أكذوبة الحرب الصليبية ضد العثمانيين

أكذوبة الحرب الصليبية ضد العثمانيين


15/03/2020

وليد فكري

"يكفي الدولة العلية العثمانية -أعادها الله- فخرًا أنها كانت تحارب أوروبا الصليبية دفاعًا عن الإسلام والمسلمين".

هكذا يقول المدافع الهستيري عن العثمانيين، المتعصب لهم، ويصمت، وقوله يكشف جهله بالتاريخ، وأنه يردد عبارات يحفظها من دون فهم.

فما لُقِنَ إياه هو أن العالم -آنذاك- كان منقسمًا لكتلتين كلتاهما موحدة وتحارب الأخرى: إسلامية على رأسها السلطان العثماني ومسيحية -"صليبية"على حد قوله- يقودها البابا وملوك أوروبا، وتحارب المسلمين فقط لأنهم مسلمون.

وهي صورة شديدة السذاجة والسطحية، سواء لوقائع تلك الحقبة أو للتاريخ بشكل عام.

مفهوم الحرب الصليبية

عندما أطلق البابا أوربان الثاني نداء "الحرب المسيحية لتحرير الأرض المقدسة من الكفار" -يقصد "المسلمين"- في مجمع كليرمونت سنة 1095، كانت وراء ندائه الديني أغراض دنيوية مهمة.

فمن ناحية كان يطمع في أن تقوم الجيوش الأوروبية المتجهة لغزو الشرق بفرض توحيد الكنيستين الشرقية والغربية، حيث كانت الكنيسة البيزنطية الروم أرثذوكسية منشقة عن قرينتها الكاثوليكية الرومانية.

من ناحية أخرى، كانت البابوية تعاني صراع السلطة، مع كبار ملوك وأباطرة أوروبا، فكانت فكرة "الدعوة للحرب المقدسة" ذريعة لتفريغ أوروبا من مراكز القوى تلك، وانفراد البابا بالسلطة فيها (ولهذا لم ينظر بعين الرضا للحملة الشعبية، حيث كان يريد أن يلبي نداءه الملوك أنفسهم، وليس العوام وصغار الإقطاعيين).

من ناحية أخرى، كان البابا ينظر بعين السخط، لصراعات الملوك والأمراء وعجز البابوية -رغم التدابير التي اتخذتها الكنيسة للحد من ذلك- عن إيقافها، فكان من الحلول المتاحة، حالة حرب خارج أوروبا المسيحية، لتفريغ طاقة هؤلاء المشاغبين.

وقادة الحملة الأولى، إما أمير إقطاعي مفلس، يطمع في الإثراء من الحرب، أو فارس مغامر يريد أن يؤسس مملكة أو إمارة شرقية يعلو بها اسمه، أو ابن لإقطاعي انفرد أخوه الأكبر بالميراث -حسب القوانين آنذاك- فهو يريد أن يكون لنفسه إقطاعية تعوضه عما فاته.

والجمهوريات الإيطالية -كجنوة والبندقية وغيرهما- التي ساهمت في نقل الغزاة بحرًا، كان الأمر بالنسبة لها مجرد "تجارة" فكانوا يعقدون اتفاقًا معهم أن ينقلوهم للمدينة المراد غزوها،  مقابل حصول الإيطاليين، على مناطق أسواق حرة لهم في تلك المدن كمقابل لخدمة النقل.. وكانوا يرددون بصراحة شديدة "نحن تجار ثم مسيحيون" إذا لامهم البابا على استمرار تعاملهم التجاري مع المسلمين (إلى حد تزويد المسلمين ببعض السلع المساعدة في صنع السلاح!).

أي أن هذا النداء الذي يحمل صفة الدين، يخفي في حقيقته أطماعا ودوافع مادية دنيوية.

قد ينطبق الدافع المعنوي على مستوى بعض الأفراد المشاركين في الحملات، كمن كانوا يؤمنون بقرب القيامة، ويطمعون في أن تقوم عليهم وهم في الأرض المقدسة، أو من كانوا يطمعون في التكفير بالجهاد المقدس عن خطاياهم.. لكن على مستوى القادة وصناع السياسة، كان المحرك هو عملات الذهب وخيرات الأراضي وثروات البلاد الشرقية... ولم تكن الصبغة الدينية للحرب عندهم سوى "أداة معنوية" للتأثير في مشاعر البسطاء من عوام الناس، وإضفاء الشرعية على العدوان على المسلمين والعرب.

والدليل الأكبر على زيف الصبغة الدينية المذكورة، هو أن الغزاة الفرنجة أنفسهم، تحاربوا وتناحروا على المكاسب الدنيوية في الشرق، من إمارات وغنائم وقلاع، إلى حد تبادل المؤامرات والاغتيالات، بل وتحالف بعضهم مع المسلمين، كما أنهم خلال مرور حملاتهم بالأراضي البيزنطية -التي يفترض أنها تمثل حليفا مسيحيا- كانوا يرتكبون جرائم السلب والنهب والتدمير بحق الأهالي المسيحيين، إلى حد أن إحدى الحملات "الصليبية" بدلت وجهتها من المشرق الإسلامي إلى القسطنطينية، فاحتلتها وأقامت فيها حكمًا كاثوليكيًا!.

وحتى صفة "الصليبية" لم تلحق كصفة لتلك الحملات، إلا في وقت لاحق للحملة الأولى، ولمجرد أن بعض المتحمسين خلال المجامع البابوية للدعوة للحرب، كانوا يمزقون عباءاتهم ويقطعون منها أشكالًا على هيئات الصلبان، يوزعونها على من قرروا التوجه للحرب ليخيطوها على ثيابهم.. حتى أن بعض المؤرخين الثقات يقولون إن مصطلح "صليبية" هو مما يوصف بأنه "خطأ شاع حتى استحال تعديله" فهو يُستَخدَم فقط من منطلق أنه "دارج" و"شائع".

هذه الحقيقة أدركها المؤرخون المسلمون المعاصرون لتلك الحملات، التي عاصرتها الدول العباسية والفاطمية والسلجوقية والزنكية والأيوبية ووضعت الدولة المملوكية نهايتها، فلم نجد أحدهم يذكر الغزاة بأنهم "صليبيون" أو حتى يتناولهم من ناحية الدين، بل كانوا يوصفون بالإفرنج لتمتع المسلمين آنذاك بالوعي الكافي، لكشف ما وراء الدعاية الدينية، وإدراك أن هؤلاء المعتدين إنما تحركهم المادة لا الدين.. أي أن العرب والمسلمين آنذاك، كانوا أكثر نضجًا في فهم الدوافع العملية للحروب.

الحقيقة وراء الحروب الصليبية المزعومة ضد العثمانيين:

بإستيلاء السلطان محمد الثاني (الفاتح) على القسطنطينية، أصبح العثمانيون في مواجهة مباشرة مع أوروبا، من خلال الولايات العثمانية الأوروبية (الرومللي).

وبعد فترة التوسع الشرقي لسليم الأول ضد جيرانه العرب والمسلمين، عاد العثمانيون يولون وجههم نحو أوروبا.

كان يمكن أن تقتصر المواجهة العثمانية على الممالك الأوروبية الشرقية، لولا وقوع تغيُر سياسي في ملكيات أوروبا.

فآل هابسبورج -ذو الأصول الجرمانية- اتسع نفوذهم بفضل سلسلة من الزيجات والمصاهرات السياسية، حتى تلفت كارل الخامس -ملك إسبانيا- فوجد نفسه حاكمًا على إسبانيا وألمانيا والنمسا والمجر وهولندا وأجزاء من إيطاليا وفرنسا، وتُوِج "إمبراطورًا للإمبراطورية الرومانية المقدسة" (عرفته بعض المصادر باسم كارلوس أو شارل أو شارلكان).

ولأن خطوط تماس نفوذ آل هابسبورج مع آل عثمان، كانت في المجر والنمسا من ناحية، والبحر المتوسط من ناحية أخرى، فكان الصدام بين العملاقين حتميًا.

إذن الحرب كانت لأسباب مادية بحتة، أضفى عليها كل طرف شعار دينه، فادعى الهابسبورج أنها "حرب لنصرة المسيحية على الكفار" وأشاع العثمانيون أنها "جهاد ضد الكفار أعداء الإسلام" بينما هي في حقيقتها، حرب على مواقع استراتيجية ومناطق ثروات، استغل كل طرف فيها دعايته الدينية، لتدعيم سلطته على رعيته.

والدليل على أن تقسيمة "مجاهد مسلم عثماني" ضد "صليبي مسيحي أوروبي" أكذوبة، أن هابسبورج قد هاجموا آل فالوا ملوك فرنسا، الذين هرعوا للعثمانيين يطلبون مساعدتهم، وبالفعل كان العثمانيون رعاة للفرنسيين وحلفاء لهم، إلى حد خروج حملات بحرية عثمانية فرنسية مشتركة ضد آل هابسبورج وحلفائهم، بل وزاد العثمانيون فبدأ سلطانهم سليمان المعروف بالقانوني، بدعة "الامتيازات الأجنبية" فمنح الفرنسيين امتيازات اقتصادية وسياسية وقضائية في بلاده، كانت بداية لفتح باب التدخل الأجنبي، ثم الاستعمار من بعده (واللغز الذي يحير بعض المؤرخين الأتراك أنفسهم أنه لم يكن مضطرًا لذلك)...!

هذا إضافة لحقيقة تاريخية هي أن فكرة "الحرب الصليبية" نفسها كانت قد اضمحلت، وما كانت نداءات بعض البابوات الكاثوليك -آنذاك- بإرسال حملة صليبية وجمع الأموال لذلك، إلا محاولات بائسة من هؤلاء لإحياء السلطة البابوية، وإظهار أنها ما زالت موجودة بعد كل الضربات التي وجهها الحكام المسيحيون الدنيويون لسلطة باباوات روما، الذين كانوا يحاولون فرض سطوتهم على الديني والدنيوي...!

الدعاية العثمانية:

وقد يسأل البعض هنا: وما الفرق الذي يحققه المسمى؟ أليست حربًا وأمرًا واقعًا في كل الأحوال؟

والإجابة..

لكأنما يأبى العثمانيون إلا أن يمثلوا رِدة للعقل في التعامل مع كل أزمة، فلم يلتزموا العقلانية في تقديم قضيتهم للرعية -كأسلافهم- باعتبار أن هذه الحرب إما دفاعية لتعرض الدولة لعُدوان أو هجومية استباقية لهذا العُدوان المذكور أو أنها حتى "حرب توسعية" باعتبار أن هذا الأمر كان مفهومًا ومقبولًا في ذلك العصر، وإنما قدموا التفسير الديني القائم على فكرة "الآخر شيطان يكرهنا ويحاربنا لا لشيء سوى أننا نحن".. وهي فكرة خبيثة لأنها تقوم العامي البسيط -خاصة في زمن عز فيه التعليم- لأن يفكر بأن "ما دام هؤلاء الأشرار يحاربون السلطان بغضًا في المسلمين، فلا بد إذن أن السلطان ورجاله هم رموز الإسلام وهم من يمثلونه، وكل من يخالفهم بالضرورة عدو للإسلام والمسلمين".. لم تعد إذن الحرب حرب أطماع عثمانية وأوروبية، بل هي حرب دينية يمثل فيها السلطان الإسلام...!.

باختصار، كانت هذه الدعاية تدعم فكرة أراد السلاطين العثمانيون تقديمها لرعيتهم هي "أنا الإسلام والإسلام أنا" ودعونا نعترف بأنهم نجحوا في ذلك، بدليل أن بعد ما يقرب من قرن من سقوط دولتهم، ما زال بيننا من إذا انتقدت العثمانيون سارعوا لاتهامك في دينك بغير تردد...!.

فضلًا عن أن الترويج لفكرة "الحرب الصليبية ضدنا" مثلت بعد ذلك للعثماني "شمّاعة" يعلق عليها أي فشل أو هزيمة.. فالإجابة الجاهزة لكل فشل أو انبطاح عثماني هو "لسنا المسئولين لكنه المتآمر الصليبي"...!.

وهو أمر يقودنا إلى سؤال مهم: كيف ولماذا قدم السلاطين العثمانيون أنفسهم باعتبارهم "وكلاء الإسلام" في الأرض؟!.

عن "سكاي نيوز عربية"



انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات

آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية