريخ المصري التي عاصرها، وتأثر وأثر بها، إلى القول إنّ اهتمامه بدراسة حياة سيد قطب ينبع من إيمانه بأنّ "للعلوم الإنسانية، خصوصاً في بلادنا، رسالة أيديولوجية تتمثل في تحرير الإنسان من دوغما العقائد المغلقة وإخضاعها للمناقشة الفكرية وأنسنتها، فضلاً عن تحرير الإنسان من أفعال الإيمان غير العقلانية، ومن الاندفاع نحو هاوية التعصب الأعمى النابع من الرغبة في الفناء في مبدأ أو شخص أو اتجاه يفرض نفسه باعتباره اختزالاً كاملاً للحقيقة". وأنّ مواجهة سيد قطب وتحليل أفكاره علمياً لا يقلل من احترام تجربته الشخصية التي أدت به إلى تشييد هذه البنية اللاعقلانية المغلقة ودفع حياته ثمن ذلك، وفهم مجريات تطوره الروحي والفكري باعتبارها ظواهر موضوعية لها أساسها في العصر وتياراته وظروفه الاجتماعية والسياسية، وأنّه لابد من الكشف عن قوة تأثير هذا البنية الفكرية وميزاتها التي مكنتها من منافسة عقل التنوير المجرد الذي فقد إلى حد كبير حدس الواقع.

 

إنّ رفض الخطاب الأصولي الراديكالي لمنطق العقل والقيم والأخلاق الحديثة لا يجد تفسيره في الطبيعة الطوباوية والأخلاقية لمشروع الإسلام السياسي فحسب، بل في استخدام هذه القيم ومنطلقات العقل المجرد في تبرير وضع الدولة القومية واستبداد سلطاتها السياسية، وفشل سياساتها التنموية التي أدت إلى تهميش قطاعات واسعة من السكان ومن الانتليجنسيا خصوصاً، وسدت الأفق أمام الحراك الاجتماعي للطبقة الوسطى ذات الأصول الريفية؛ فهذه الفئة الاجتماعية التي مثلت الحامل الاجتماعي لأفكار الأصولية الإسلامية الراديكالية اللاعقلانية "تعبر عن لاعقلانية وضعها الاجتماعي في إطار مفاعيل التهميش الجارية، وعن "لاعقلانية" عقل التنوير المجرد وفشله في إدراك أزمتها".

مواضيع ذات صلة:

سيد قطب وفلسطين ... محاولة للفهم

سيد قطب وقصته مع يوسف شحاتة



انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات

آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية