في عاصمة الضباب، لندن، وتحديداً في قاعة ألبرت، أمام آلاف المتفرجين، في أعقاب هزيمة 5 حزيران (يونيو) 1967، شدا عبد الحليم حافظ بأغنية لم تحظَ بعد ذلك بالشهرة الكافية، وربما لم يسمع كثير من محبي "العندليب الأسمر" عنها شيئاً بعد ذلك؛ إنها أغنية "المسيح"، التي كتب الشاعر المصري عبد الرحمن الأبنودي كلماتها التي تقول: "على أرضها نزف المسيح ألمه... مسيح ورا مسيح ورا مسيح.. على أرضها.. تاج الشوك فوق جبينه وفوق كتفه الصليب.. دلوقتي يا قدس ابنك زي المسيح غريب غريب.. تاج الشوك فوق جبينه وفوق كتفه الصليب.. خانوه.. خانوه نفس اليهود... ابنك يا قدس زي المسيح لازم يعود.. على أرضها".
رغم أنّ الانتباه انصبّ آنذاك ممن تعرض للأغنية من المستمعين الغربيين، على ما عدّوه "لاسامية" الأغنية التي تظهر، في رأيهم، في عبارة "خانوه نفس اليهود"، لكن شيئاً آخر شديد الأهمية لم يلفت الانتباه، وهو محاولة الأغنية استعادة مفهوم المسيح، بكل ما يحمله من دلالات تاريخية، من السياق الغربي الاستعماري، ليتحول عبر كلمات الأغنية إلى شاب صالح تعرّض للقمع عبر سلطة وحشية خارجية، تماماً، بحسب الأغنية، مثل؛ الشاب الفلسطيني الذي يسير اليوم في شوارع فلسطين.
لم ترد أوصاف شكلية للمسيح في العهد الجديد ومن المرجح أنّه كان أسمر البشرة بحسب باحثين
على الجانب السياسي، كانت هذه ضمن محاولات تكرّرت كثيراً بعد ذلك للسعي لاستدعاء صورة مختلفة للمسيح، لكن على صعيد الملامح الشكلية، تروي قصة أخرى شديدة العمق، قد تشكّل صدمة للكثيرين؛ وهي أنّ المسيح، الذي لا توجد أوصاف شكلية له في العهد الجديد، كان بحسب العديد من الباحثين، على الأرجح، أسمر البشرة ومجعّد الشعر وقصير القامة، ولا يوجد وجه شبه بينه وبين تلك الصورة الرائجة للرجل الأبيض ذي العينين الزرقاوين والشعر الحريري والوجه الملائكي!
في البداية، أشار العديد من المؤرخين إلى أنّ الإنجيل قد تم استخدامه على نطاق واسع لتبرير الاستعباد؛ استعباد الأفارقة وذوي البشرة السوداء تحديداً، استناداً إلى ما يُنسب إلى النبي نوح، عليه السلام من لعنه لحفيده كنعان بجريرة ابنه حام "الذي أبصر عورة أبيه" وفق ما ورد في سفر التكوين: "ملعون كنعان عبد العبيد يكون لإخوته"، والتي استخدمت فيما بعد لترسيخ مبدأين أساسيين؛ الأول أنّ العبودية تورث للأبناء، وأنّها نتيجة حتمية لذنوب قد قام بها الإنسان الذي تم استعباده.
اقرأ أيضاً: التسامح السلطوي والتسامح التعددي
لكن، بعيداً عن الإنجيل، أشار العديد من المفكرين بعد ذلك، إلى أنّ سيادة الأيقونات التي تظهر المسيح بوصفه رجلاً أبيض وبتلك الملامح الأوروبية، ساهمت بشكل كبير في خلق صورة نمطية واحدة للجمال، لا يدخل فيها أصحاب البشرة السوداء، بالأخص لأنّ ثمة مفهوماً أساسياً في الديانات السماوية يقول إنّ الله قد خلق الإنسان على صورته، ومن ثم؛ إن كان الله "المسيح"، وفق التصور المسيحي، أبيض البشرة وذا عينين زرقاوين، فإن هذا يمهد في طياته إلى اعتبار الإنسان الذي يمتلك الملامح نفسها، هو أقرب ما يكون إلى صورة الله، أما هذا الرجل الأسود، ذو الشعر المجعد، فمرتبته أقل في عالم البشر.
أشار العديد من المؤرخين إلى أنّ الإنجيل تم استخدامه على نطاق واسع لتبرير الاستعباد
لا يخفي العديد من أصحاب البشرة السوداء المشهورين، حتى من استطاع منهم أن يصبح نجماً عالمياً، مثل لوبيتا نيونقو، التي حصلت على جائزة الأوسكار عن فئة أفضل ممثلة مساعدة العام 2014، عن فيلم "12 عاماً من العبودية"، أنّهم عانوا لفترات طويلة في حياتهم من الشعور بالقبح؛ لأنّ معايير الجمال العالمية الموحدة، التي تصدر دوماً عبر وسائل الإعلام، تعطي رسائل ضمنية بأنّ الجمال مرتبط دوماً بالبشرة البيضاء، ولا عجب هنا أنّ ملايين الدولارات ينفقها الأفارقة سنوياً لاستخدام مساحيق التبييض.
اقرأ أيضاً: الإنسانية في مواجهة التطرف
في نظر العديد من المؤرخين؛ إنّ تلك الصورة الموحدة للجمال، إذا تم تتبّع خطاها، سنجدها تبدأ من سيطرة صورة واحدة للمسيح عبر القرون، استطاعت أن تهيمن على بقية الصور، وهي صورة المسيح الأبيض، رغم ترجيح الباحثين، كما سبق ذكره، أنّ المسيح كان أسمر البشرة، ولا يمتّ بصلة لهذه الصورة.
اقرأ أيضاً: سالومي.. حين تحولت القصة الدينية إلى لوحة خالدة تحكي همومك
"المسيح الأسمر" يتهدّد أوروبا!
تعلو بين التيارات اليمينية المتطرفة في أوروبا، وحتى الجناح المتدين المحافظ فيها، في الأعوام الأخيرة، نبرة حماية أوروبا المسيحية الحديثة من البرابرة الشرق أوسطيين، الذين يتسلّلون من بقاع الفقر والتخلف إلى أراضي الحضارة والتقدم بحسب تصوّرهم، وههنا يُطرح سؤال جذري: ماذا لو وُضعت أيقونات للمسيح في الكنائس الغربية أقرب إلى شكله الذي يرجح أنه حقيقي، بدلاً من أيقونات المسيح الأبيض؟ في الواقع إذا اعتمدت الكنائس صوراً للمسيح تشبه ملامحه الحقيقية؛ أي رجل مجعد الشعر وأسمر البشرة، ستكون تلك الصور أشبه ما تكون بصور اللاجئين الذين يرى اليمين المحافظ أنهم يمثلون خطراً رهيباً على الحضارة المسيحية الأوروبية!
لا يخفي العديد من أصحاب البشرة السوداء المشهورين أنّهم عانوا لفترات طويلة من الشعور بالقبح
يرى عديد من الكتّاب والمفكّرين ذوي الميول اليسارية، ومنهم الباحثة الأسترالية روبن ج. وايتكار، أنّ هذا إن حدث سيمثل عمقاً جديداً للغاية في التجربة الإيمانية للفرد، إذا ما نظر إلى صورة المسيح فوجده هذا الرجل الأسمر مجعد الشعر، الذي تعرض للتعذيب والاضطهاد على يد نظام وحشي، وأنّ هذا سيجعل الرجل الأبيض يعيد قراءة العالم بشكل أكثر مساواة، وأكثر إحساساً بالآخر الذي يقبع في المنطقة الفقيرة التي ولد فيها المسيح، وأنّ خطوة مثل تلك ستكون قادرة على بداية اتخاذ مسار معاكس لتوحيد صورة موحدة معولمة للجمال.
اقرأ أيضاً: "المسيح ميتاً".. قصة لوحة سحقت دوستويفسكي