كيف ينظر الحرس الثوري الإيراني إلى أربيل؟

كيف ينظر الحرس الثوري الإيراني إلى أربيل؟


11/05/2022

دياري صالح

تركز هذه الورقة على أبرز الملفات "الحالية" التي تؤثر في الرؤية الإيرانية تجاه حكومة إقليم كردستان، والحزب الديمقراطي الكردستاني (المعروف بالبارتي) في أربيل. وتأتي أهمية الموضوع في سياق التوتر المتصاعد في علاقة الطرفين، والذي وصل إلى مراحل حرجة بعد القصف الصاروخي الإيراني لمواقع داخل أربيل.

تُناقش الورقة تحركات الحرس الثوري تجاه ملفات أساسية في علاقات الطرفين، أهمها: فرضية وجود تهديد يطلقه الموساد الإسرائيلي من أربيل، وإمكانية تحوّل إقليم كردستان إلى مُصدِّر مهم للغاز الطبيعي، والدور الذي تمارسه أربيل في التحالفات العراقية ما بعد الانتخابات عبر اصطفافها مع المحور الذي ترى فيه إيران تهديداً لمصالحها وحلفائها، كذلك البحث في رؤية الحرس الثوري الإيراني تجاه فكرة استضافة أربيل للمصالح الأجنبية، وتحولها إلى ملاذ آمن للمعارضة الكردية-الإيرانية.

توتر العلاقات بين طهران وأربيل 

كانت العلاقة بين طهران والقوى الكردية قد بنيت بشكل أساسي في زمن الجمهورية الاسلامية وخلال الحرب العراقية-الإيرانية، وفي فترة اضطراب الأوضاع الكردية مع نظام صدام حسين خلال الثمانينيات، وما بعد خروج منطقة كردستان عن سيطرة بغداد في الفترة بين 1990 و2003. لم يكن ذلك بالمحصلة يجري بعيداً عن تحقيق فائدة لإيران التي كانت راغبة في إزاحة نظام البعث، وتحشيد قوى المعارضة العراقية، وبشكل خاص الشيعية والكردية، لتشكيل نظام بديل غير مُعادٍ لطهران في العراق. 

 لكن السنوات الأخيرة، شهدت تدهوراً في علاقة الطرفين، خصوصاً إثر معارضة طهران لاستفتاء انفصال إقليم كردستان عن العراق الذي نظَّمه رئيس الإقليم السابق وزعيم الحزب الديمقراطي الكردستاني (البارتي)، مسعود بارزاني، في عام 2017، بينما دعمته إسرائيل بشكل غير رسمي. ولعب الحرس الثوري الإيراني، تحديداً عبر القيادة الحاسمة والنفوذ الواسع لرئيس فيلق القدس السابق، قاسم سليماني، درواً أساسياً في فرض سيطرة القوات العراقية وفصائل "الحشد الشعبي" على كركوك ومعظم المناطق المتنازع عليها كعقابٍ لأربيل. 

ويمكن تحديد خمسة ملفات رئيسة أسهمت في تعزيز حالة الشك والتوتر بين "الحرس الثوري الإيراني" وأربيل، وصولاً إلى قيام الحرس في 12 مارس 2022، بتوجيه ضربة صاروخية عنيفة لأحد المراكز المدنية في أربيل. 

1. علاقة إقليم كردستان مع إسرائيل 

سوَّغ الحرس الثوري هجومه على أربيل بأنه استهدف موقعاً يوجد فيه عناصر من الموساد الإسرائيلي، انتقاماً لهجمات مفترضة قام الموساد بها انطلاقاً من كردستان العراق، بحسب وسائل إعلام مقربة من طهران.[1] وبشكل خاص، فإن الرواية الأبرز شدّدت على أن الهجوم كان رداً على عملية قامت بها طائرات مسيرة إسرائيلية انطلقت من أربيل لتستهدف قاعدة عسكرية إيرانية في مدينة كرمنشاه.[2] وتبع ذلك تحذير المتحدث باسم الحرس الثوري بإنه إذا "لم تقم السلطات العراقية بالعمل على إزالة القواعد التابعة للموساد في هذا البلد الذي بات فيه إقليم كردستان يتحول إلى منصة لتهديد أمننا الداخلي، فإننا سوف نرد على هذا التهديد، ومن دون تردد".[3] 

كانت تلك المرة الثانية التي يتبنى فيها الحرس الثوري هجوماً على أربيل بعد الضربة التي قام بها في عام 2020 انتقاماً لمقتل سليماني، وطالت قاعدة حرير في أربيل التي توجد فيها قوات أمريكية، وتم التعاطي معها باعتبارها تصعيداً محسوباً يتعلق بحاجة إيران للبرهنة على أنها قامت بالرد على عملية اغتيال رئيس فيلق القدس السابق. وفي الفترة الماضية، قام وكلاء إيران في العراق بهجمات متكررة لضرب مواقع مختلفة في كردستان. وفي كل مرة تلجأ هذه الفصائل إلى نفي ضلوعها في تلك الهجمات، مع تأكيدها على ان أربيل صارت تشكل خطراً بسبب علاقتها مع للموساد و"أعداء العراق".[4] 

يرى الحرس الثوري أن ابتعاد أربيل سياسياً عن إيران قد أسهم في إنتاج معادلات مهددة لمصالحه. فعلى النقيض من "الاتحاد الوطني الكردستاني" في السليمانية، تحرك (البارتي) منذ عقود باتجاه أطراف تعدها طهران عدوة أو منافسة، وبشكل خاص الولايات المتحدة وإسرائيل وتركيا. ورغم أنه لا توجد علاقة رسمية بين أربيل وإسرائيل، إلّا أن وجود علاقات غير رسمية وشبه رسمية، وخصوصاً في مجال الاستخبارات والدعم الأمني والأعمال، ليس مفاجئاً، حيث تمتد روابط "البارتي" بإسرائيل إلى زمن الملا مصطفى البارزاني، الزعيم التاريخي للحزب، كما أن التغلغل الإسرائيلي يعود إلى مطلع التسعينيات، بعد إقامة المنطقة الآمنة فوق خط عرض 36 في ما صار يعرف بإقليم كردستان العراق، وغالباً عبر منظمات إغاثة ومنظمات غير حكومية. 

وقد تزايد هذا النفوذ إثر الاحتلال الأمريكي للعراق، وبعد أن اصبحت كردستان مفتوحة أمام الوجود الغربي، وسعت أربيل إلى طرح نفسها باعتبارها الحليف الأقرب للغرب في العراق. ولا تظهر إسرائيل بوصفها عدواً أو مصدر تهديد في خطاب "البارتي"، بل على العكس، يميل بعض السياسيين والمثقفين الكرد إلى النظر اليها باعتبارها نموذجاً لدولة قامت وحافظت على استقرارها وسيادتها رغم العداء الإقليمي لها. 

2. أربيل بوصفها منافساً محتملاً في قطاع الغاز الطبيعي

  ربط بعض التقارير بين عمليات الاستهداف الإيرانية الأخيرة لأربيل والحديث عن حوارات تجريها الأخيرة للمساهمة في تصدير الغاز الطبيعي -برعاية إسرائيلية- إلى تركيا ومنها إلى الاتحاد الاوروبي. وقد أشارت التقارير أيضاً إلى وجود نية لمد خط أنابيب عبر محافظة دهوك، ليلتقي بخط آخر انتهت الشركات التركية فعلياً من إنجازه ويقع على مقربة من الحدود العراقية.[5] ولعل ذلك يفسر نوعاً ما التأكيدات التي أطلقها رئيس وزراء إقليم كردستان (مسرور البارزاني) في منتدى الطاقة العالمي الذي انعقد مؤخراً في الامارات والتي أكّد فيها "أن إقليم كردستان سيبدأ بتصدير الغاز الطبيعي إلى أوروبا قريباً".[6]

يُشير بعض التقديرات إلى أن إقليم كردستان يمتلك احتياطيات مهمة من الغاز الطبيعي تصل إلى 25 تريليون قدم مكعب، وإن نجحت تركيا في توفير الاستثمارات اللازمة لاستخراج هذا الغاز  وإيصاله إلى الأسواق، فإن ذلك سيسمح لإقليم كردستان بأن يتحول إلى منافس مستقبلي مهم لإيران وروسيا، وخاصة في ملف تصدير هذا الغاز إلى تركيا.[7] ناهيك عن أن إقليم كردستان يمكن أن يلعب دوراً مؤثراً في تخفيف الضغط على الحكومة في بغداد بفعل اعتمادها بشكل كبير على استيراد الغاز الطبيعي من إيران لتجهيز محطات الطاقة الكهربائية، وهو ما سيُشكِّل ضربة مضافة لإيران.

 في هذا السياق، يبدو أن إيران كانت منذ فترة ليست بالبعيدة تراقب الحراك الذي كان يجري في أربيل، والذي تزامن مع رغبة الاتحاد الأوروبي وتركيا في إيجاد بديل عن الغاز الروسي. وأرادت تركيا أن تقدم نفسها شريكاً مهماً في إمكانية تحقيق هذا المسعى، لذلك كان أمام أنقرة خيارات أخرى بديلة من بينها الاستفادة من غاز إقليم كردستان وموقعه الجغرافي من تركيا لإيصال الغاز إلى أوروبا.[8] وهو ما أخذ بحسب هذه الرؤية يشكل محوراً مهماً في الحوارات الأخيرة بين تركيا وحكومة الإقليم. سيؤدي مثل هذا السيناريو إلى زيادة الثقل الجيوسياسي لأربيل، كما سيفقد طهران العديد من المكاسب في أسواق الغاز الطبيعي

وعلى الرغم من أن أنقرة لم توضح بشكل جلي ما إذا كانت الاتفاقيات التي ترغب بعقدها في مجال الغاز الطبيعي ستتم مع إقليم كردستان فقط، فإن الرئيس التركي أشار إلى أن بلاده ترغب في استثمار علاقاتها مع نيجيرفان البارزاني لتوسيع نمط تلك الاتفاقيات لتشمل بقية العراق.[9] ويبدو أن أنقرة تفهم جيداً طبيعة التعقيدات الجيوسياسية التي تترتب على اعتمادها الأحادي الجانب على أربيل، وهي تُدرك جيداً بأن مثل هذه الخطوة قد تكون منافعها محدودة، وقد تؤثر على المصالح التركية مع بقية العراق. 

كذلك، هناك العديد من العقبات التي تحُول حتى الآن دون تحويل هذا المشروع إلى حقيقة على أرض الواقع. فالمحكمة الاتحادية في العراق أصدرت قراراً بعدم دستورية عقود بيع نفط وغاز إقليم كردستان التي وقعت خلال السنوات الماضية، وبما يجعل من الصعب على الإقليم المضي بوضع استراتيجية في قطاع الغاز يمعزل عن بغداد (ونفوذ حلفاء طهران فيها). بالإضافة إلى ذلك، هناك عقبات مالية وجيوسياسية أخرى مهمة، فضلاً عن الفساد المتفشي وغياب الشفافية وهيمنة عائلة البارزاني على هذا سياسات الطاقة بما يثير اعتراضات المعارضة الكردية. كذلك، فإن لشركة "روسنفت" الروسية نفوذ واسع على قطاع الطاقة في كردستان، وهي أكبر الشركات الأجنبية الناشطة في الإقليم، الأمر الذي قد يسهل على روسيا إعاقة تطوير إنتاج الغاز في الإقليم إن كان القصد منه المساهمة في تعويض الغاز الروسي في حالة توقف أوروبا عن استيراده. وأخيراً، لا تزال أربيل حتى اليوم محاصرة من قبل أطراق حليفة أو صديقة لطهران، مثل "الاتحاد الوطني الكردستاني" شرقاً، والفصائل الولائية جنوباً، و"حزب العمال الكردستاني" غرباً وجنوباً. والأخير قادر على تهديد الانبوب المقترح، خصوصاً أنه يمثل الآن رمزية مهمة في سياق العداء بين هذا الحزب وكل من أنقرة وأربيل. 

 ويبدو من سياق تطور الأحداث أن شركة كار الكردية، المسؤولة بشكل كبير عن قطاع الطاقة في إقليم كردستان والجهة التي يفترض أنها الراعي لفكرة مد خطوط أنابيب الغاز الطبيعي داخل مدن الإقليم وصولاً إلى الحدود مع تركيا، قد تحولت إلى هدف جديد تطاله الصواريخ من إيران وحلفائها في الداخل العراقي. حيث أشار أحد التقارير إلى أن استهداف القصر العائد لباز رؤوف البرزنجي، مالك شركة كار، في أربيل قد حصل بسبب تحوله إلى مكان تجري فيه اللقاءات التشاورية حول مشروع نقل الغاز الطبيعي وبحضور إسرائيلي.[10] كما تعرَّضت مصافي هذه الشركة بتاريخ 6 أبريل إلى هجوم بثلاثة صواريخ انطلقت من مناطق مجاورة لمحافظة أربيل.[11]

3. أربيل باعتبارها "عُقدة" لحلفاء طهران 

أفرزت الانتخابات البرلمانية الأخيرة التي جرت في العراق بتاريخ أكتوبر 2021 نوعاً من الانقسام السياسي الشيعي الحاد. فقد تصدَّرت الكتلة الصدرية نتائج الانتخابات بـ 73 مقعداً، في مقابل حصول ائتلاف دولة القانون -الغريم التقليدي للتيار في الجغرافيا الشيعية- على 33 مقعداً. وقد شكل تراجع مقاعد تحالف "الفتح"، الذي يضم الفصائل المسلحة المقربة من "الحرس الثوري الإيراني"، من 48 مقعداً في الانتخابات السابقة إلى 17 مقعداً في الانتخابات الاخيرة، واحداً من بين أهم مفاجآت الانتخابات[12].

 بعدها، برزت ملامح التعقيد في مسار تشكيل الائتلافات الكبرى التي بإمكانها التحكم بآلية الترشيح وتمرير الرئاسات الثلاث (البرلمان، والجمهورية، والوزراء). فقد أعلن مقتدى الصدر أنَّه ماض في تشكيل حكومة أغلبية وطنية تشمل الأحزاب الفائزة بأعلى الأصوات من الشيعة والسنة والكرد. لذلك تشكل تحالف "انقاذ وطن"، الذي يضم حوالي 170 نائباً من أصل 329 نائباً، من التيار الصدري، تحالف السيادة، و"البارتي"، في مواجهة تحالف يجمع قوى "الاطار التنسيقي" مع "الاتحاد الوطني الكردستاني" وتحالف "العزم" السني، ليؤلف ما يسمى بالثلث البرلماني المعطل. بعدها أخذت العلاقات بين هذه الأطراف بالاتجاه نحو مسارات معقدة بما فيها استخدام العديد من المكائد للإطاحة برغبات التيار الصدري في تشكيل ملامح المرحلة المقبلة.

 تنظر إيران وحلفاؤها العراقيين بعين الريبة إلى التحالف الذي شكّله الصدر، وخاصة أنه يضم أطرافاً تجمعها مواقف علنية مناوئة للفصائل الولائية ونفوذها في الدولة العراقية، لذلك ترى طهران في تمكن هذا التحالف من تشكيل الحكومة المقبلة خطراً على مصالحها، وعلى مستقبل الدور السياسي الذي تقوم به قوى "الإطار التنسيقي". وقد صعَّدت الفصائل المقربة من طهران من استهدافاتها لمصالح "البارتي" في بغداد، كما هو الحال مع استهداف بنك جيهان وبنك كردستان[13]، فضلاً عن إحراق مقر هذا الحزب في منطقة الكرادة، ليأتي بعدها تصعيد إعلامي يركز على موضوع بيع نفط الإقليم إلى إسرائيل. ويعكس ذلك سياسة ممنهجة تهدف إلى تقويض مصادر الدخل في أربيل، كما تهدف إلى عزلها عن سوق تجارة النفط وحرمانها من بيع النفط إلى التجار، الذين يقومون بدورهم ببيعه إلى جهات مختلفة. 

يُدرك الصدر جيداً أن طهران تراهن كثيراً على ممارسة الضغوطات لتركيع أربيل وإجبارها على الانسحاب من التحالف معه، وأن تصعيد الهجمات الأخيرة يهدف إلى ارسال رسائل تهديد لبقية أطراف تحالف "انقاذ وطن". كذلك يدرك الصدر بأن عملية ترسيخ فكرة العلاقة بين أربيل وإسرائيل في المخيال العراقي يراد من ورائها عزل "البارتي" عن الفضاء السياسي-الاجتماعي خارج إقليم كردستان، وإلْحاق تهمة قبول التطبيع بالتيار الصدري في حال أصّر على التحالف مع "البارتي". لعل ذلك التوجه، وما يثيره من هواجس، هو الذي يسهم إلى حد ما في تفسير الرسائل المبطنة التي كان يؤكد عليها الصدر في بياناته الأخيرة، من قبيل تركيزه على رفض "التطبيع" إلى جانب رفض "التبعية"، وقوله إن "أصوات الوحوش الكاسرة التي لا تعي غير التهديد ... مرة أخرى يهددون الحلفاء والشركاء في حكومة الأغلبية الوطنية".[14]

إن العزف على نغمة الوجود الإسرائيلي في كردستان حالياً، هدفه إحراج أربيل تمهيداً لإخراجها من جبهة الصدر، أو إحراج الصدر كي يتخلى عن التحالف مع "البارتي". كما أن الضربات المتكررة والمحسوبة لأربيل تستهدف مقايضة مواقفها السياسية مع إيران من خلال معادلة "الانسحاب من تحالف الصدر في مقابل الأمن". 

 كذلك، بدا للوهلة الأولى بعد الهجوم الإيراني بعضاً من ملامح خيبة الأمل في أربيل حيال خطاب زعيم التيار الصدري،[15] حيث تلمح أربيل إلى حجم التكلفة التي بدأ "البارتي" يدفعها دون أن يوفر التيار الصدري أي أدوات مناسبة لإجبار طهران على عدم تكرار مثل هذا العمل. وتنظر إيران وحلفاؤها لهذا الأمر على أنه يشكل نجاحاً مرحلياً في خلق نوع من الشعور بعدم الاطمئنان في منظومة التحالف الكردي-الصدري، وهو ما يمكن أن يقود لاحقاً إلى إنتاج شكوك حول قدرة الصدريين على حماية شركائهم في أربيل. وهو مشهد يبعث برسالة سلبية إلى الطرف السياسي السُّني، الذي لا يزال بعد يشعر بأن حلفاء إيران يمكنهم أن يضيقوا الخناق على عناصره في بغداد والمدن الأخرى -السُّنية- الواقعة بالأساس تحت سيطرة الفصائل الولائية.

4. أربيل والمعارضة الكردية-الإيرانية

عادة ما يعمل الحرس الثوري الإيراني على استهداف المناطق الحدودية المجاورة لإيران مع محافظة أربيل عن طريق استخدام المسيرات والصواريخ لضرب المعارضة الكردية الإيرانية التي توجد هناك، وتحديداً في قضاء جومان وناحية سيدكان[16]

وتعتقد طهران بأن وجود الحزب الديمقراطي الكردستاني-الإيراني في تلك الأجزاء يشكل تهديداً أمنياً، من حيث تسهيله نشاطات الحزب المعادية للحكومة في طهران. وأكدت وزارة الخارجية الإيرانية في 4 أكتوبر 2021 أنها لن تقف مكتوفة الأيدي حيال الأدوار التي تقوم بها الجماعات "الإرهابية" الكردية-الإيرانية الموجودة في أربيل، وحذَّرت كل من بغداد وأربيل بأن العمليات الصاروخية التي تستهدف هذه الجماعات مستمرة، وربما تتوسع مستقبلاً. [17] 

وتؤكد طهران دائماً أن خصومها يعملون على استغلال المعارضة الإيرانية الكردية في شمال العراق لتوظيفها في عملية استهداف إيران، وهي الاتهامات التي توجه في الغالب إلى دول خليجية، وإسرائيل، والولايات المتحدة. في هذا السياق مثلاً ذكر الأمين العام السابق لمجلس تشخيص مصلحة النظام، محسن رضائي، في عام 2016 أن السعودية "قدّمت مساعدات لأحزاب معارضة إيرانية وفتحت قنصليتها مقرات لهذه المعارضة، وقد جرت العملية بمجملها في مدينة أربيل عاصمة إقليم كردستان... كما قامت السعودية ببناء مقرات لهذه الأحزاب قرب الحدود الإيرانية"[18]. وتصر طهران منذ سنوات على أن هنالك علاقة ما تجمع ما بين الموساد والمعارضة الكردية الإيرانية في شمال العراق.[19]

كما تتهم طهران أربيل بفتح أبوابها أيضًا أمام منظمة "مجاهدي خلق" الإيرانية المعارضة، التي عملت إيران مع حلفائها في الفصائل العراقية المسلحة على إخراجهم من العراق. حيث تؤكد طهران بأن هذه المنظمة أصبح لها حضور هناك عبر التستر وراء واجهات مزيفة لتمارس أعمالاً تهدد أمن وسلامة إيران من جهة، وتعمل على التواصل مع بعض الأطراف العراقية السُّنية برعاية أمريكية للدفع باتجاه تعزيز فكرة إنشاء الإقليم السُّني من جهة أخرى.[20] 

في حال رفض أربيل وبغداد للشروط التي يفرضها الحرس الثوري، فإن البديل الذي عادة ما تلوح به إيران هو مواصلة الضربات العسكرية، والتي قد تصل إلى مرحلة التوغل العسكري المحدود في أربيل مستقبلاً، متذرعة بوجود توغل تركي مماثل في دهوك ومناطق أخرى بحجة ملاحقة "حزب العمال الكردستاني". 

5. أربيل والقواعد الأجنبية

تؤكد طهران أن هناك قبولاً من أربيل بفكرة انتشار القواعد العسكرية التركية، وأيضاً بفكرة التوغل العسكري التركي في أجزاء كردستان-العراق. وتستدل على ذلك من خلال رغبة أنقرة بنشر المزيد من القواعد العسكرية في المنطقة التي تمتد على طول النطاق الجغرافي الذي تمثله مراكز جبال قنديل-كارا-سنجار، وهي خطوة قد يرى فيها الإيرانيون بمثابة هيمنة عسكرية على كردستان العراق بمساعدة أربيل.[21]

وفي هذا الاتجاه، حينما ذكر السفير الإيراني في بغداد، ايرج مسجدي، في مارس 2021، أن إيران لن تقبل بالتدخل العسكري التركي أو غيره في العراق، رَدَّ عليه فاتح يلدز، السفير التركي إلى العراق في حينها، بالقول "إن مسجدي هو آخر شخص يحق له أن يعطي دروساً لتركيا عن موضوع احترام سيادة العراق".[22] لقد أسهم هذا التجاذب في خلق أزمة دبلوماسية بين الطرفين، أنتجت مزيداً من الشكوك الإيرانية بسياسات أربيل وعلاقاتها الخارجية. تخشى طهران من أن يكون التعاون بين أربيل وأنقرة موجهاً نحو خلق مجال حيوي لتركيا يمتد من شمال سوريا حتى كردستان العراق. تحاول إيران هنا أن تؤكد لخصومها أنها قادرة على أن تضعهم في مواجهة مباشرة مع "الحشد الشعبي"، وأيضاً مع البرلمان العراقي الذي أقر بضرورة خروج جميع القواعد العسكرية الأجنبية من العراق، بما فيها التركية. 

 في نفس الوقت ترى طهران أن أربيل تقدم نفسها ملاذاً آمناً للقوات الأمريكية، الموجودة اليوم في قاعدة حرير، والتي كانت إحدى قاعدتين قصفهما الحرس الثوري انتقاماً لمقتل سليماني. وإيران تطالب بشكل مستمر بإغلاق هذه القاعدة العسكرية، وعدم السماح باستخدام مثل هذه المنشآت في تهديد أمنها القومي.[23] 

خلاصة واستنتاجات

على الرغم من أنه لا توجد حتى الآن أي أدلة حقيقية تُثبت أن أربيل سمحت فعلياً للموساد الإسرائيلي بشن هجمات ضد المصالح الإيرانية انطلاقاً من مدن كردستان العراق، فإن الحرس الثوري لا يزال مصمماً على النظر إلى أربيل باعتبارها حليفاً لإسرائيل، وهي تهمة كافية لجعل أربيل في مرمى الضربات الصاروخية المباشرة لإيران وحلفائها في الداخل العراقي. وتسعى طهران لإظهار قدرتها على تخريب هذا "التحالف"، وقطع الطريق أمام أي إمكانية لتطوره مستقبلاً.

ينظر الحرس الثوري إلى رغبة أربيل في التعاون مع تركيا لمد خطوط أنابيب تصدير الغاز الطبيعي على أنه خطر يهدد مكانة طهران في أسواق الطاقة؛ فهي من جهة ستخسر تركيا كمستورد مهم، كما أنها ستخسر العراق على المدى البعيد في حال استعاضة بغداد عن الغاز الإيراني بذلك الذي يوفره إقليم كردستان. وقد يفسر ذلك استهداف مقرات ومصافي شركة "كار" في الهجمات الأخيرة.

ترى طهران في توجه أربيل نحو مقاربات جديدة، تتماهى مع رغبات التيار الصدري، تهديداً لمصالحها التي عادة ما تركز على معادلات سياسية ثابتة أعطت فيها الأولوية لهيمنة حلفائها بمسمياتهم المختلفة على مجمل حكومات ما بعد 2003. لذلك فهي اليوم تعول على ممارسة الضغوط على أربيل لإجبارها على تغيير بوصلة توجهاتها، وللعمل على إضعاف جبهة التيار الصدري، أو على الأقل دفع مقتدى الصدر إلى القبول بصفقة تحفظ لحفاء إيران نفوذهم في الحكومة و"الحشد الشعبي".

على الرغم من أن المعارضة الإيرانية التي توجد في بعض مناطق أربيل لا تمثل حتى الآن تهديداً جدّياً للأمن القومي الإيراني، فإن الحرس الثوري يضغط على أربيل من أجل إخراج هذه المعارضة من مدن كردستان، ومن غير المستبعد أن يقوم بعملية اجتياح عسكري لبعض المناطق الحدودية التابعة لمحافظة أربيل بحجة تقويض مصادر تهديد الأمن الإيراني.

يقوم حلفاء طهران بشكل دوري باستهداف القنصلية الأمريكية، والقوات التركية الموجودة في معسكر بعشيقة. كما تطالب إيران باستمرار بتطبيق قرار برلماني-عراقي سابق يدعو إلى اخراج القوات الأجنبية من جميع الأراضي العراقية، بما فيها مدن إقليم كردستان. وهنالك تخوف من أن يقود الانسحاب الأمريكي إلى فراغ يستغله الحرس الثوري الإيراني وحلفاؤه العراقيين لتضييق الخناق أكثر على أربيل.

في ظل الوضع الجيوسياسي الحالي الذي تعيشه أربيل، وخصوصاً بعد الهجمات الصاروخية الإيرانية وتطويقها من جهتي الجنوب والغرب بقوات الحشد الولائي التي باتت على مقربة من مصادر الثقل السكاني والمنشآت المدنية والعسكرية المهمة في أربيل، أصبح لزاماً على الأخيرة أن تفكر جيداً بكيفية الخروج من مأزق الانخراط في لعبة تصفية الحسابات التي تجري بين إيران وخصومها.

لعل من حسنات التحول في المشهد الانتخابي الأخير في العراق هو عودة "الحزب الديمقراطي الكردستاني" إلى الانخراط مجدداً بشكل إيجابي في التفاعلات السياسية داخل بغداد، وطرْح خطاب جديد فيه مساحة واسعة من الوطنية واحترام الدستور. يفترض أن يتحول ذلك إلى قناعة في سلوك الحزب وحضوره داخل قبة البرلمان العراقي بدلاً من أن يكون تعبيراً عن إعادة تموضع مرحلية تمليها ضرورات المرحلة الحالية.

 

[1] مايكل نايتس، الضربات الإيرانية العابرة للحدود: نمط يبحث عن سياسة مناسبة، معهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى، 15 مارس 2022. t.ly/WeqW

[2] بعد الاستهداف الإيراني لأربيل بذريعة وجود مصالح إسرائيلية.. ما حقيقة علاقة أكراد العراق بتل أبيب؟، الجزيرة، 16مارس 2022. t.ly/QbWc

[3] Iran’s IRGC says will strike Israeli bases again if Iraqi Kurdistan officials fail to get rid of them, Press Tv, 18March 2022. t.ly/PwaA

[4] Three Israeli Spies Killed in Drone Attack on Mossad Base in Erbil, Fars News Agency, 30 June 2021. t.ly/n2Ri

[5] رجل أعمال عراقي ينفي مشاركته في محادثات ضمّت إسرائيل لتصدير الغاز لأوروبا، الجزيرة، 31 مارس 2022. t.ly/J7ED

[6] مسرور بارزاني: سنصدر الغاز الطبيعي إلى أوروبا قريبا، روداو، 28 مارس 2022. t.ly/NdSy

[7] Turkey seeks a ‘win-win’ natural gas supply deal with Iraq: Erdogan, Rudaw, 4 April 2022. t.ly/kWvQ

[8] إسماعيل باشا، هجوم أربيل.. رسالة إيرانية إلى تركيا، 23 مارس 2022. t.ly/xOQf

[9] Turkey seeks a ‘win-win’ natural gas supply deal with Iraq: Erdogan, op. cit.

[10] Ahmed Rasheed and Orhan Coskun, Exclusive: Iran struck Iraq target over gas talks involving Israel- officials, Reuters, 22 March 2022. t.ly/uxfD

[11] العراق.. سقوط 3 صواريخ قرب مصفاة نفط في أربيل، الجزيرة، 6 أبريل 2022. t.ly/2C3l

[12] نتائج الانتخابات العراقية النهائية تؤكد فوز الكتلة الصدرية، الجزيرة، 30 نوفمبر 2021. t.ly/dCgN

[13] هجمات بغداد: استبعاد مسؤولية داعش يصوب الاتهامات للمليشيات، العربي الجديد، 20 يناير 2022. t.ly/CEGC

[14] العراق: الصدر يقول إنه لن يرضخ للتهديد ويؤكد مضيه في مشروع حكومة الأغلبية، العربي الجديد، 18 فبراير 2022. t.ly/Mp5s

[15] أكراد العراق ينتقدون رده فعل الصدر الخجولة على صواريخ إيران، إيلاف، 7 مارس 2022. t.ly/yCVH

[16] الحرس الثوري يستهدف مواقع تابعه للمعارضة الإيرانية في كردستان العراق، روسيا اليوم، 9 سبتمبر 2021. t.ly/7RoE

[17] Wladimir van wilgenburg, Iran again warns opposition groups based in Kurdistan region, Kurdistan24, 4 October 2021. t.ly/gHSn

[18] إيران تهدد بتدخل عسكري في أربيل رداً على السعودية، شبكة راية الإعلامية، 20 يوليو 2016. t.ly/54dI

[19] Iftikhar Gilani, Israeli support for YPG/PKK reeks of 'Great Game', 18 October 2019. t.ly/dmB6

[20] وفد من مجاهدي خلق يجتمع في أربيل مع شيوخ عشائر سنية، أشرف نيوز، 24 أكتوبر 2020. t.ly/jML9

[21] Amberin Saman, Turkey to establish new military base in Iraqi Kurdistan, Al monitor, 30 April 2021. t.ly/8L9I

[22] Dorian Jones, Turkey Iran tensions rise as Ankara expanse operations in Iraq, VOA, 02 March 2021. t.ly/IV0YG

[23] Amberin Saman, Are Iranian threats to escalate in Iraqi Kurdistan more hot air? Al monitor, 22 September 2021.  t.ly/Vduv

عن "مركز الإمارات للسياسات"



انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات

آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية