هل نتجه نحو أزمة في الصحة العقلية والنفسية لدى الرجال؟

هل نتجه نحو أزمة في الصحة العقلية والنفسية لدى الرجال؟

هل نتجه نحو أزمة في الصحة العقلية والنفسية لدى الرجال؟


29/09/2022

جو إيسون

في منتصف 2020، وفي غمرة تفشي جائحة "كورونا"، قرر لير جورج، الشقيق الأصغر لنجم برنامج تلفزيون الواقع البريطاني "لوف آيلاند"Love Island  (جزيرة الحب) الشهير الدكتور أليكس جورج – أن يضع نهاية لحياته وهو لا يزال في عمر 19 ربيعاً. كان وقع الصدمة قاسياً على عائلة لير، وما زاد وطأتها على صدورهم، شأنهم شأن عدد لا يحصى من الناس، أن المتوفى لم يكن قد أبدى أياً من علامات التحذير. وجل ما فعلته تلك التساؤلات المعلقة أنها فاقمت الحزن الذي اعتصر القلوب. يقول شقيقه اليوم، "للأسف، لا يزال الرجال أكثر عرضة للانتحار من النساء"- ثلاثة أرباع حالات الانتحار المسجلة في المملكة المتحدة في 2020 ضحيتها رجال. "والأمر الفظيع [أن كثراً] لا يبوحون لك بألمهم، فلا تعرف أنهم يعانون. نعلم أن الرجال يلجأون عموماً إلى أشكال عنيفة من الانتحار، في حين تظهر لدى النساء سلوكيات مختلفة تنطوي على طلب المساعدة، وتراهن يقصدن غالباً قسم الحوادث والطوارئ أو يكشفن عن مكنوناتهن لصديقاتهن وأصدقائهن"، يضيف جورج.

منذ وفاة شقيقه في تموز (يوليو) 2020، استخدم الرجل المعروف باسم دكتور أليكس منصته حرصاً منه على ألا يعاني أشخاص آخرين في صمت. النجم الذي عُين سفير "داونينغ ستريت" للصحة العقلية والنفسية لدى الشباب العام الماضي، يدرك تماماً طبيعة المهمة الملقاة على عاتقه. "بصورة أساسية، في متناولنا نموذج قائم على العلاج في هذا البلد حيث ينتظر أن يتعامل المعنيون في خدمات الصحة العقلية والنفسية مع معاناة الجميع. في الواقع، إنها مصممة لنحو ثلاثة في المئة فقط من جميع الأشخاص الذين يقصدونهم - فقدان الشهية العصابي (أنوريكسيا)، والاضطراب ثنائي القطب، أو أمراض ذهانية أخرى. غير أن كثيراً من القلق والاكتئاب، حتى المشكلات المتصلة بصورة الجسد في مرحلة باكرة - يمكن مواجهتها في المجتمع".

بناء عليه، توجه جورج بدعوة إلى ليز تراس، يحثها فيها على تمويل 190 مركزاً للمساعدة الباكرة. صُممت المراكز كي تستقبل الزوار دونما مواعيد مسبقة وفترات انتظار- وتستهدف الأشخاص حتى سن 25 عاماً - يتعين عليها، كما يقول المنطق، القضاء على القلق الباكر قبل أن يستحيل أزمة أكثر سوءاً بأشواط. مثال على ذلك: "أحد أكبر الأخطاء التي ارتكبناها عند التطرق إلى صورة الجسد أننا نتحدث في الغالب عن النساء"، يقول نجم تلفزيون الواقع. ويضيف "لكن مئات الآلاف من الشباب في مختلف أنحاء البلاد يتناولون المنشطات البنائية بغرض تغيير شكلهم الخارجي. عندما كان عمري 15 عاماً، لم أكن لأرى رجالاً يتمتعون بأجسام مثالية كل يوم إلا إذا كنت أشتري مجلة ’مينز هيلث‘ Men’s Health  (صحة الرجال). الآن، تفتح ’إنستغرام‘ فتراه يفيض بهؤلاء. والرجال متأثرون به".

الطبيب الذي كان شارك في أحد مواسم برنامج الواقع "لوف آيلاند" يعود بالذاكرة لمعاركه مع صورة الجسد، بما في ذلك فترة قصيرة قبل دخول فيلا "لوف آيلاند". ويسرد "قبل العرض، واجهت عبئاً هائلاً كي أصل إلى مظهر معين؛ كنت أمارس التمارين الرياضية طوال ساعتين في اليوم، وأتضور جوعاً، ولا ألتقي بأي من أصدقائي. حتى أني حرمت نفسي من تناول القهوة كي لا أستهلك أي سعرات حرارية موجودة في الحليب. وعلى رغم أنّ شكلي بحسب الصورة النمطية لربما اعتبر مظهراً جيداً، فقد اعتراني رعب مريع".

بالطبع، ليس فقط الشباب هم الذين تعرضوا للخذلان من قبل المجتمع حاضراً. في 2021، وُجِد أن معدل الانتحار أعلى في إنجلترا وويلزا في صفوف الرجال الذين تتراوح أعمارهم بين 50 و54 عاماً. كريس هال، مؤسس منظمة غير ربحية تعالج مشكلات الصحة العقلية والنفسية في قطاع الضيافة عموماً تسمى "ذا بيرنت شيف بروجيكت" The Burnt Chef Project، يشير أيضاً إلى أن القطاعات التي يهيمن عليها الذكور تذكي عادة الشعور بالتوتر والقلق. ويشرح رأيه قائلاً "ضمن قطاع الضيافة، وطبعاً داخل الساحة الذكورية، تجد نفسك تحت ضغط كبير وعليك التأكد من أنك لست الحلقة الضعيفة. لا تريد أن تكون الشخص المسؤول عن غرق السفينة، لا سيما عندما يواجه الجميع مستويات عالية من التوتر".

عند الحديث عن المطابخ المتخصصة، مثلاً، يعمد الشاب البالغ من العمر 35 عاماً إلى تذكير الطهاة دائماً بأن الشعور بالضعف لا ينتقص من رجولتهم. "تعد القدرة على تحديد أنك إنسان تجتاحه العواطف والمشاعر والأمراض أداة قوية لتكون قادراً على استخدامها في بيئة يهيمن عليها الذكور بنسبة 70 في المئة. لا يزال بإمكانك أن تتماسك وتتولى القيادة بشجاعة".

طوال العقد الماضي، قدم برنامج هال المساندة والتدريبات اللازمة لآلاف الأفراد عبر مئات البلاد. إحداها "دليل الضغط النفسي في مكان العمل" الأخير، الذي استطلع عبره آراء 673 شخصاً يعملون في قطاع الضيافة (سدسهم تقريباً من الرجال)، ادعى 69.44 في المئة من العمال الرجال أن ضغوط الوقت غير المعقولة قد أضرت في عافيتهم ورفاههم. في النهاية، كما يقول هال، لن نكون قادرين على خلق مساحات آمنة للرجال لالتماس المواساة والبوح بما يختلج نفوسهم إلا إذا صببنا تركيزنا على الثقافة على مستوى الشركة، وليس على القليل من البيض الفاسد فقط.

يشرح هال رأيه قائلاً إن "الجميع ينظرون إلى الصورة النمطية للطهاة الذكور الغاضبين في العالم على أنها شخصية عدوانية ومسيطرة جداً". لكني أرى أشخاصاً استسلموا لمستويات عالية من التوتر على مدى فترة من الزمن، وقد تأثرت بشدة قدرتهم على التأقلم بطريقة ذكية عاطفياً. ما لم تزود الأشخاص بالأدوات والدعم الذي يحتاجون إليه بغية فهم هذا السلوك وإيقافه وتبديله، فلن يتغيروا".

وفق التقديرات، ينتظر أكثر من 1.5 مليون شخص حالياً موعدهم مع اختصاصي في الصحة العقلية والنفسية لدى "هيئة الخدمات الصحية الوطنية" في بريطانيا. ولكن لم يشكل هذا الرقم مفاجأة كبيرة بالنسبة إلى هال، الذي اختار طلب المساعدة الخاصة بعدما بلغ هو نفسه مرحلة التأزم في العشرينيات من عمره ووجد نفسه في نهاية قائمة انتظار المكالمات. بعد عقد من الزمن وانتشار جائحة عالمية لاحقاً، حذر من أنه - بمؤازرة واحدة من أسوأ الأزمات المعيشية في التاريخ الحديث - ليس مستبعداً أننا نسير من غير إدراك نحو الحضيض الجديد للصحة العقلية والنفسية لدى الرجال. يقول في هذا الصدد: "في مرحلة ما بعد ’كوفيد‘، نرى فعلاً ملايين الأشخاص على قوائم انتظار مدتها ثلاثة إلى ستة أشهر على أقل تقدير من أجل زيارة الأطباء النفسيين. في الوقت نفسه، نجد أن ثمة متخصصين في القطاع الخاص يزيدون كلفهم بسبب توازن العرض والطلب."

شأن جورج، يعتقد هال أنه من الظلم إلقاء الملامة على "هيئة الخدمات الصحية الوطنية". الأزمة ببساطة كبير جداً عليها. يذكر أنه "مع تزايد الوعي بالصحة العقلية والنفسية، يطلب الناس المساعدة في وقت أقرب، ولكن ليس في جعبتنا الآليات اللازمة للتعامل معها. لهذا السبب أشعر بشغف شديد تجاه إنشاء خدمات مجانية تقدم المساعدة في كبح هذه المشكلة".

كونور أوكيف، يسهم أيضاً في تسليط الضوء على هذه المواضيع. إنه عداء ماراثونات طويلة يتحدر من كورك في إيرلندا، شارك أخيراً في ما يعادل 32 ماراثوناً في 32 يوماً عبر 32 مقاطعة إيرلندية. حتى أن رياضي التحمل بدأ التحدي بحمل 32 رطلاً (14.5 كيلوغراماً) على ظهره في إشارة إلى الحمل الذي تلقيه الأفكار السلبية علينا. لقد تخلص من رطل واحد يومياً للمساعدة في جمع أكثر من 60 ألف جنيه استرليني لمصلحة "بيتا هاوس" Pieta House، علماً أنها واحدة فقط ضمن باقة المؤسسات الخيرية التي تتحمل حالياً بعض العبء عن خدمات الصحة العقلية والنفسية المتعثرة في إيرلندا.

على طول الطريق، انضم إلى أوكيف (30 عاماً)، عدد من متابعيه على وسائل التواصل الاجتماعي والمستمعين إلى مدونته الصوتيّة (بودكاست). علق في ذهنه لقاء مع شاب في مقاطعة كلير. يتذكر أوكيف: "كانت دردشة سطحية حول شؤون الكلية، والرياضة، والخطط المستقبلية. ما إن عدونا معاً لفترة قصيرة، حتى استقل سيارته سريعاً وانطلق بها". لم تمر سوى دقائق قبل أن يركن المراهق سيارته أمام أوكيف ويقفز من سيارته وقد بدا سلوكه مختلفاً. "رأيت الدموع في عينيه وقد أحاطني بذراعيه معناقاً، وأخبرني أن البودكاست الذي أقدمه ساعده كثيراً. فعلياً، هو الرجل النموذجي الذي ستقرأ عنه في الصحف أنه أنهى حياته بنفسه - منفتح، يتمتع باللياقة الجسدية والصحة السليمة، ووسيم، رجل حقيقي لا يمكنك أن تتخيل أن أي هموم في هذا العالم تقض مضجعه. لا ريب أنه شعر أن أحداً لا يفهمه"، وفق كلمات العداء.

واضح أن أوكيف استوعب ذلك الشاب. لكن كيف عسانا نخوض مزيداً من تلك المحادثات؟ يقول الرياضي: "وجدت أن الرجال يستجيبون بشكل خاص لعبارة "من دون كذب". "يريدون الصدق. لا يحتاجون إلى حملة ترعاها شركات التحقت بهذا القطار فقط لأنه مجال مثير للتربح. نحن بحاجة إلى رجال حقيقيين عانوا فعلاً، يتحدثون عن تجارب حقيقية بكل صراحة دونما غموض أو زخرفة. بدلاً من قول "شعرت بالسوء حقاً"، يجب أن نتوخى الصدق، "نعم، شعرت بأني أريد أن أرمي نفسي من فوق الجسر فلا أستيقظ مجدداً".

يستند كلام أوكيف إلى تجربة مرّ بها. قبل أن يجد هدفه في الركض، كان يقود سيارته في أنحاء بلدته وقد فقد الإحساس بما حوله، كان يشعر "بخمول، وفتور، واكتئاب، وكسل" إلى حد أنه أراد أن يضرب سيارته بعرض الحائط. "أشعر بامتنان شديد لأن شيئاً ما في داخلي جعلني أستمر".

في رأي أوكيف، ثمة سبب آخر لارتفاع نسبة الانتحار في صفوف الرجال ولكنه قلما يحضر في سياق النقاشات ألا هو الضبابية التي تكتنف العالم الحديث. يقول في هذا الشأن: "لقد تغيرت فكرة ماهية الرجل على مدى السنوات الماضية. كان أجدادنا يعرفون مكانهم داخل وحدة الأسرة، من ثم داخل المجتمع نفسه. الآن، انتفت أحجية الصورة المقطعة تلك [التي] يسعنا أن نجد لنا مكاناً فيها بسهولة. كان على المشهد أن يتغير من دون شك - تضع النساء وظائفهن في المرتبة الأولى وأنجاب الأطفال لاحقاً - لكننا لا نزال نستكشف الأمور. بالنسبة إلى الرجال، تتكسر ثقتهم في أنفسهم واحترامم لذاتهم بأثر من الحياة العصرية. نعيش صراعاً مع هذه الصورة. كجنس، نحن أيضاً مشروطون من الطفولة بالتصرف "كرجال والاستمرار في ذلك" - لذا كلما بدأنا باكراً في التحدث إلى الأطفال حول عواطفهم، كان ذلك أفضل. من الصعب الدخول عميقاً إلى مشاعر طفل يبلغ من العمر خمس سنوات، ولكن هذا ليس مستحيلاً. يبدأ الأمر من هذه المرحلة".

إنه أيضاً أحد الأسباب التي حملت جورج على نشر كتاب للأطفال حول الصحة العقلية والنفسية - بعنوان "يوم أفضل: كتيب الصحة العقلية الإيجابية" يستهدف الكتاب القراء الذين تتراوح أعمارهم بين تسع سنوات فما فوق. "تخيل ملعب ويمبلي [يسع لـ 90 ألف شخص] مليئاً بالأطفال وأضرب ذلك بستة أضعاف"، كما يقول. "إنه تقريباً عدد الأطفال الذين ينتظرون حالياً موعداً لدى خدمات الصحة العقلية والنفسية في المملكة المتحدة. المشكلة تتفاقم وتزداد سوءاً. سبق أن وردتني رسائل كثيرة لا تصدّق من أمهات وآباء وأطفال. الغرض من تأليف الكتاب المساعدة في لجم حوادث (انتحار) على شاكلة ما مر به أخي. أريد أن يعيش الناس ويزدهروا بدلاً من مجرد البقاء على قيد الحياة. لا بد من أن يتغير هذا الواقع".

عن "اندبندنت عربية"



انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات

آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية