هل أسَرَنا مدمن كوكايين عشرات السنين بأفكار مشوّهة؟

سيغموند فرويد

هل أسَرَنا مدمن كوكايين عشرات السنين بأفكار مشوّهة؟


19/03/2020

عام 1938؛ سيطر النازيون على فيينا، وضمّوها لمستعمراتهم، وأُرسل اليهود إلى معسكرات العمل النازية، بينما سمحت قوات هتلر للمواطن النمساوي اليهودي، سيغموند فرويد، بالسفر إلى لندن، التي لم يلبث فيها إلّا عاماً واحداً حتى وافته المنيّة.

اقرأ أيضاً: كيف لفرويد أن يفسّر ظاهرة الشعبويّة؟
فالأب الروحي للتحليل النفسي، الذي نجا من سياط النازية، لم تنجُ أفكاره من نقد المحدّثين، واستكشاف جوانب الرجعية والعنف بين طيّات كتاباته.
النظرية والتأسيس
بدأ فرويد حياته العلمية في جامعة فيينا بالنمسا، المدينة التي انتقل إليها وهو في الرابعة من عمره، ودرس البيولوجيا، وانصبّ اهتمامه على علم الوظائف الحيوية، وتحت إشراف البروفيسور الألماني، إرنست بروك، عمل فرويد ستة أعوام على أبحاث في البيولوجيا، ليتجه بعدها إلى علم الأعصاب، الذي تخصص فيه، وفي الفترة بين 1885 و1886، رحل إلى باريس؛ إذ جمعته علاقة بعالم الأعصاب الفرنسي، جان تشاركوت، الذي استخدم التنويم المغناطيسي كتقنية لعلاج الهيستيريا، وهو ما ساق فرويد في النهاية إلى مزاولة الطب النفسي الذي انكب عليه طيلة حياته، ومن خلال العمل مع جوزيف بروير، وضع سيغموند فرويد نظرية مفادها أنّ "العقل هو نظام معقد من الطاقة"، لكنّ ما أكسبه شهرته الحقيقية كان أول كتبه، الذي نشره عام 1900، بعنوان "تفسير الأحلام"، ثمّ أتبعه عام 1905 بثلاث مقالات متصلة حول نظرية الحياة الجنسية، ولم تلقَ قبولاً في البداية، حتى انعقاد مؤتمر "سالزبورغ"، عام 1908، الذي فتح آفاقاً جديدة أمام المحلل النفسي الذي أجرى المئات من التجارب السريرية.

اقرأ أيضاً: قطار الوعي القادم في آخر النفق: النجاة على طريقة ماركس ونيتشه وفرويد

فرويد بصحبة ابنته آنا التي أكملت مسيرته في مجال التحليل النفسي

ينطلق فرويد من النظرية الجنسية في مرحلة الطفولة المبكرة، التي استطاع فيها تفسير أمراض، مثل العصاب الهيستيري والفصام؛ إذ بنى تلك النظرية على أنّ أحداث الطفولة المؤلمة، خاصة الجنسية منها، لا ينساها الصغار، إنّما تختزل في اللاوعي، وتخرج على صورة نوبات هيستيريا، والتي لطالما حاول فرويد علاجها عن طريق الكوكايين، الذي وقع في عشقه عام 1884، وفق كتاب "تشريح الإدمان: سيغموند فرويد، ويليام هالستيد"، لأستاذ تاريخ الطب بجامعة ميتشجان، والمؤرخ الطبي، هوارد ماركيل، الذي يحكي في جزء كامل من كتابه كيف أدمن "أبو الطبّ النفسي" الكوكايين، وكيف أثر ذلك في صحته العقلية، بل وتسبب في مقتل أحد مرضاه، وتشويه مريض آخر، فقد بدأت قصة حبّه للكوكايين عندما كان طبيباً في مستشفى فيينا العام، وقدّم بحثاً علمياً يطمح فيه إلى تقديم الكوكايين كدواء سحري وحلّ للعديد من حالات العصاب الهيستيري، وتحت هذا الشعار استهلك فرويد كميات هائلة من الكوكايين، دون إدراك أنّه وقع فريسة لإدمان هذا المخدر، وفق رواية ماركيل.

اقرأ أيضاً: هل يطيح بروفسور بريطاني بفرويد أخيراً؟

كتاب "تشريح الإدمان: سيغموند فرويد، ويليام هالستيد" لهوارد ماركيل

نظرة دونية للنساء
"نصف رجل"، أو "رجل تمّ إخصاؤه"، في هاتَين العبارتَين يمكن تلخيص نظرة فرويد إلى النساء، اللاتي دوماً ما كنّ حديث تحليلاته النفسية التي تدور حول اللاوعي، والذي لم يكن هو أول مكتشفيه، كما زعم أنصاره، بل كان جين مارتين شاركوه"، الملقّب بـ "نابليون علم الأعصاب"، وهو أحد أشهر أطباء أوروبا في القرن التاسع عشر، وأول من قام بعلاج حالات الهيستيريا بعد أن أثبت أنّها مرض نفسي، عكس ما كان يشاع عنها من قبل، ويعدّ شاركوه أول من استخدم التنويم المغناطيسي، وقد اكتشف عدة أمراض عصبية ونفسية سميت باسمه، كانت إحدى أشهر حالات علاج الهيستيريا على يديه؛ حالة "لويز أوغسطين"، إذ أرّخت قصتهما معاً في فيلم قدِّم عام 2012، تحت عنوان "أوغطسين"، للمخرجة الفرنسية آليس وينيكور، ووفق كتاب "نهاية وثن"، الذي  قدّمه أستاذ الفلسفة بالكولاج دي فرانس، ميشيل أونفراي، حول حقيقة "أبو التحليل النفسي"، الذي ما تزال أساليبه العلاجية قائمة في كلّ من فرنسا والأرجنتين، فإنّ أونفراي، إلى جانب ماركيل، قدما أطروحات تهدم صنم فرويد، بل ربما تجعلنا نحاكمه في قبره.

اقرأ أيضاً: أبناء داروين أم فرويد؟

كتاب "نهاية وثن" الذي قدّمه ميشيل أونفراي

عكف أونفراي لعقد من الزمان على قراءة كلّ أعمال فرويد، ورسائله وسيرته الذاتية، وما كُتب عنه، ليخرج إلينا، عام 2010، بمؤلَّفه الذي ما يزال يثير غضب مؤيدي فرويد الفرنسيين، بعد أن كشف وهم فرويد كمؤسس لحقل التحليل النفسي؛ إذ يوضح أونفراي أنّ فرويد كان مؤيداً لفاشيات القرن العشرين، مستدلاً على ذلك بتوقيعه لإهداء على كتابه المشترك مع ألبرت أينشتاين "لماذا الحرب؟"، إلى القائد الإيطالي الفاشي، موسوليني، وقد كتب في إهدائه: "بينيتو موسوليني؛ كلّ التحيات والاحترام من رجل عجوز يرى فيك البطل الثقافي"،  ناهيك عما قدّمه فرويد من طرح في الكتاب، الذي أيّد فيه الحرب باعتبارها أمراً حتمياً وطبيعياً في الإنسان، وليست سوى إحدى الغرائز الإنسانية، لذلك علينا تقبلها، فيما نقض أينشتاين هذا الطرح، ورفض الحرب كلية، وعدّها أمراً يمكن تجاوزه ببعض الجهد.

كان يكره النساء والمثليين ويرى أنَّ الفقراء لا يستحقون العلاج النفسي لأنّ العناء هو قدرهم

إلى جانب هذا، يوضح أونفراي تأييد فرويد لحكم الديكتاتور النازي النمساوي، إنجلبرت دولفاس، الذي استولى على السلطة في خضم الحرب الأهلية النمساوية، وقمع الحريات الاشتراكية، وأقام مذابح جماعية للشيوعيين، بمباركة فرويد الذي رأى فيهم الشرّ المطلق على البلاد، فيما تمّ اغتياله من أحد عملاء النازية، وتولى خلفه كورت شوشنيغ، حتى ضمّ هتلر النمسا إلى مملكته.
شبح إيما وكوابيس فرويد
قاتل فرويد، بعد وقوعه أسيراً لإدمان الكوكايين، في محاولة تقنينه وإدراجه كعلاج طبّي يوصي به، حتى أنّه، وبحسب ماركيل، كان يعيش عليه بلا انقطاع، وحاول تطبيقه على العديد من مرضاه سراً، ففي حالة إيما أيزكشتاين، إحدى مريضات فرويد، وأشهر ضحايا التشوهات والجرائم الطبية التي ارتكبها بسبب حبّه للكوكايين، إذ كانت إيما مريضة لدى صديقه، الجراح الألماني في فيينا "فيلهلم فليس"، الذي كان مُصرّاً على أنّ الأعراض الجسدية سببها تنفّسي، فاقترح على فرويد إجراء جراحة أنف استأصل بها جزءاً من عظام الأنف وجزءاً من الأغشية المخاطية، ليجريا الجراحة للفتاة التي عانت من نزيف كاد أن يودي بحياتها، وتمّ مدّها بجرعات مكثفة من الكوكايين، أصابتها بتشوهات حتى نهاية حياتها، ويحكي ماركيل أنّ فرويد كتب في إحدى رسائله إلى فليس؛ أنّ إيما قد زارته في أحلامه، والدماء تغرق وجهها، وهي تصرخ وتوبّخه على ما فعل فيها، وأتبع تلك الحادثة بكتابه الأشهر "تفسير الأحلام"، الذي يرى أونفراي أنّه ليس إلّا خلاصاً يمارسه فرويد، بسبب هلوسات الكوكايين التي ظلّت تلاحقه حتى الموت.

خمسون رسالة مكتوبة كان عدد الرسائل التي تبادلها فرويد مع نظيره الإيطالي، إدواردو فايس، حول التحليل النفسي وآرائه في السياسة والوضع العام، اطلع عليها جميعاً ميشيل أونفراي، ليقدّم لنا في كتابه أنّ فرويد كان يكره النساء والمثليين والفقراء؛ إذ إنّه كان يشترط في مرضاه الثراء، ويقدم الجلسة العلاجية الواحدة، بما يساوي 420 يورو حالياً، وهو مبلغ لم يكن يستطيع دفعه سوى الأثرياء وطبقة النبلاء في النمسا، أمّا الفقراء فكان يرى أنَّهم لا يستحقون العلاج النفسي؛ لأنّ العناء هو قدرهم، وهي أفكار تليق بفرويد، الشخصية المغرورة التي تتجلى نرجسيتها، حين قارن نفسه بتشارلز داروين، وقال إنّه أحدث طفرة في التاريخ البشري، رغم عدم حصوله على نوبل، كما لقّب نفسه بـ "السيد الأكبر" في التحليل النفسي، خاصةً بعد عمله مع "هيرمان غورينغ" أحد القياديين العسكريين في جيش هتلر النازي، في مختبرات نفسية، ليمدّ حياة جديدة للتحليل النفسي، في الرايخ الثالث، بالطبع هذا قبل أن يكتفي النازيون بحرق نسخ من مؤلفاته، بعد استيلائهم على فيينا، وهروبه منها بسماح من النازيين.


آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية