تطورات عسكرية متسارعة على جبهة شمال شرق أوكرانيا في مناطق خاركيف ومحيطها، عنوانها تجاوز تحقيق اختراقات في صفوف القوات الروسية والقوات الانفصالية التابعة لها، بل واستعادة عشرات البلدات والمناطق، وانسحابات لأرتال الجيش الروسي وترك معدات وأسلحة ومخازن ذخيرة بالإضافة إلى آليات عسكرية متنوعة.
وفي الوقت الذي ما تزال فيه مصادر المعلومات محدودة وتقتصر على ما تعلنه القيادتان الروسية والأوكرانية، بالإضافة إلى مصادر استخباراتية وعسكرية بريطانية وأمريكية، فإنّ الرواية الأوكرانية تؤكد استعادة ما مساحته (6) آلاف كم مربع من الأراضي التي سيطر عليها الجيش الروسي منذ انطلاق الغزو في أواخر شباط (فبراير) الماضي، فيما الرواية الروسية ما تزال "خجولة" في تقديم تفسيرات تعتمد قاموساً عسكرياً مكرراً جوهره أنّ ما يجري مرتبط بخطط عسكرية ينفذها الجيش الروسي بإعادة انتشار قطاعاته!
بعيداً عن الآلة الإعلامية لكييف ومعها الإعلام الغربي المؤيد لها، وإعلام موسكو الذي يدير تعامله مع هذه الحرب بمقاربات الإعلام "السوفييتي" في الإنكار والتضخيم والتهويل والتهديد والمبالغة، فإنّ تحقيق القوات الأوكرانية "انتصارات" تبدو حقيقة مؤكدة، تؤيدها على الأقل اعترافات موسكو وتفسيراتها لما يجري، وهي تفسيرات وتبريرات بمقاربات تعيد اجترار مقولات مكررة لـ "فشل" المرحلة الأولى من الحرب، حينما حاول الجيش الروسي محاصرة كييف ودخولها، وأعلنت القيادة الروسية حينها تغييراً عميقاً في الأهداف الإستراتيجية للحرب، بحصرها في تحقيق استقلال دونباس ولوغانسك.
تطرح التطورات العسكرية في شمال شرق أوكرانيا، والتقدم الذي تحققه القوات الأوكرانية، تساؤلات حول طبيعة وحدود الردّ الروسي، التي ستتراوح بين ردود عسكرية وأخرى سياسية
"النجاحات" العسكرية التي يحققها الجيش الأوكراني لا شك مرتبطة بالدعم التسليحي الذي تقدمه أمريكا وبريطانيا ودول أوروبية أخرى، وهو دعم سابق على بدء الحرب وبعد انطلاقها، وشمل أسلحة متطورة من بينها منظومات مدفعية وصواريخ متنوعة وطائرات مسيّرة حديثة، بالإضافة إلى توفير معلومات استخبارية من مصادر "فنية وبشرية" حول تحركات القطاعات العسكرية الروسية في أوكرانيا ونواياها وخطوط الإمداد، بالإضافة إلى مراكز القيادة والتحكم والتخزين، ويرجح على نطاقات واسعة وفقاً لتسريبات غربية بأنّ الدعم الأمريكي والبريطاني يتجاوز تسليح الجيش الأوكراني وتوفير معلومات ذات طبيعة استخبارية بالمساهمة في رسم الخطط القتالية، وهو ما يفسر التكتيك الذي يستخدمه الجيش الأوكراني بـ"تقطيع" أوصال القوات الروسية .
وبالتزامن مع تلك الأسباب، فإنّ تلك النجاحات تؤكد حقيقة ما يتردد منذ بدء الحرب، حول تماسك وقدرات الجيش الروسي، وما يواجهه من عقبات ظهرت في المرحلة الأولى للحرب في عناوين الدعم اللوجستي، بما فيها إمدادات الوقود والتموين والذخيرة، بالإضافة إلى طول مدة الحرب التي تم بناء إستراتيجيتها بالنسبة إلى موسكو باعتبارها "عملية خاصة"، وكان يفترض أن تكون خاطفة، ويلاحظ هنا أنّ سؤال مشروعية الحرب بدأ يتردد في قطاعات واسعة "رسمية وشعبية" داخل روسيا، مع وقوع أحداث حرائق وقتل في روسيا، وبدأت مطالبات بإقالة الرئيس الروسي "بوتين"، رغم الإجراءات الأمنية المشددة ضد المعارضين.
وتطرح التطورات العسكرية في شمال شرق أوكرانيا، والتقدم الذي تحققه القوات الأوكرانية، تساؤلات حول طبيعة وحدود الردّ الروسي، التي ستتراوح بين ردود عسكرية وأخرى سياسية، يرجح أن تكون بالاتجاهات التالية:
ـ من المؤكد أنّ "طبيعة" الرئيس الروسي والقيادة الروسية لا تقبل "انكساراً" بهذه الصورة، وهو ما يعني استبعاد سيناريو أن تفضي تلك التطورات إلى دفع القيادة الروسية لبدء مفاوضات، لأنّ مفاوضات مع ملامح "هزيمة" روسيا تتناقض مع مفاهيم أساسية للقيادة الروسية، مرتبطة ليس فقط بالحرب الأوكرانية وتفاصيلها على الأرض، بل بمستقبل هذه القيادة وأدوارها الداخلية والخارجية.
طبيعة الرئيس الروسي والقيادة الروسية لا تقبل "انكساراً" وهو ما يعني استبعاد سيناريو أن تفضي تلك التطورات إلى بدء مفاوضات لأنّ مفاوضات مع ملامح "هزيمة" روسيا تتناقض مع مفاهيم أساسية للقيادة الروسية
ـ شنّ ضربات صاروخية ضد أهداف "حيوية" في أوكرانيا ربما تشمل مدينة كييف ومدناً ومناطق أخرى في "لفيف" غرباً و"أوديسا" جنوباً، تشمل محطات السكك الحديدية وتوليد الكهرباء والمياه وتخزين الوقود، وسيبقى سيناريو قيام "بيلاروسيا" بتقديم مساندة للجيش الروسي وارداً من خلال حشود على حدودها مع أوكرانيا، أو توجيه ضربات صاروخية لمناطق في شمال أوكرانيا.
ـ وفقاً لقناعات روسية بأنّ "صمود" أوكرانيا مرتبط بالدعم العسكري الأمريكي والبريطاني ومن دول الاتحاد الأوروبي، فرغم خطورة تداعيات أيّ عمل عدواني في محطة "زباروجيا" النووية، إلا أنّ معطيات التعاطي الروسي مع هذا الموضوع تشير إلى أنّ المحطة أصبحت ورقة تهديد بيد موسكو ضد أوكرانيا وأوروبا، رغم المحاذير ومخاطر الإقدام على أيّ خطوة تفضي إلى حدوث تسرب إشعاعي، مؤكد أنّ روسيا ستتحمل المسؤولية عنه، رغم اتهاماتها المتكررة لأوكرانيا، فروسيا وفقاً للقانون الدولي قوة غازية.
ـ سيواصل الرئيس الروسي الضغط على أوروبا بملف توريد الغاز والنفط الروسي، في ظل رهانات على أزمة طاقة حادة ستظهر مع بداية فصل الشتاء، قد تفضي إلى ربيع أوروبي يطيح بالحكومات، إلا أنّ تلك الرهانات تبدو غير موثوقة في ظل إعلانات أوروبية وأمريكية بأنّها اتخذت إجراءات للتعامل مع الأزمة، علماً أنّ الشتاء المقبل سيشكل أزمة لروسيا على صعيد عملياتها العسكرية في أوكرانيا، وهو ما يراهن عليه الغرب، في تكرار لحرب ستالين على فنلندا عام 1939، حينما هزم الفنلنديون "بقوات محدودة" الجيوش الروسية.
مواضيع ذات صلة:
- روسيا تشهر سلاحها في وجه الغرب... هل تخرج "حرب الغاز" عن السيطرة؟