كيف استمرت الحياة في الصين رغم ألم "كورونا"؟

كيف استمرت الحياة في الصين رغم ألم "كورونا"؟


11/02/2020

يقول ألبير كامو؛ "لسنا ننشد عالماً لا يُقتل فيه أحد، بل ننشد عالماً لا يمكن فيه تبرير القتل"، فلا يمكن استئصال الشر من العالم بصورة نهائية، ولكن من الممكن السيطرة عليه وتقليص آثاره والتخفيف من ويلاته، ونستطيع القول اليوم بأنّنا لسنا ننشد عالماً خالياً من الأوبئة أو الحرائق خلوّاً تاماً، ولكننا ننشد عالماً لا يشمت فيه الناس بمن تحلّ بهم الأوبئة أو بمن تلتهم النار بيوتهم وحقولهم وغاباتهم، ولا تغلق فيه الأبواب في وجوه المنكوبين.

اقرأ أيضاً: "كورونا" والعقاب الإلهي.. هل رحمة الله تختص بالمسلمين وحدهم؟
تمكّنت أستراليا من احتواء الحرائق التي التهمت غاباتها وحماية السكان، ثم التفتت إلى حماية الحيوانات النازحة عن مواطنها، والتي قضى الحريق على مصادر عيشها، وبنت الصين مشفيين ضخمين على مساحة 25 ألف متر مربع، خلال 10 أيام فقط، لعلاج المصابين بفيروس كورونا في مدينة ووهان؛ حيث أنفقت 200 مليار دولار حتى الآن، وخسرت بورصتها 500 مليار، في معركتها مع هذا الفيروس، لكنّ المارد الصيني سوف ينتصر على هذه البعوضة التي قرصت ركبتيه، وجعلته موضع "شفقة" أمام العالم، بحسب تعبير سمير عطا الله في مقال له بجريدة "الشرق الأوسط".

ما نراه في الصين وأستراليا اليوم هو ثقافة إنجاز بامتياز وتحديد واضح للهوية والمكانة الثقافية والإنسانية

وذكرت تقارير مختلفة أنّ الصينيين المحجور عليهم والمحاصرين في منازلهم، بعد أن داهمتهم الكارثة في "عيد الربيع"، اشتروا في أسبوع فقط مليار مرة بالبطاقات الائتمانية، وسددوا 100 مليار دولار، وفي حين وصف أحد المراسلين الأجانب مدينة ووهان، التي كانت الأكثر ابتلاءً، بأنّ لها مشهداً يشبه نهاية العالم لشدة ما هي مقفرة، نشرت الحكومة صوراً للمدينة الصينية، تُظهر تحفها المعمارية، مضاءة وهي في أبهى حلة، لتقول إنّ الحياة مستمرة رغم الألم. 
تقول سوسن الأبطح، في مقال لها بجريدة "الشرق الأوسط": "كل شيء يُذكّر برواية ألبير كامو (الطاعون)، التي وصفت كفاح مدينة وهران الجزائرية في أربعينيات القرن الماضي، وقد فتك بهم المرض، وعانوا من الحجر سنة كاملة، لا معين لهم من الخارج، الذي أغلق أبوابه عليهم وتركهم لمصيرهم، ولا خلاص لهم إلا بتعاضدهم، الذي ينتشل من يتبقى منهم على قيد الحياة، وهي اللحظة التي اكتشف فيها الأهالي فولاذية عزائمهم، وقدرتهم على التصدي لأبشع ما يمكن أن تتعرض له مجموعة بشرية من تهديد".

اقرأ أيضاً: "كورونا" وأسلمة الفيروسات: هكذا انتشرت جنود الله انتقاماً للإيغور
لم يكن الطاعون الذي وصفه كامو، إلاّ وباءً بشرياً حقنته الحرب بمصل مضاد للحياة الإنسانية والوجود الإنساني، كان ذلك بعد الحرب العالمية الثانية التي جعلت معدّل الموت أكبر من معدل الحياة، ولا يزال هذا الطاعون البشري يفتك ببلدان الشرق الأوسط؛ من طهران إلى وهران، ومن طرابلس إلى صنعاء ودمشق.
كل شيء يسمح بالمقارنة، ويسمح بالمفاضلة أيضاً، بين الأحداث الجارية في الواقع الراهن هنا وهناك؛ أي بين حكومات تقوم بواجباتها القانونية والسياسية والأخلاقية، فتحمي مجتمعاتها وتصون ثرواتها، وبين حكومات تنصلت من جميع الواجبات، بين ثقافة العمل والإنجاز والعناية، وثقافة الولاء والولاية.

اقرأ أيضاً: كورونا بين العقاب والابتلاء
إنّ ما تحظى به حيوانات أستراليا الآن من رعاية غذائية وصحية، بات حلماً يحلم به الإنسان السوري؛ الذي أصبحت النسبة العظمى منه تعيش تحت خط الفقر، وليس بوسعنا أن ننسى الأطفال السوريين الذين يعيشون في المخيمات وبيوت الإيواء تحت وطأة البرد والجوع والتشرد. 
وما نراه في الصين وأستراليا اليوم، هو ثقافة إنجاز بامتياز، وتحديد واضح للهوية والمكانة الثقافية والإنسانية، فلا تنهض أمة من الأمم إلّا بما ينجزه أفرادها.
يقول مصطفى حجازي: "في ثقافة الإنجاز التي تشكل قاعدة كل نماء وبناء، لا يرى المرء من مفهوم لذاته أو تصوره إلّا باعتباره كائناً منجِزاً، يحسن تنمية طاقاته وتوظيفها"؛ إذ ينطلق تحديد المكانة من الكفاءة والجدارة، فالحكومة التي بنت مستشفى ضخماً وجهّزته ووضعته في الخدمة في غضون أيام قليلة، جديرة بالمكانة التي تحتلها بين دول العالم، ويبدأ تحديد المستقبل والإبداع في العطاء؛ حيث تتعاون الدولة أو الحكومة مع أفراد المجتمع، وتقدّر إنجازاتهم/ن، فمن يعتاد على البناء لا يستطيع أن يهدم، إلّا إذا كان في الهدم بناء جديد.

إنّ الحكومة التي بنت مستشفى ضخماً في غضون أيام قليلة جديرة بالمكانة التي تحتلها بين دول العالم

ولم تخرج الصين من دائرة الدول النامية أو دول العالم الثالث المتخلفة بـ "تحرير الاقتصاد" و"الانفتاح على السوق العالمية"، أو باعتماد "نظام السوق الاجتماعي"، كما روج الإصلاحيون في بلادنا، بل باستدراك ما فاتها من الثورة العلمية التكنولوجية، والثورة الصناعية، حتى غدت منافسة قوية للولايات المتحدة الأمريكية ودول الاتحاد الأوروبي، ولعل الصينيين سيتعلمون من درس الطبيب الشاب؛ لي وينليانغ (34 عاماً)، الذي اكتشف فيروس كورونا باكراً وبعث برسائل إلى زملائه ينبههم فيها من خطورته، ويحذر السلطات المعنية من مغبة التكتم عليه، فاستدعته الشرطة للتحقيق بتهمة "نشر الشائعات والأخبار الكاذبة"، ثم أصابه الفيروس في مقتل، وأكّد مستشفى ووهان المركزي في مقاطعة هوبي، حيث عمل لي، وفاته في بيان مقتضب نشر على موقع "ويبو" الصيني.

اقرأ أيضاً: كيف قاوم رواد مواقع التواصل فيروس كورونا؟!
وأعلن البيان؛ أنّ "طبيب العيون لي وينليانغ الذي يعمل في مستشفانا، والذي أصيب للأسف خلال مكافحته الالتهابات الرئويّة الناتجة عن فيروس كورونا المستجدّ، توفّي عند الساعة 2:58 صباحاً في 7 شباط (فبراير) 2020 على الرّغم من كلّ الجهود التي بذلت لإنقاذه".
وأضاف البيان "نشعر بالأسف والحزن العميقين لما حصل".
ترى هل شعرت تلك الجهة التي استدعته وحققت معه، وربما تكون قد عنّفته، بالأسى والحزن العميق؟



انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات
الصفحة الرئيسية