تحظى الانتخابات الأمريكية بمتابعة عالمية واسعة، لما لها من تأثيرات مباشرة وغير مباشرة على القضايا الدولية والإقليمية، إذ تسهم نتائجها عادةً في إعادة صياغة سياسات الدول الحليفة والمتنافسة، وتنعكس على مسارات العلاقات الخارجية والسياسات العامة.
نتائج هذه المحطة الانتخابية، التي أعادت دونالد ترامب إلى السلطة، حظيت بمتابعة إعلامية مكثفة، حيث قدم "مركز تريندز للبحوث والاستشارات"، تحليلا معمقا لنتائجها، في دراسة تناولت توجهات ترامب في السياسة الخارجية الأمريكية، مع التركيز على عدة ملفات استراتيجية، من بينها التنافس الأمريكي الصيني، وصراع الكوريتين، ومستقبل حلف شمال الأطلسي (الناتو) في ظل رئاسته.
الدراسة، التي وردت بعنوان "العالم بعد فوز دونالد ترامب"، تطرقت إلى مواقف الإدارة الأمريكية من الأوضاع في سوريا، وتوجهاتها تجاه النزاع في غزة والقضايا الأفريقية الملحة. علاوة على ذلك، تستعرض الدراسة رؤية ترامب لقضايا الإرهاب العالمي، ودور جماعات الإسلام السياسي، مع التركيز على التحديات التي تواجه الاقتصاد العالمي في ظل هذه التحولات.
نتائج الانتخابات الأمريكية
وقد حقق المرشح الجمهوري، دونالد ترامب، فوزًا كبيرًا على غريمته الديمقراطية، كاملا هاريس، ليصبح الرئيس الـ47 للولايات المتحدة الأمريكية بعد تجاوزه حاجز الـ270 صوتًا المطلوبة من أصوات المجمّع الانتخابي بهامش كبير، ليعود إلى البيت الأبيض بتفويض شعبي يمنحه الشرعية الكاملة لتنفيذ برنامجه الانتخابي المعلن.
وقد أسهم فوز ترامب بأغلب الولايات المتأرجحة، ولاسيما الرئيسية منها، مثل بنسلفانيا وجورجيا ووسكنسن وميشيغان، في تحقيقه الفوز بأريحية كبيرة، حيث عادت هذه الولايات للتصويت للجمهوريين، بعد تصويت أغلبهم في انتخابات 2020 لصالح بايدن.
ماذا تعني عودة ترامب للرئاسة؟
وبحسب الدراسة فإن عودة دونالد ترامب للرئاسة تعني عودةً لرؤية سياسية شعبوية قومية، قد تركز بشكل كبير على السياسات التي طبّقها خلال ولايته الأولى. ومن المحتمل أن يسعى ترامب لمواصلة تنفيذ سياسات “أمريكا أولًا”، التي تشمل فرض قيود على الهجرة، وإعادة التفاوض حول الاتفاقيات التجارية، وتأكيد دعم الصناعات الأمريكية.
أما على الساحة الدولية، فقد تعني عودته تغييرات كبيرة في العلاقات مع حلفاء وشركاء الولايات المتحدة التقليديين، حيث عُرف ترامب بنهجه القاسي في التفاوض، سواء مع الاتحاد الأوروبي، أو حلف الناتو، أو الصين.
وعلى الصعيد الداخلي، من الممكن أن تواجه إدارته الجديدة انقسامات سياسية أكثر حدة، حيث تظل قاعدته الشعبية متحمسة له، في حين ينظر معارضوه إلى عودته كتهديد للديمقراطية الأمريكية. وقد يستمر الجدل حول قضايا، مثل السياسات الصحية، والمناخ، والعدالة العرقية.
كما قد تشكّل عودة ترامب أيضًا معركة قانونية وسياسية، خاصة مع التحديات القضائية التي واجهها بعد خروجه من السلطة. وسيكون من المثير للاهتمام رؤية مدى قدرته على التعامل مع تلك التحديات، في أثناء محاولة استعادة السيطرة على البيت الأبيض.
تركيا والملف السوري
هذا وذكرت الدراسة أن العلاقات بين الولايات المتحدة وتركيا ستظل تتسم بالبراغماتية، وقائمة على الصفقات أساسًا، مع التركيز على الاتفاقات المخصَّصة الغرض عوضًا عن الشراكة الاستراتيجية المستقرة. وستواصل إدارة ترامب إعطاء الأولوية للمكاسب القصيرة المدى، مدفوعةً بأجندته الانعزالية، مع التركيز على الإنفاق الدفاعي والحمائية الاقتصادية، بالاقتران بالحلول السريعة والوحشية للاشتباكات المطولة في الشرق الأوسط والانسحاب من المنطقة.
كما قد يؤدي هذا التوجه، إلى جانب تركيز ترامب على مسرح المحيطين الهندي والهادي، إلى زيادة الإنفاق الدفاعي الأمريكي، من خلال قانون إقرار الدفاع الوطني في الولايات المتحدة (NDAA)، إلى 5 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي؛ ما سيؤثر في دور تركيا في حلف الناتو، حيث تعيد الولايات المتحدة معايرة تركيزها، وترسل إشارات بتراجع التزامها نحو التحالف.
ومن شأن نهج ترامب الرامي إلى بدء مفاوضات سريعة لإنهاء الحرب في أوكرانيا حفظ الوقت والدم والمال، لكنه سيزيد من الضغط على أنقرة؛ لاتخاذ قرارات صعبة بشأن موقفها الدفاعي، ودورها داخل حلف الناتو، وفقا للدراسة.
إلى ذلك، تؤكد الدراسة أن تركيا سوف تعتمد على النجاح المتصور للمخطط القائم على عقد الصفقات بين الرئيسين أردوغان وترامب، وستسعى بشكل مكثف إلى تحقيق مراجعات للسياسات في واشنطن، مع التركيز أساسًا على سوريا.
غير أن هذه العلاقة ستكون معرضة للخطر؛ نتيجة لتباين السياسات تجاه الحرب في غزة، حيث يُتوقع أن يؤدي دعم تركيا لحركة حماس والفصائل الفلسطينية الأوسع إلى نشوب خلافات مع الإدارة الأمريكية. وسيبقى دعم الولايات المتحدة لإسرائيل قويًّا، وقد يُعطي تل أبيب حرية أوسع للتحرك في المنطقة.
ومن الناحية الاقتصادية، سيؤدي ارتفاع قيمة الدولار الأمريكي في عهد ترامب؛ بسبب سياساته الحمائية المدفوعة بالرسوم الجمركية، إلى الضغط على الاقتصاد التركي الذي يعتمد على الواردات بالدولار والصادرات باليورو. وقد تؤدي السياسات الحمائية لترامب إلى انخفاض اليورو مقابل الدولار إلى مستوى 1,05؛ ما يُضعف نسبة الصادرات إلى الواردات لدى أنقرة،
مستقبل حرب غزة برئاسة ترامب
على الرغم من أنه من غير المرجح أن يكون لفوز ترامب تأثير ذو مغزى في مستقبل قطاع غزة، أو مآلات الحرب هناك، غير أن فوزه ربما يعني مزيدًا من تراجع هذه القضية على أجندة السياسة الخارجية الأمريكية، بحيث إنه إذا لم تقع حوادث كبرى تمثل تهديدًا حقيقيًّا للولايات المتحدة أو المصالح الأمريكية والإسرائيلية، فلن يكون هناك اهتمام أو حوار حقيقي حول صفقة لإنهاء الحرب وتحرير الرهائن.
تتجه إدارة ترامب لحصار وتقويض المنظمات والمؤسسات التي تتبع جماعة الإخوان المسلمين من خلال قوانين وإجراءات تهدف للحد من تأثيرها الدولي
وترجح الدراسة أن يستمر تدفق الدعم بأشكاله المتعددة إلى تل أبيب؛ من أجل ضمان تحقيق إسرائيل “النصر”، كما أشار ترامب سابقا.
يُذكر أن ترامب كثيرًا ما وصف نفسه بأنه “أفضل صديق” لإسرائيل، وتحدث أيضًا عن منح إسرائيل كل ما تحتاج إليه للدفاع عن نفسها، والسماح لها “بإنهاء المهمة”، ألا وهي القضاء على “حماس”.
هذا وأوردت الدراسة أن تصريحات ترامب تؤكد أنه يؤيد بالكامل استمرار العمليات العسكرية الإسرائيلية في القطاع؛ حتى تحقق إسرائيل أهدافها هناك، ليس فقط القضاء على “حماس”، وإنما -ربما- الاستمرار في البقاء في القطاع، وضمه إلى إسرائيل.
فبالنظر إلى قضية إنهاء الحرب في القطاع، يؤيد ترامب بشكل واضح استمرار العمليات الإسرائيلية هناك؛ حتى تستكمل تل أبيب أهدافها. لهذا، من غير المرجح أن تدعم إدارة ترامب أية خطط لعقد صفقات مع حماس لوقف الحرب وإعادة الرهائن.
ملفات أفريقيا الملحة
في حين يرى البعض بأن سياساته لن تختلف عن ولايته الأولى، خاصة فيما يتعلق بالنهج “الانعزالي”، وعدم إيلاء الأفارقة “التقدير المناسب”، تذهب بعض التحليلات إلى احتمالية حدوث تغيير في توجهات سياسة ترامب تجاه القارة نحو مزيد من التقارب مع الدول الأفريقية، استنادًا إلى ما تضمنه مشروع ترامب 2025 الذي يزعم أن فريقه يدرك الأهمية الاستراتيجية لأفريقيا على المدى الطويل.
وترى الدراسة أن أفكار دونالد ترامب سظل متسقة إلى حد كبير مع ولايته الأولى (2017- 2021)، التي تتمحور حول الانعزالية والنزعة القومية. ومع تعهده بمواصلة برنامجه “أمريكا أولًا”، وخفض المساعدات الخارجية، تزداد التوقعات حول تبني واشنطن نهجًا انعزاليًّا تجاه أفريقيا.
يُذكر أن نهج ترامب تجاه القارة في ولايته الأولى تراوح بين الازدراء والإهمال، وكان سلبيًّا بشكل عام بالنسبة لها، حيث لم يسبق لترامب زيارة القارة الأفريقية طوال السنوات الأربع في فترته الأولى. وماتزال التصريحات المثيرة للجدل التي وصف فيها ترامب بعض الدول الأفريقية بـ “القذرة” عالقة في أذهان الأفارقة الذين يخشى معظمهم صعوده للسلطة مرة أخرى.
جماعات الإسلام السياسي والإرهاب
الدراسة رجحت أن تتجه إدارة ترامب لحصار وتقويض المنظمات والمؤسسات التي تتبع جماعة الإخوان المسلمين، وذلك من خلال قوانين وإجراءات تهدف للحد من تأثيرها الدولي من جانب، وللحد من تأثيرها في الانتخابات الأمريكية باحتكارها للصوت المسلم مستقبلًا، وكذلك الحد من تأثير خطابها في المجتمعات المسلمة بالداخل الأمريكي، من جانب آخر. ومن الأمور التي تعزز تلك الفرضية أن ترامب عادةً ما يهدف لخطب وُدّ الدول العربية المناهضة للجماعة.
لكن من غير المرجح، بحسب الدراسة أن تصنف إدارة ترامب الإخوان جماعةً إرهابية، إلّا إذا وقع حدث جلل يسمح له بفعل ذلك، أو إذا تنامَى ما يمكن أن نطلق عليه التحالف الناشئ بين الإسلاموية (بشقيها السُّني والشيعي) وبين “الأوراسية الجديدة”، بشكل يشكل خطرًا على مصالح الولايات المتحدة،
وفي ما يتعلق بالجماعات المتطرفة والإرهابية، فمن المنتظر أن تعطي إدارة ترامب أولوية لمواجهة الإرهاب، لاسيّما التنظيمات المسلحة العابرة للحدود، على غرار تنظيمَيْ “القاعدة” و”داعش”، أو حتى التنظيمات الإرهابية المحلية على غرار “بوكو حرام” و”طالبان باكستان”، وستسمح باستخدام القدرات العسكرية لتقويض تهديدات تلك التنظيمات.
ستُضيّق إدارة ترامب أكثر من أي وقت مضى الخناق على التنظيمات الإسلامية المختلفة على الأراضي الأمريكية، مثل حركة حماس، حيث نُشِرَ على منصة الحزب الجمهوري الأمريكي برنامج لعام 2024، مُكَوَّن من 20 نقطة موجزة، تشكل في مجملها وثيقة لسياسات الحزب. وشدد البرنامج على ضرورة “ترحيل المؤيدين لـحركة حماس.