تشهد الساحة السورية تصعيدًا عسكريًا جديدًا يعكس تحولًا جذريًا في مسار الصراع في سوريا، الذي بدأ منذ أكثر من 13 عامًا، وخلف أكثر من نصف مليون قتيل وما يزيد على 12 مليون نازح داخليًا وخارجيًا.
وقد جاء هذا التحول على يد المعارضة المسلحة، بقيادة هيئة تحرير الشام، حيث شنت هجومًا مباغتًا، هو الأكبر من نوعه منذ اتفاق وقف إطلاق النار في مارس 2020، سيطرت فيه على حلب وكامل محافظة إدلب، وتستمر في تقدمها نحو حماة.
وفي العملية العسكرية التي يُطلق عليها “ردع العدوان” في عدة مناطق في شمال غربي سوريا، تتحالف عدة فصائل، أبرزها الجبهة الوطنية للتحرير وجيش العزة وبعض فصائل الجيش الوطني السوري الموالي لتركيا، مع هيئة تحرير الشام.
مركز "تريندز للبحوث والاستشارات" اهتم بالعملية عن طريق استعراض التطورات الميدانية، والأسباب الكامنة وراء التصعيد العسكري، وتداعياته السياسية والإقليمية المحتملة. كما سلط الضوء، في دراسة بعنوان "تصعيد الصراع: دوافع وتداعيات هجمات الفصائل المسلحة في سوريا"، على التحولات في ديناميات الصراع السوري وسيناريوهاته المستقبلية.
العملية العسكرية وأهدافها وتطوراتها:
وقالت الدراسة، في رصدها للأحداث، إن عدة فصائل سورية مسلحة بقيادة “هيئة تحرير الشام” شنت، في تطور مفاجئ هو الأكبر منذ سنوات، في 27 تشرين الثاني / نوفمبر 2024، هجومًا واسع النطاق على القوات السورية؛ ما أدى إلى سيطرتها على حلب، ثاني أكبر مدن سوريا، وكامل محافظة إدلب، والتقدم نحو حماة جنوبًا.
وبعد إحكام السيطرة على معظم حلب، أعلنت فصائل المعارضة السورية المسلحة عن بدء توغلها في مدينة حماة، مشيرة إلى انسحاب القوات السورية من المدينة، بحسب ما أوردته الدراسة.
في المقابل، نفت وزارة الدفاع السورية هذه الادعاءات، مؤكدة أن قواتها لم تنسحب من حماة، وأنها -بالتعاون مع القوات الروسية- تشن غارات تستهدف ما وصفته بـ”المجموعات الإرهابية” وخطوط إمدادها، وأنها تمكنت من استعادة السيطرة على قرى بريف حماة كانت قد سيطرت عليها هذه المجموعات.
وقد أطلقت فصائل مسلحة سورية موالية لأنقرة، أبرزها الجيش الوطني، عملية عسكرية أخرى باسم “فجر الحرية”، في 30 تشرين الثاني / نوفمبر الفائت، بريف حلب الشرقي والشمالي، ضد القوات السورية وقوات سوريا الديمقراطية “قسد”.
وتمكن الجيش الوطني والفصائل الموالية لتركيا من السيطرة على بلدتي السفيرة وخناصر الاستراتيجيتين، إضافة إلى مطار كويرس العسكري، بعد اشتباكات خاضتها مع قوات الجيش السوري، وكذلك السيطرة على مدينة تل رفعت الاستراتيجية وانتزاعها من أيدي القوات الكردية.
توقيت هجمات المتمردين وأسبابها
تشير الدراسة إلى أن اختيار المعارضة السورية المسلحة هذا التوقيت لتنفيذ هجماتها ضد القوات السورية لم يكن عشوائيًا، بل جاء نتيجة عوامل داخلية وإقليمية ودولية متشابكة وفرت لها فرصة استراتيجية للقيام بعملية عسكرية واسعة.
تراجع الاهتمام الدولي عمومًا بالأزمة السورية قد لعب دورًا كذلك في تعزيز الفوضى داخل البلاد
فقد شهدت الشهور الأخيرة تراجعًا واضحًا في قوة حليفَيْ الحكومة السوريّة الأساسيين ونفوذهما؛ وهما إيران وحزب الله. فالحزب ركز جهوده، منذ أكثر من عام، على مواجهة التصعيد الإسرائيلي في لبنان؛ ما أجبره على سحب جزء كبير من قواته من سوريا للتركيز على الجبهة اللبنانية. وهذا الانسحاب ترك فراغًا كبيرًا في الجبهة السورية.
وتعرضت إيران لضغوط كبيرة؛ بسبب الضربات الجوية الإسرائيلية التي استهدفت قياداتها العسكرية ومواقعها الاستراتيجية في سوريا؛ ما أضعف قدراتها اللوجستية والعسكرية، إضافة إلى أنّ تصاعد المواجهة بينها وبين إسرائيل أثر على دعمها للقوات السورية في معارك حاسمة، مثل تلك التي شهدتها حلب؛ ولعل ذلك هو ما أغرى المعارضة المسلحة باستغلال اللحظة لتوسيع نفوذها.
إلى ذلك، لفتت الدراسة إلى انشغال روسيا بحربها في أوكرانيا منذ عام 2022، ما أدى إلى تقليص اهتمامها بالمشهد السوري، ومن ثَمّ تقليص دعمها المباشر للحكومة السورية، حيث سحبت أنظمة دفاع جوي متقدمة، مثل نظام S-300، ووجهت مواردها نحو الجبهة الأوكرانية. ومن ثم، فإن الدعم الجوي الروسي، الذي كان حجر الزاوية في انتصارات الحكومة السورية السابقة، أصبح أقل فعّالية.
كما أن تراجع الاهتمام الدولي عمومًا بالأزمة السورية قد لعب دورًا كذلك في تعزيز الفوضى داخل البلاد. ومع انشغال المجتمع الدولي بقضايا أخرى مثل الحرب في أوكرانيا والصراعات الإقليمية الأخرى، أصبحت سوريا ساحة مفتوحة للقوى الإقليمية، مثل تركيا وإيران وروسيا. هذا الغياب الدولي شجع المعارضة على استغلال الظروف المحلية والإقليمية لإعادة ترتيب صفوفها والمبادرة بالتصعيد الميداني.
تداعيات هجوم 27 نوفمبر وآفاقه
وقد اعتبرت الدراسة أن أول تداعيات هجوم الفصائل المسلحة في 27 تشرين الثاني / نوفمبر هو تغيير خريطة السيطرة العسكرية في شمال وشمال غرب سوريا؛ فمنذ شباط / فبراير 2020، استقرت خريطة السيطرة العسكرية في سوريا دون تغييرات كبيرة في خطوط التماس بين الأطراف المتصارعة، لكنّ الهجمات الأخيرة للمتمردين أدت إلى تحركات ميدانية لافتة، أبرزها سيطرة المعارضة المسلحة على مدينة حلب.
وبالإضافة إلى تغيير خريطة السيطرة العسكرية، أعاد النجاح السريع لهجوم الفصائل المسلحة بزعامة “هيئة تحرير الشام” صياغة دينامية الحرب الأهلية السورية. ويبدو أنّ الأزمة المركَّبة في سوريا تشهد تحولًا كبيرًا يتعلق أساسًا بموازين القوة الهشة في البلاد، عقب تقدم الفصائل المسلحة في ريفَيْ حلب وحماة، وفقا للدراسة.
فقد تمكنت الأخيرة من استعادة زمام المبادرة بعد سنوات من الجمود النسبي والحرب الموضعية. كما أنّ نجاح المعارضة المسلحة في تحقيق مكاسب ميدانية كبيرة يشير إلى قدرة متزايدة على التنسيق واستغلال نقاط الضعف لدى قوات الحكومة السورية وحلفائها؛ ما يهدد توازن القوى الحالي، ويعيد فتح ملفات الصراع المعقدة.
كما أن سيطرة المعارضة على مواقع استراتيجية تكشف عن ضعف تمركز القوات السورية، التي تواجه تحديات لوجستية ومعنويات متراجعة. وهذا الضعف يعكس الضغوط الاقتصادية والسياسية على الحكومة السورية، إضافة إلى الإنهاك الطويل الأمد لقواتها، وهو ما قد يمنح المعارضة فرصة لمواصلة الضغط وتوسيع سيطرتها.
وقد تستغل المعارضة نجاحها الأخير لتحقيق مكاسب إضافية، في حين أن الحكومة السورية تسعى لتعويض خسائرها بهجمات مضادة بدعم من روسيا وإيران؛ ما يعني أننا أمام تصعيد جديد في الصراع، مع احتمالات استمرار القتال، وربما تغييرات جذرية على الأرض تدفع نحو تسوية سياسية.
والأخطر أنّ هذه التطورات العسكرية تُهدد بتجدد الحرب الأهلية السورية في جولةٍ ثانية، سوف يكون المدنيون أكبر ضحاياها. وتشير المعطيات الراهنة داخل سوريا إلى أن الصراع الجاري له عواقب وخيمة حقًّا، بل وربما يغير قواعد اللعبة إذا أثبتت قوات الحكومة السورية عدم قدرتها على الصمود.
وستشمل هذه المخاطر تنظيم داعش الذي قد يرى مقاتلوه أن ما يحدث الآن يُعدُّ فرصة مواتية يتعين عليهم انتهازها واستغلالها. وهناك تقارير تتحدث عن محاولات من الحرس الثوري الإيراني لإعادة ترتيب صفوفه، بالاستعانة بالمجموعات العراقية التي سينقلها من المناطق الشرقية إلى محافظة حلب.
ومن التداعيات الأخرى، ستهدد هذه الهجمات خطوط الإمداد الإيرانية إلى لبنان، والتي تعد بالغة الأهمية لقدرة طهران على إعادة تسليح وإمداد حزب الله في لبنان بعد حربه مع إسرائيل. كما قد يصبح التماسك الداخلي للحكومة السورية موضع تساؤل وسط عجز الجيش السوري عن صد الانتفاضات المحتملة الأخرى في جميع أنحاء البلاد.