كيف لفرويد أن يفسّر ظاهرة الشعبويّة؟

كيف لفرويد أن يفسّر ظاهرة الشعبويّة؟

كيف لفرويد أن يفسّر ظاهرة الشعبويّة؟


26/07/2022

ترجمة: كريم محمد

يرجعُ أحد التفسيرات لظاهرة صعود الأساطير القومية الشعبويّة، اليوم، إلى الديناميكيّات المعقّدة بين الفرد والمجتمع، وبين العقل والاستيهام، والحال أنّ المفكّر الذي يمكنه أن يساعدنا في فهم زوبعاتنا السياسيّة الحالية ليس سوى فرويد.

فرويد معروف بنظرياته الأكثر إثارةً للجدل حول الجنسانيّة، لكنّنا لسنا في حاجة إلى استجلاب تقانات فرويد، أو نظرياته السريريّة، حسبنا أن تبقى القيمةُ دونما أوديب.

تفحّصُ النظريّة الفرويديّة التوتّر بين الرغبات اللاواعية والأنا المسيطرة، التي قد تُحشَد قدراتها الواعية، حتى وإن كانت غير معصومة من الخطأ، للتدقيق في دوافعنا العاطفيّة، بهذا المنظور؛ فإنّ الحريّة التي يملكها البشرُ تعتمدُ فحسب على إدراك الاستيهامات والتحكّم بها وعلى الشغف المرافق لها، بوعي كهذا؛ فإنّنا نكون على الأقلّ في منزلةٍ أفضل لمحاكمة وتوجيه أفعالنا، والتلطيف من تلك الفِعال المدمّرة وتعزيز الناجع منها، والحال أنّ هذه ليست بفكرةٍ جديدة على الفلسفة الغربيّة؛ فهي ترجع في أسوأ الأحوال إلى أفلاطون وأرسطو.

سيغموند فرويد

بيد أنّ فرويد بقيَ حَذراً بشأن "غطرسة الوعي"، وأدركَ حدود المنهج التحليل-نفسيّ، إثر ذلك؛ فإنّ رؤيته الحذرة للوعي بالذات قادته إلى الاعتراف بلاعقلانيّتنا والاشتباه في العقل كأداة لمعرفة الذات، وعليه، قوّضَ فرويد الثقة بالمُثل الأنواريّة بحدّ ذاتها التي تبنّاها هو.

إنّ سياسات الهويّة التي أدّت إلى انتعاش الاختلافات قد قلبت على رأسها لتتحول إلى نقيضها بمصطلحات فرويديّة

والحال؛ أنّ لاستنتاجات فرويد آثاراً بعيدة المدى بالنسبة إلى الفاعليّة الأخلاقيّة، فعن طريق تفنيد الفكرة المغلوطة بأنّ العقلانيّة يمكن أن تسيطر على العواطف، قام فرويد بزعزعة الاستقلاليّة البشريّة، وكما كتبَ في كتابه "مستقبل وهم" (١٩٢٧):

فإنّ "صوت العقل خافت، لكنّه لا يفتأ يتردد حتى يسمع، والعقل وصل إلى غايته في النهاية بالرغم من سلسلة الانحدارات المتتالية التي تعرّض لها، وهي ظاهرة من المسائل النادرة التي تحملنا على التفاؤل في مصير الإنسانية، بيد أنّها مسألة لا أهميّة تُذكر لها بما هي بحدّ ذاتها، بيد أنّ منها، يمكن للمرء أن يستمدّ آمالاً أخرى، فليس بأكثر من أن نتشبّث بها".

تبدو الآثار الاجتماعيّة لفكر فرويد قابلةً للتطبيق مباشرةً على الثوران السياسيّ اليوم؛ ففي كتابه "قلق في الحضارة" (١٩٣٠)، حاججَ فرويد بأنّ الفردَ والحضارة في تعارضٍ مع بعضهما البعض حتماً؛ فبالنسبة إلى الجماعة، الدوافع الغريزيّة للإشباع الشخصيّ يجب بترها أو توجيهها في نشاطات غير مدمّرة. وتبعاً لذلك؛ فإنّ القمعَ والتّسامي يعملان على التعاطي مع مرجل الرغبات، ومزيد من الكبت يؤدي إلى الانحراف، ومزيد من التساهل يؤدي إلى الفوضى، فالحسابات النفسيّة تتطلّب التوازن.

كيف يمكننا أن نستقرئ بشكل معقول الميكانيزمات الفرويديّة للفرد إلى المجتمع ككلّ؟ إذا انخرطنا في تمرينٍ كهذا، فإنّ الانفجارات الحاليّة للشعبويّة المُشاهدة في شمال المحيط الأطلسيّ والمجتمع الأوروبيّ، ما هي سوى فشل للنظام الليبراليّ لإيجاد توازن ملائم بين التنوير والأسطوريّ، توازن بين العقل والعاطفة، صُكّت هذه المعارضة على يد كلّ من ماكس هوركاهيمر وثيودور أدورنو، في كتابهما "جدل التنوير"، فقد كتبا، حالما مُنيت النازيّة، حول سلطة الأسطورة الآريّة التي جيّشت الشعب الألمانيّ؛ إذ استغلّ هتلر ببراعةٍ الرّوح الجماعيّة للأمّة وأثار مشاعر أساسيّة لحماية الوطن، وشيطنَ جماعات الأقليّة بوصفهم متطرّفين )اليهود، السّود، المثليّون، الغجر، وغيرهم من الآخرين)، انتصرت الأسطورة على العقل.

الانفجارات الحاليّة للشعبويّة ما هي إلا فشل للنظام الليبراليّ لإيجاد توازن ملائم بين التنوير والأسطوريّ

إنّ ترمب وأوربان وأردوغان، ومَن على شاكلتهم، ليسوا بمؤهلين لأن يكونوا طغاةً توتاليتاريين، بيد أنهم يتقاسمون القدرة الذكيّة لتحجيم العقلانيّ وتحشيد العاطفيّ، واعتماداً على هذا المخزون، فإنّهم يجعلون "الأخبار الكاذبة" هي الأخبار، متجنّبين الخطاب التداوليّ والنقاش المعقلن للاستقطاب واللّعب على الاستيهامات المتخيّلة، فإنّهم يتخصّصون في اختزال الإشكاليّات المعقدة إلى جعجعات ملتهبة، وإنّهم يقومون بتعزيز الإحياء الأسطوريّ للأمّة والشعب، ومن جهةٍ مقابلة يقومون بتشويه سمعة الآخر الداخليّ، ليست الغوغائيّة سبباً في الاضطراب السياسيّ، لكنّها تستغل بفعاليّة قويّة خزاناً من السخط والحرمان.

 الشعبويّة التي حشدَ لها ترامب ورفاقه قد سنّت، بقوّة، هويّةً جديدةً لأتباعهم

إنّ الشعبويّة التي حشدَ لها ترامب ورفاقه قد سنّت، بقوّة، هويّةً جديدةً لأتباعهم، فلم يعد يقمع "هم" أيّ أجنبيّ، وتبزغ "نحن" جديدة، تلك الــ "نحن" التي سُنّت على أسطورة اخترعت حديثاً، كانت الحيلة هي خلق "نحن" مقابلة/ ضدّ "هم".

إنّ سياسات الهويّة التي أدّت إلى انتعاش الاختلافات قد قُلبت على رأسها لتتحول إلى نقيضها، بمصطلحات فرويديّة، فإنّ الرغبة المُحبطَة قد أُعيدَ توجيهها من شعور ضافٍ بالنكران والخسارة والكبت إلى أشكال جديدة من الانطلاق، فلا يمكن قمع الأسطوريّ بالكليّة؛ إذ إنّ حضورها هو تأسيسيّ للاجتماعيّ، لقد أُظهرَت القوّة المدهشة لتحشيد الغضب النفسي بصورة لا يخطئها العيانُ. وبالفعل، فإنّ حصّتنا من الحضارة ولا إشباعاتها، هي مثالٌ على البندول التاريخيّ المتأرجح بأسطوريّته المتصاعدة حالياً، لمَ؟ تحتشدُ الإجاباتُ في مجموعتيْن: الأولى تتناول فشل تلك الأساطير التي دعّمت الليبراليّة والحاجة إلى إعادة الحيويّة لها؛ الثانية تنظر إذا ما كانت العقلانيّةُ الأداتيّةُ قد ثبت بالدليل عدم ملاءمتها لإدارة المجتمعات الغربيّة.
إنّ كيفيّة معالجة هذه الإشكاليّات هي ما يُحدّد، إلى حدّ كبير، كيف للمرء أن ينظر إلى وضعنا الراهن، ما يزال المحكّمون في الخارج، والشعبويّة المتصاعدة في الوقت نفسه تمارس شغفها وعملها، للأفضل أو للأسوأ.

المصدر: ألفريد توبير

مواضيع ذات صلة:

لماذا تعد "الشعبوية" كلمة مشينة؟

الشعبوية ويمين الإسلام السياسي
العالم في قبضة الشعبوية .. تعرف على أسباب صعودها ومستقبلها


آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية