ما حقيقة الميراث التركي في ليبيا؟

ما حقيقة الميراث التركي في ليبيا؟


22/07/2020

 مع تصاعد الأحداث في شرق المتوسط وتدخّل تركيا في الشأن الليبي وتهديدها للأمن القومي المصري، طفت على السطح تصريحات وعبارات على لسان مسؤولين أتراك، تنمّ عن موروث استعلائي ونظرة شوفونية واضحة تجاه العرب.

الرئيس التركي أردوغان أعلن في أكثر من مناسبة أنّ ثمة تاريخاً مشتركاً بين العرب والأتراك، وكذا فعل وزير الدفاع التركي الذي قال في كلمته، وهو يتفقد الجنود الأتراك في ليبيا، إنّ أجداده الأتراك كانوا هنا ورحلوا، وإنّ ثمة ميراثاً تركياً في المنطقة، ولأننا، كما قال نجيب محفوظ "آفة حارتنا النسيان"، فيبدو أنّ البعض نسي حقيقة الميراث التركي في ليبيا.

 

تُعدّ رسالة غومة المحمودي إلى السلطان وثيقة تاريخية تلخص الأوضاع في ليبيا تحت الاحتلال العثماني

لقد كانت ليبيا ثلاثة أقاليم: إقليم برقة في الشرق، وعاصمته بنغازي، وإقليم طرابلس الغرب، وعاصمته طرابلس، وإقليم الفزان في الجنوب الغربي، هذه الأقاليم كانت تتفاوت في الاستقلال فيما بينها، وإن كان يجمعها وحدة واحدة وهي الانتماء الليبي.

عند إغارة الأتراك على العرب والمسلمين في توسع تركيا العسكري العام 1517م، ودخولهم القاهرة وإعدام طومان باي سلطان المماليك، وخلع الخليفة العباسي الذي كان يحكم باسمه المماليك، كان إقليم برقة تحت حكم المماليك فآل الحكم فيها للعثمانيين.

أمّا إقليم طرابلس فقد كان في يد الإسبان ولم يحاول العثمانيون تحريره إلا بعد عدة عقود في العام 1551، عندما قام الأسطول العثماني بالاستيلاء على طرابلس وتعيين مراد آغا باشا حاكماً عاماً على كل ليبيا، وجعل مقرّ حكمه طرابلس، ظل الأتراك يستنزفون خيرات ليبيا ويسيمون أهلها سوء العذاب، سواء عبر الولاة المعينين من السلطان أو الولاة الأتراك من أسرة القرمانلية، غير أنّ ما ارتكبه الأتراك مع غومة المحمودي لم يسبق له مثيل.

اقرأ أيضاً: حياد برلين يتآكل: هل تدخل ألمانيا حلبة الصراع في ليبيا؟

وُلد الشيخ غومة بن خليفة بن عون المحمودي في العام 1795، في قبيلة أولاد المرموري، إحدى قبائل المحاميد، داخل بيت توارث السيادة منذ القرن الخامس الهجري على الجبل الغربي الواقع جنوب غربي طرابلس على حدود مدينة غريان تقريباً.

 

قام العثمانيون بقطع رأس المحمودي وإرساله إلى طرابلس وطافوا به عبر ضواحي المدينة

 مع حلول ثلاثينيات القرن التاسع عشر، تغيرت سياسة الدولة العثمانية في 24 أيار (مايو) 1835، عندما أرسى أسطول عثماني يتكون من 22 سفينة حربية، تحت قيادة مصطفى نجيب باشا على شواطئ طرابلس، وتمّ طرد علي باشا القرمانلي آخر أفراد الأسرة القرمانلية منها.

وكانت الأسرة القرمانلية تحقق في ليبيا شبه استقلال عن السلطنة العثمانية، دخل أجداد الشيخ غومة في تحالف مع القرمانليين الذين اعترفوا خلاله بسلطة قبيلة المحاميد فوق الجبل الغربي ومقرّه يفرن، بعد صراع مرير أدرك قادة الأسرة القرمانلية ضرورة التحالف مع القبائل العربية لضمان الاستقرار، ونتيجة لذلك التحالف تمتع الليبيون بثروات بلادهم، دون خروج الجانب الأكبر منها إلى خزائن إسطنبول.

ولمّا كان نجيب باشا على علم كامل بعلاقة المحاميد بالوالي المخلوع، فقد دبّر الحيلة للإيقاع بزعيمها غومة المحمودي والزج به في السجن، ظنّاً منه بأنّ ذلك سيجعل الأجواء تصفو للعثمانيين في ليبيا.

اقرأ أيضاً: هذا ما قاله وزير الخارجية التركي عن ليبيا من النيجر

أقام الباشا حفلاً لتنصيبه، ودعا الشيخ غومة المحمودي وزعماء المحاميد لمبايعة السلطان، ثم قبض عليهم جميعاً بعد حضورهم (في حركة شبيهة بحركة محمد علي مع المماليك)، وعندما ظنّ أنه قد تخلص منهم، قام بفرض الإتاوات الباهظة على الليبيين، وإحلال الأتراك والأرناؤوط محل العرب في الوظائف الرسمية بطرابلس، تسبب ذلك كله في قيام الثورة لأول مرّة في الجبل الغربي، معقل الشيخ غومة المحبوس لدى الباشا، قدّم الليبيون شكوى رسمية منه، وما إن حلّ الأخير بولاية طرابلس حتى أطلق سراح غومة المحمودي لتسكين ثائرة قومه، ولكنه زاد في المقابل من فرض الضرائب على الليبيين، وفرض عقوبات قاسية على من يعجز منهم عن دفعها، تراوحت بين الضرب بالسياط ومصادرة الأراضي والأغنام وحرق الديار، كما انتشرت على يد رئيف باشا عقوبات وحشية مثل قطع الآذان.

 

مع تصاعد الأحداث شرق المتوسط ظهرت تصريحات تركية تنمّ عن موروث استعلائي ونظرة شوفونية تجاه العرب

أمام كل تلك السياسات الهمجية أعلن غومة المحمودي الثورة على العثمانيين، ووقعت 28 معركة بينه وبين القوات التركية، انتصر فيها وكان من نتيجتها امتداد سلطان غومة، واستطاع خلالها أن يستولي على الكثير من أسلحة وذخائر الأتراك، تفاقم الأمر فعُزل رئيف باشا وعُيّن مكانه طاهر باشا، الذي خبر قوة غومة فعمد إلى الخديعة، وتظاهر بالاستجابة لمطالب الأهالي وعيّن غومة مسؤولاً عن منطقة غريان، وتعهّد بخفض الضرائب وإعادة العرب إلى وظائفهم.

وكعادة الأتراك العثمانيين، غدروا به، فنصبوا كميناً له بقيادة أحمد باشا القائد العسكري، لكن غومة استطاع الفرار إلى ترهونة ومنها إلى الصحراء، وعاد أحمد باشا بسبعين شيخاً من أنصار غومة، وعلق رؤوسهم في ميدان قرب سراي الحاكم بطرابلس، ثم ما لبث أن أوقع بالقائد الثائر الليبي عبد الجليل سيف النصر في الجنوب، وقتله، وطاف برأسه على طبق من فضة في شوارع طرابلس، فلقبه الشعب بأحمد باشا السفاح.

اقرأ أيضاً: هكذا استقبلت تركيا قرار البرلمان المصري حول ليبيا

تمّ عزل عشقر باشا فقد تسبب في اشتعال الثورة ضد العثمانيين أكثر، وتمّ تعيين والٍ جديد أعلن أنه يؤمّن قادة الثورة على أنفسهم ويدعو غومة المحمودي إلى أن يكون مستشاره في الحكم، وأن يتولى هو جمع الضرائب برفقة من الليبيين، صدّق غومة وعود الأتراك فغدر به أحمد باشا الجزار وألقى القبض عليه مع عدد من أصحابه، وأرسلهم في بطن إحدى السفن معتقلين إلى إسطنبول، حيث ألقي بهم في السجن بمدينة طرابزون العام 1842.

أثار هذا الغدر غضب الشعب وانتشرت الثورة كالنار في الهشيم، فقاد أحمد باشا السفاح حملة ضارية ضد المواطنين العُزّل، وثبّت مدافعه على المآذن لقصف بيوت الثائرين، وقام بمذبحة كبيرة في حقهم فيما يُعرف بمعركة الطاحونة.

أمّا الشيخ غومة نفسه، فقد استمرّ في المنفى العثماني من العام 1843، وحتى 1854، وحاول خلال تلك الفترة التواصل مع السلطان عبد المجيد الأول، وإيضاح حقيقة السياسات العثمانية في ليبيا، والتي تتسبب في استمرار الثورة ضد إسطنبول. وتُعدّ رسالة غومة إلى السلطان وثيقة تاريخية تلخص الأوضاع في ليبيا تحت الاحتلال العثماني، وتفسر الأسباب التي أدّت إلى إصرار المحاميد على الثورة دون هوادة.

اقرأ أيضاً: تركيا تستمر في خرق حظر التسليح في ليبيا.. هذه أبرز أسلحتها

في العام 1853 تمكّن المحمودي من الهرب من طرابزون، ووزّع الباب العالي أوصاف المحمودي على كلّ منافذ الدولة العثمانية للقبض عليه، فظلّ الشيخ متنقلاً بين البلاد الأوروبية لمدة عامين، ثم نجح في التسلل إلى ليبيا أخيراً، وقاد معركة ضارية بنفسه ضد القوات العثمانية، انتصر فيها انتصاراً كاسحاً، واستولى على كلّ الأوراق والوثائق والأموال التي كانت بصحبة عدوّه.

استمرّ غومة هذه المرّة في الحرب حتى شارف على طرابلس نفسها، وقد ردّت إسطنبول بعزل الوالي مصطفى نوري، وتعيين عثمان باشا بدلاً منه، وقام الباشا الجديد بتسيير قوات متفوّقة في العدد والعتاد تمكّنت من تحقيق النصر على المحاميد وقائدهم.

وبالقرب من المكان المعروف بـ"خشم غومة" في وادي أوال، قامت قوات تركية يقودها لواء يُدعى مصطفى صدقي بتطويق غومة المحمودي ورفاقه، ثم أمطرهم بالرصاص يوم 26 آذار (مارس) 1858، وقد قام العثمانيون بقطع رأسه وإرساله إلى طرابلس، حيث طيف به في شبكة فوق جمل عبر ضواحي المدينة، ولم يُدفن رأس الشيخ مع جسده بطريقة لائقة، سوى بعد يومين عندما نجح بعض رفاقه من الثائرين في الحصول على جسده من الأتراك.

هذا هو الميراث التركي في ليبيا، وهذا ما تركوه: "الظلم والقهر والاستعباد"، أمّا ثمن الحرّية، فقد كان دماء وحياة الأحرار الثوار.



انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات

آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية