من السرية إلى العلن، ومن الصمت إلى التصريح باستخدام القتل والعنف، دخلت طائفة الحشاشين التاريخ منذ أواخر القرن الحادي عشر الميلادي، وبعد قرونٍ عديدة، ظهر شبحها من جديد، وتمثل في بعض جوانبه بتنظيم داعش الإرهابي، وبظروف مشابهة كأن الزمن لم يتقدم، فالتكفير، والاجتزاء من النصوص الدينية، والإصرار على وجود صورة للإسلام الحقيقي تمتلكها طائفة دون سواها، ما تزال تتمثل جميعها، على أرض الواقع.
يشير برنارد لويس في كتابه "الحشاشون، فرقة ثورية في الإسلام" إلى ما قيل عن الحشاشين من أنهم "يبيعون أنفسهم، ويتعطشون للدماء البشرية، ويقتلون الأبرياء مقابل أجر، وهم يستطيعون التغير والتخفي كالشياطين، فيحاكون الملابس واللغات والعادات، وهم يخفون أسماءهم، أو يغيّرونها، بسبب بشاعة عاداتهم هذه".
كأن الزمن لم يتقدم بالإصرار على وجود صورة للإسلام الحقيقي تمتلكها طائفة دون سواها
هذا ما قيل في الحشاشين، ونقله لويس وغيره، غير أنه يعود ويتمثل اليوم مع "داعش" في المقاتلين أصحاب الأسماء المستعارة من التاريخ، القادمين من دولٍ وأعراقٍ ودياناتٍ مختلفة، ولا يكاد يجمعهم شيء، سوى تلك الصفات التي ذكرها لويس.
بذرة تنظيم داعش الإرهابي، نبتت بدايةً بعد احتلال العراق العام 2003، وهو الاحتلال الذي جاء بعد سنواتٍ طويلة من الحصار، في بلدٍ كان يعيش فيه مسلمون؛ سنة وشيعة، ومسيحيون، وعرب وأكراد وأرمن، ويبدو الاستقرار فيه ظاهرياً، تماماً كتلك الفترة التي ظهر فيها الحشاشون، في عصرٍ حرج، يعج بالعباسيين والفاطميين والسلاجقة والأيوبيين، كما إنهم عاصروا الغزو المغولي، الذي قضى عليهم في النهاية.
الحسن الصبّاح مؤسس طائفة الحشاشين اتخذ من قلعة آلموت القابعة في جبال فارس مقراً حصيناً له
الحسن الصبّاح، مؤسس طائفة الحشاشين، اتخذ في ذلك الحين من قلعة آلموت القابعة في جبال فارس، مقراً حصيناً، يضم حوله نظاماً زراعياً متقدماً يمد القائد وأتباعه المخلصين بحاجاتهم من الغذاء، أما القلعة من الداخل، فامتلأت بأفكاره عن الطاعة العمياء، والقتل كتذكرة لدخول الجنة، والاغتيال للأفراد الذين يعارضون أو يعوقون سلطة زعيم الطائفة، كما إن قلعة آلموت التي شكّلت نقطة انطلاق للسيطرة على قلاع وأماكن عديدة أخرى، تمتعت بنظام اتصال متقدم في ذلك الحين، يعتمد رسائل مشفرة باستخدام أطباقٍ معدنية تعكس أشعة الشمس بزوايا معينة، وتُنبئ برسائل محددة.
ويشير لويس في كتابه أيضاً إلى أنّ كلمة "assassin" بالإنجليزية التي تعني القاتل المأجور، جاءت في الأصل من كلمة "حشاش"، باعتبار الحشاشين أوّل فرقة معدّة للاغتيالات الفردية.
بعد أن ساد الاعتقاد أنّ أفعال الحشاشين غدت أساطير لا أمل بعودتها تولّى تنظيم داعش إحياءها
ولا يبتعد تنظيم داعش الإرهابي عن هذا السبيل، إنما يتوسع بشأنه، فهو الذي "بُعث" في عصر الإنترنت ووسائل التواصل المرئية والمسموعة والمكتوبة، ممّا مكّنه من الوصول إلى الجموع في أي مكان، واستهداف الأفراد أينما وجدوا، أمّا عقيدة التنظيم، فاعتمدت الترهيب والقتل، كتذكرة إلى الخلاص والنعيم، حتّى إنّه أصدر جواز سفرٍ إلى الجنة.
وبحسب تقريرٍ أورده موقع أخبار الآن بتاريخ 27 حزيران (يونيو) 2017، فإنّ صوراً عن جواز السفر هذا تم التقاطها ونشرها في وسائل التواصل الاجتماعي، وذكر التقرير أنّها "تُمنح إلى المرتزقة الذين ينفّذون هجمات انتحارية، ويقودون السيارات المفخخة، وأنّها صكوك دخولهم إلى الجنة".
عقيدة داعش اعتمدت الترهيب والقتل تذكرة إلى الخلاص والنعيم حتى إنه أصدر جواز سفرٍ إلى الجنة
وبالرجوع إلى الماضي، فإنّ سيد آلموت، كان يربّي رجاله على طاعة مطلقة حد الموت؛ وتقول الروايات التاريخية إنّ أي رجل أو شاب يعمل تحت إمرة الصبّاح "مستعد أن يلقي بنفسه من ظهر القلعة ويسقط ميتاً، تحقيقاً لإرادة سيّده".
وطالما نشرت شبكات الإعلام ومواقع التواصل، صور أولئك الذين يرميهم "داعش" من قمم البيوت والبنايات، تنفيذاً لـ"رغبة الله"، التي يدّعون معرفتها ويحتكرونها، مقدمين أسوأ صورة أخلاقية عن الدين الإسلامي بجرائمهم هذه.
الرحالة الإيطالي الشهير ماركو بولو، كتب بدوره عن الحشاشين، خلال رحلة له العام 1237 في بلاد فارس، ويقال إنّ كتاباته ربما تناولت قلعة آلموت التي يقول بولو إنّها "قلعة فيها ما لذ وطاب، وفيها نساء وغلمان، وإنّ "سيد القلعة" يقنع أتباعه أنها الفردوس".
تفوّق داعش على الحشاشين عندما وصل إجرامه إلى أنحاء العالم إلا أن الاثنين يشتركان بتربية الذئاب المنفردة
وبعد أن ساد الاعتقاد أنّ هذه الأفعال غدت أساطير لا أمل بعودتها، تولّى تنظيم داعش إحياءها، وقام بسبي النساء في العراق وسورية، وبيعهن في أسواق "النخاسة والمتعة"، كما أنّ داعش أصرّ على أن يعتبر نفسه دولة وولايات، لكن أرضها، ليست في هذا العالم، إنها قطع أراضٍ من الجنة، كل ما فيها "حلال للداعشي"، من نساء وأدواتٍ وطعامٍ وممتلكاتٍ لا يمكن أن تكون لأحدٍ سواه، مصرّاً على تشويه صورة الإسلام، وباسم الله، يغتصب، ويقتل ويفجر، في طريقه إلى الفردوس الموعود، بعد أن بنى "جنة على الأرض".
تفوّق "داعش" على الحشاشين عندما وصل إجرامه إلى أنحاء العالم، إلا أنّ الاثنين يشتركان بتربية الذئاب المنفردة، من البشر الذين يعيشون بيننا بظروف طبيعية، ثم لا ينفكون ينقضون على من يحيط بهم، متعطشين للموت، والدماء، وتكفير من يختلف معهم، مخلّفين الدمار حيثما حلّوا، في دورة بائسة تدخل فترة كمون قد تطول ولكن لا تنتهي، أشبه بتقييد وحشٍ داخل كتب التاريخ، ومن ثم الجلوس والتحديق به، أملاً ألاّ يخرج من جديد.