من المعلوم أن الجماعات الإسلامية تقاتل من أجل ما تدعي أنّه "مشروعٌ كبيرٌ وجبارٌ وخطيرٌ، مشروعٌ يلخّص كلّ آمال المسلمين وأحلامهم وتطلعاتهم"، وهو حلم إقامة "الخلافة على منهاج النبوة".
هذه المقالة تنطلق من فرضية رئيسة، هي: أنّ هذه "الخلافة الإسلامية" التي تُسترخص فيها الأرواح، لن تقوم لها قائمة، وأنّ المسلمين اليوم، يغامرون بأنفسهم من أجل وهمٍ كبير"ٍ.
كما تدافع هذه المقالة عن أطروحة موضوعها، وهي أنّ الخلافة لم تكن تاريخاً، ولن تكون الآن، ولا في المستقبل القريب والبعيد، وأنّه آن الأوان بالنسبة إلى المسلمين أن يُقلعوا عن مخاطبة الناس بهذا الوهم، وأن ينصرفوا إلى التفكير فيما هو أكثر واقعية وأكثر إجرائية.
تنطلق الجماعات الإسلامية، في التعبئة لإنجاح هذا المشروع السياسي، والمثال الطوباوي، من نصّ حديثي - ماخوذ عن الأحاديث النبوية- يتّخذه الدعاة لإحياء الخلافة الإسلامية، كأقوى دليل يعتمدون عليه في إثبات أن الخلافة الإسلامية آتية، وأنها مسألة وقت فقط، وأن هذا الأمر، إذا لم يكن على أيديهم اليوم، فإنّه سيكون على أيدي الأجيال القادمة، ومن الأفضل أن يُسارعوا إلى العمل من أجله، لعلّ الله يمنّ عليهم بشرف تحقيقه، وإقامته.
وجاءت الرواية النبوية: "قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إنّ أول دينكم نبوّة ورحمة، تكون فيكم ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها الله -جل جلاله- ثم يكون ملكاً عاضاً، فيكون فيكم ما شاء الله أن يكون، ثم يرفعه الله -جل جلاله، ثم تكون خلافة على منهاج النبوة، تعمل في الناس بسنّة النبي، ويلقي الإسلام بجرانه في الأرض، يرضى عنها ساكن السماء، وساكن الأرض، لا تدع السماء من قطر إلّا صبته مدراراً، ولا تدع الأرض من نباتها وبركاتها شيئاً إلا أخرجته" (الرواية هنا نقلاً عن الشيخ عبد الله عزام، من كتابه "الإسلام ومستقبل البشرية).
الخلافة لم تكن تاريخاً، ولن تكون الآن، ولا في المستقبل القريب والبعيد
وهناك رواية أخرى، تجعل "الخلافة على منهاج النبوة"، ثلاثين عاماً، عدها الفقهاء فوجدوها تنتهي بخلافة الحسن بن علي؛ بحسب ما ذهب إليه الشيخ عبد السلام ياسين، في كتابه "نظرات في الفقه والتاريخ".
مثل هذه الأحاديث، تلهب حماسة الشباب، وتجعل من يؤمن بها يستسهل الصعب، ويقتحم كلّ العقبات؛ لأنّه يفعل ذلك، وهو موقن بأنّ ما يُناضل من أجله على وشك أن يتحقق، وأنّه يجاهد في سبيل أن يتحقق وعد الرسول وخبره؛ لذلك كان كثير من العاملين في المجال الإسلامي الحركي، ينهلون من هذه الكتب في إطار التعبئة الإيديولوجية؛ وقل ما نجد منظّراً من المنظّرين للإسلام السياسي، لا يتناول هذه المرويات، في سياق التحريض، والتبشير بهذا المشروع الخلاصي.
المفكر العربي محمد عابد الجابري، كان محقاً عندما عدّ في كتابه "الدين والدولة وتطبيق الشريعة" أنّ "الأحاديث التي من هذا النوع، أحاديث مشكوك فيها، والغالب أنّها موضوعة، وفيها تعزيز مباشر لعملية انقلاب الخلافة إلى مُلك عضوض "ثابت ومتعسف دون الأخذ بالشورى"، بوصفها عملية تنبأ بها الرسول، أي إنها في المعنى السياسي؛ تقرير مبدأ "ليس في الإمكان أبدع مما كان" وتكريسه"(ص 33).
هذا رأي مهم جداً للراحل الجابري؛ لأنه جريءٌ ويُلائم مقام حديثنا، فنحن لا يعنينا أن تكون هذه الروايات صحيحة السند، ورواتها عدول ثقات، لكن نعتقد أنّ متنها يفتقر المصداقية التاريخية، ولا يتطابق مع الواقع التاريخي للخلفاء اللاحقين، ونميل إلى أنّ النبي الكريم، لم تصدر عنه هكذا روايات وأقوال، فالأجدر بنا أن نُكذّب رواة هذه الأحاديث، الذين ينسبونها إلى النبي عليه السلام، من أن نُكذّب الرسول نفسه.
إنّ أولى الأسئلة المشروعة، التي تطرح نفسها بإلحاح، يدور حول هذا المنهاج: منهاج النبوة الذي نحدّد بموجبه إن كانت الخلافة تمضي عليه أم لا؟ فهل هناك شيء اسمه "منهاج النبوة"، نقيس عليه حكم الخلفاء الأربعة الذين حكموا بعده، حتى نعرف إلى أيّ حدٍّ كان منهج هؤلاء الخلفاء مطابقاً ومتماهياً معه؟
إنّ افتراض وجود منهجٍ نبويّ، معناه أنّ الحكم سيكون نموذجاً واحداً، وكأنّه منسوخٌ كربوني، وهذا ما لم يكن، وليس له في التاريخ ما يدعمه
إنّ افتراض وجود منهجٍ نبويّ، معناه أنّ حكم هؤلاء سيكون نموذجاً واحداً، وكأنّه منسوخٌ كربوني، وهذا ما لم يكن، وليس له في التاريخ ما يدعمه ويسنده.
لنتوقّف عند الأفق "الدستوريّ" (بلغة العصر): هل تولَّى أبو بكر الخلافة على طريقة نبوية، أم إنّ خلافته كانت بطريقة: أنتم أعلم بشؤون دنياكم؟ وهل استُخلف عمر بن الخطاب بنفس أسلوب أبي بكر؟ وكيف تولّى عثمان وعلي الخلافة؟
معلوم أنّ كلّ واحدٍ من هؤلاء اعتلى سدة الحكم على رأس الجماعة بطريقةٍ مغايرةٍ للآخر، ومعلومٌ أيضاً أنّ طريقة إدارة كلّ واحدٍ منهما لشؤون الدولة، في حينه، كانت مغايرةً للآخر؛ بل كانت مُغايرةً، حتى لسنّة النبي وسيرته في السياسة.
فقد نقل الشيخ عبد القادر بن عبد العزيز، في وثيقة "ترشيد العمل الجهادي"، عن ابن قيم الجوزية في "الإعلام"، قوله: "إنّ أبا بكر لا تُعرف له مخالفة للسنة، أما مخالفات عمر بن الخطاب فقليلة، ومخالفات علي بن أبي طالب أكثر".
لقد خالف عمر بن الخطاب القرآن أيضاً، لا سنة النبي فقط، ويشهد بذلك، أنّه امتنع عن تقسيم أرض سواد العراق، وفق التقسيم الذي نصّ عليه القرآن الكريم، القاضي بتقسيم الغنائم على الفاتحين، ولم يُفرّق بين الغنائم المنقولة وغير المنقولة، وخالف القرآن الكريم في "إسقاطه نصيب المؤلَّفة قلوبهم من الزكاة"، وكان القرآن قد جعلهم من مستحقّيها، كما منع عمر الزواج بالكتابيات، مع أنّ القرآن أجاز ذلك صراحةً.
إنّ تصرفات عمر، في تقديرنا، موافقة تماماً لروح الشرع، فقد كان معه أصحاب الرسول، من الذين لم يعترضوا عليه؛ بل إنّ عمر كان يوصف بأنّه تطبيق ميداني لقيمة العدل، وقد جاهد نفسه حتى أعياها، وأتعب من جاء بعده، حتى إنّ الناس كانوا يقوّمون خلفاءهم بسيرته ونموذجه؛ بل إنّ عدداً من خصومه، من التيار الشيعي مثلاً، يعترفون له بقوّته في الحق، وبكونه كان شديداً وصارماً في فرض هيبته.
"إنّ أبا بكر لا تُعرف له مخالفة للسنة، أما مخالفات عمر بن الخطاب فقليلة، ومخالفات علي بن أبي طالب أكثر"
نرى أنّ خلافة أبي بكر وعمر، فوق التشكيك فيهما، وقد قال المؤرخ التونسي الشهير، هشام جعيط، في كتابه "الفتنة": "لم تظهر، خلال ثلاث عشرة سنة من خلافة أبي بكر وعمر، أية عرقلة، وأية شكوى؛ بل وحدة بلا صدع، وسلطة بلا فلول"(ص 72).
لكن، في المقابل، نسجّل هنا أن مخالفة النبي الكريم، ابتدأت منذ خلافة عمر، وسكت عنها الجميع، لأنّ عمر لم يكن يُحابي أحداً، فحطم بذلك الأرستقراطية القرشية.
لننتقل إلى خلافة عثمان بن عفان؛ الذي لا يشكّ أحد في صُحبته للنبي الكريم، وفضله، والتضحيات التي بذلها في سبيل نشر الإسلام، لنرى إلى أيّ حدٍّ كانت فترته مطابقة للمنهج النبوي؟ وإلى أي حدٍّ كانت تمثّل ذلك المنهج؟
نقرأ لهشام جعيط، في كتابه السالف ذكره: "تبسّط الأمور كثيراً، عندما يقال إنّ خلافة عثمان تنقسم إلى ست سنوات سعيدة وهادئة، وست سنوات من الاستياء والبلبلة، فالفكرة القائلة إنّ عثمان قد قطع مع سننّ سابقيه، وكان يناقض روح الإسلام، تكوّنت في وقت مبكِّر"(ص65).
أما الآيات على ذلك فكثيرة؛ بحيث يتعذّر إنكارها، والتشكيك فيها، منها: إنّ عثمان، بعد عامٍ من توليه الخلافة، قام بتعيين شقيقه من أمّه، الوليد بن عقبة، عاملاً على الكوفة، بدلاً من سعد بن أبي وقاص، والوليد هذا من الطلقاء، وهو الفاسق، كما وصفه القرآن، وكان هذا سنة 24 هـ.
وفي سنة 27 هـ؛ أعطى عثمان لمروان بن الحكم نسبة من الغنائم، كان مصيرها الأصلي أن تذهب إلى بيت مال المسلمين، كما ألغى قراراً كان النبي أصدره بحقّ ابن الحكم وأولاده، قضى فيه بنفيه إلى الطائف، واتّهمه الصحابة والمسلمون بأنه اغترف من مال المسلمين، حتى اغتنى هو وأهله والأقرباء من بني أمية، وأحرق المصاحف كلّها إلّا مصحفه، وفرضه على الأمصار، واتُّهم بالقطع مع سنة النبي، والخليفتين السابقين، أبي بكر وعمر.
ليس هذا وحسب؛ بل انتقم من مخالفيه، والمعترضين عليه، كما أنّه عذّب بعضاً من أهم أصحاب رسول الله، منهم عبد الله بن مسعود؛ حيث استدعاه الخليفة عثمان إلى المدينة، وأنزل به عقاباً شديداً، وعذّبه عذاباً جسدياً قاسياً، كما ألقى القبض على عمار بن ياسر، وانتقم منه، واشتدّ عليه، ونكّل به، وبلغ من ذلك أن أخرجت عائشة شعر النبي، ورفعته على الملأ، وأعلنت أنّ سنّة النبي قد تُركت بعده، ونفي أبو ذر، وهو رجل الإٍسلام بحق، إلى الربذة حتى توفَّى هناك. (أنظر: كتاب "الفتنة" سالف الذكر).
مخالفة النبي الكريم، ابتدأت منذ خلافة عمر، وسكت عنها الجميع، لأنّ عمر لم يكن يُحابي أحداً، فحطم بذلك الأرستقراطية القرشية
فهل هذا الذي فعله عثمان ورجال دولته منهجٌ نبويٌّ؟ وهل تعذيبه لعمار وابن مسعود وتصرّفه في بيت مال المسلمين من منهجِ النبوة؟
نحن هنا، لا ندين عثمان، لأنّنا غير معنيين بذلك، لكننا نورد هذه الوقائع للتأكيد على أنّ خلافة الرجال الأربعة ليست على منهج النبوة، وأنّ كلّ واحدٍ منهم، كان له منهج خاصّ به، يُعبّر به عن شخصه ونظرته للأمور السياسية، ونعتقد أنّ حقبة عثمان كانت انعكاساً دقيقاً للتحولات العميقة التي باتت عليها الأمة حينها.
لقد كان عمر بن الخطاب يمنع أهل بيته، ويشدد عليهم قربى لله، أمّا عثمان فكان يفعل عكس ذلك؛ إذ يعطي أقاربه، ويصلهم من بيت مال المسلمين، قربى لله أيضاً.
كان عمر يعالج قريشاً من كبريائها، فيستعمل من أعزّه الإسلام، ويهمل من لم يرفعه الإسلام، قربى لله. فجاء عثمان وانقلب على ما كان عليه عمر، تقرّباً لله، ورغبةً فيما عنده كذلك.
نأتي أيضاً إلى حالة علي بن أبي طالب، فقد بايعه جمعٌ من الناس، لكنّ بيعته ظلت منقوصة؛ لأنّ أهمّ الصحابة، ممن كانوا لايزالون أحياءً، امتنعوا عن بيعته، أو انقلبوا عليه، وردّوا عليه بيعته، لكنّه ظلّ إماماً ثورياً، وقائداً للثوار الذين خرجوا على عثمان، ومكث طيلة حياته بعد مبايعته خليفة من قبل الثوار، مقاتلاً من أجل ما عدّه تأويلاً للإسلام؛ إذ غالباً ما كان يقول إنّه إنّما يقاتل بني أمية على التأويل، كما قاتلهم قبل ذلك على التنزيل.
وقد كان عمار بن ياسر ينفي عنهم الإسلام، وينسبهم إلى الكفر. ويقول إنّهم إنّما دخلوا الإسلام مكرهين، وإنّهم انتظروا حتى سنحت لهم الفرصة، ورأوا أن لهم القدرة على التحكم في رقاب العباد، فعادوا إلى ما كانوا عليه في سابق عهدهم.
ويقول علي الوردي، في كتابه "وعّاظ السلاطين": إنّ "التاريخ الإسلامي، لم يشهد رجلاً فرّق الجماعة كعلي بن أبي طالب"، وقال أيضاً: "لا يخفى أنّ أول حرب داخلية نشبت بين المسلمين كانت في عهد علي".
إنّ عودةً عابرةً إلى كتب التاريخ، تكشف أنّ الخلافة على منهاج النبوة، لم يكن لها أيّ وجودٍ، ولم يكن لها ما يؤكّدها
ولم يتفرّغ علي بن أبي طالب لعمل الخلافة؛ حيث بقي مقاتلاً شرساً، توفّى وهو يعدّ لإعادة بناء جيش كبير لسحق مقاتلي الشام، كما لم يعرف علي، أثناء خلافته، غير الفتنة والتشظي في الجسم الإسلامي، حتى إنّ الجاحظ لاحظ أنّ الفتوحات توقّفت في عهد علي، وأنّه مدشن الفتنة؛ بل، وكما لاحظ عدة باحثين، فإن فتوحات مضادة مرتدة نحو القلب الإسلامي، دشّنت في عهد علي.
إنّ عودةً عابرةً إلى كتب التاريخ، تكشف أنّ الخلافة على منهاج النبوة، لم يكن لها أيّ وجودٍ، ولم يكن لها ما يؤكّدها، لقد كانت أقرب إلى المثال منها إلى الواقع، وقد لاحظ، عددٌ من الباحثين هذا التناقض الواضح، بين مثالية الخلافة على منهاج النبوة، وتخلّف الواقع السياسي والاجتماعي، الذي كان عليه واقع تلك الخلافة المزعومة.
ولم يكن للخلافة من الناحية الواقعية، أي حظّ، كما أنّ القفز على التاريخ، أو القراءة في النصوص، هو بابٌ من أبواب التجاهل أو غياب الموضوعية، ونقرأ في هذا الصدد، لعبد الله العروي، في كتابه "مفهوم الدولة": "إنّ الخلافة نظامٌ منافٍ تماماً للملك الطبيعي؛ حيث إنّ وازع كلّ واحدٍ فيهم هو الدين"، لأنّ مقتضاها أن "تكون الدولة في خدمة الشريعة، وأن تقصد المكارم، وهذا معناه أنّها مسألة متعذّرة الحدوث في التاريخ، إلّا إذا تغيرت الطبيعة البشرية".
إن النظرية الخلدونية، وفق العروي، "تحصر الخلافة في عهد النبي، وتجعل خلافة الراشدين خلافة ظاهرية؛ لأنّها كانت قائمة على العصبية، لا على الدين"، مضيفاً أنّه "يمكن أن نفهم أنّ الخلافة دامت إلى أواسط حكم عثمان".
ويستخلص العروي من قراءاته للتاريخ الإسلامي أنّ "الحكم الذي جربه المسلمون في الغالب، هو الملك الطبيعي الممزوج بشيء من السياسة العقلية"، مضيفاً أيضاً أن: ّ "الواقع القائم هو باستمرار الملك الطبيعي القائم على القهر"، وواضح أنّ هذا الدرس يجد سنده في النصوص الحديثية "نصوص الأحاديث"، التي يعوِّل عليها الدعاة والمبشرون.