تعتبر السخرية سلاحاً يساعد على تخطي الأزمات، مهما بلغت شدتها؛ إذ تتحول أصعب المواقف الحياتية إلى نكتة تبعث على الابتسامة والضحك، أملاً في تخفيف ضغوط الحياة، ومع تطور وسائل التواصل الاجتماعي، احترف الكثير من رواد مواقع التواصل، فن الرسومات والصور الساخرة المعروفة بـ "الكوميكس" أو "الميمز"، كما يطلق عليها بعضهم، حيث يعبرون فيها عن مشاكلهم على طريقة الكوميديا السوداء.
اقرأ أيضاً: تأثير فيروس كورونا يستمر بالانتشار.. ما علاقة شركة آبل؟
وللأسف، استخدم البعض تلك الطريقة للتعامل مع خبر جاد، مثل انتشار فيروس "كورونا"، ممّا يعني ميلاً للعبثية والاستهتار؛ فالفيروس الذي انتشر في مدينة "ووهان" الصينية مؤخراً، وشكّل وباء لا يهدد الصينيين فحسب، بل يهدد العالم أجمع، حيث نشطت المجتمعات في صناعة برامج للحماية والوقاية من هذا الفيروس في حال انتقل إليها، واشتدت المخاوف نظراً لتشابه فيروس كورونا مع فيروس الإنفلونزا الإسبانية الذي انتشر بين عامي 1918 و1919، مسبباً وفاة حوالي 50 مليون إنسان في مختلف أنحاء العالم، كما أصيب حوالي ثلث سكان العالم حينها (500 مليون شخص)، بالعدوى خلال فترة انتشار الفيروس، وظهرت عليهم أعراض المرض، الذي كان شديداً بشكل غير معتاد، لذا سعت الأمم الجادة بكل قوتها لمواجه الوباء؛ فالأمر جلل.
استخدم البعض السخرية للتعامل مع خبر جاد مثل انتشار فيروس كورونا مما يعني ميلاً للعبثية والاستهتار
ولأنّ الأمر خطير؛ اجتمع الرئيس الصيني "شي جين بينغ" مع أعضاء حكوميين بشكل طارئ، وأعلن تحذيره للمجتمع الصيني من "تسارع" انتشار فيروس جديد قاتل، مؤكداً أنّ البلاد تواجه "وضعاً خطيراً"، ولأن الوضع لا يحتمل المراوغة ولا يقبل إلا الشفافية، أعلن رئيس مدينة "ووهان" الصينية أنّ عملية احتواء فيروس "كورونا الجديد"، ومنع انتشاره في المدينة الواقعة وسط الصين، لا تزال مهمة شاقة ومعقدة.
كما اتخذت الدولة الصينية كافة التدابير اللازمة لمواجهة انتشار الفيروس؛ سواء بالحجر الصحي على المدينة، أو بعزل المدن المصابة، ومنع قاطني بعض المدن من مغادرتها، بالإضافة إلى مجموعة من الإجراءات الوقائية شديدة التعقيد؛ كقيام طائرات مسيرة بتحذير الناس في الطرقات، ونصحهم بوضع الكمامة بشكل صحيح، للتأكيد على جدية إجراءات الوقاية، كما تمّ بناء مستشفيين متكاملين في غضون 10 أيام، بسعة ألف مريض لمواجهة الفيروس.
ولأنه أمر جلل أيضاً؛ قام الزعيم الكوري الشمالي كيم جونج، بمواساة الرئيس الصيني شي جين بينغ، بسبب تفشي الفيروس وموت هذا العدد من الصينين، كما قدّم دعماً مالياً للصين، وفق ما أفادت وكالة الأنباء المركزية الكورية الشمالية، ولأنّه شأن عالمي؛ أصدر الرئيس الروسي فلاديمير بوتين أمراً للجيش الروسي بالبدء في إجلاء المواطنين الروس من الصين، وقام وزير الخارجية الروسي سيرجي لافروف، بمكالمة نظيره الصيني وانغ يي، لمناقشة تعاون بين البلدين في مكافحة تفشي فيروس كورونا.
اقرأ أيضاً: حتى وباء كورونا لم يسلم من الإخوان
الكل يستعد ويدرك حجم التحدي، إلا مجتمع "السوشال ميديا"، الذي استعدّ بسلاح النكات والسخرية أو بالشماتة من الصينيين، حيث تحولت السخرية إلى سخف واستخفاف بمعاناة الآخرين، كالذي يلقي النكات في جنازة.
ووجد الساخرون في اسم الفيروس، المشابه لنوع من أنواع الشوكولاته المصرية، مثلاً، مادة للسخرية، مما أشعل منصات التواصل الاجتماعي بتناقل نكات حول اسم الفيروس، ثم تطور الأمر بتناقل "ميمز"، عنوانها؛ "يعني يا ربي يوم ما نموت نموت بفيروس صيني مش أصلي"، في إشارة إلى أنّ المنتجات الصينية، في الغالب، هي تقليد وأنّها أقل جودة، و"الكوميكس" الذي ينظر فيه شاب إلى الفيروس قائلاً؛ "شايف - مشيراً إلى حبوب (الريفو)* – *لو جيت مصر إحنا هندمرك بده!" أو تلك المقاطع المصورة لمواقف من المفترض أنّها مُضحكة، يسجلها بعض الهواة طلباً للإعجابات والمشاركات؛ كالمشهد الذي يجلس فيه شاب وسط مقهى ثم يعطس ويسعل، ويلعن السفر للصين وليته لم يسافر الأسبوع الماضي، ممّا يدفع الجالسين إلى الهروب من حوله!
استخدم الشامتون كلمات بعض الشيوخ الأصوليين الذين اعتبروا الوباء عقاباً من الله تعالى للصينيين بسبب اضطهادهم مسلمي الإيغور
ومع ضحكات المتابعين، تتابع السخرية تلو الأخرى وتنتشر، حتى لا يكاد المرء يجد فرصة لمتابعة الإجراءات القومية والوطنية التي اتبعتها الدول العربية لمواجهة هذا الوباء، وكأنّ الأمر لا يعنينا، والخطر بعيد عنا، وكأنّ الكون في واد ونحن في واد آخر.
ولم يكتف رواد موقع التواصل الاجتماعي؛ فيسبوك، بالسخرية، بل تحتل الشماتة المرتبة الثانية في تناولهم للوباء العالمي، حيث استعان الشامتون بكلمات بعض الشيوخ الأصوليين، الذين اعتبروا ما أصاب الصينيين، عقاباً من الله تعالى بسبب اضطهادهم لمسلمي الإيغور! متجاهلين الحقيقة العملية بأنّ أي وباء عالمي لا ينظر إلى دين الإنسان أو عرقه أو نوعه حين يصيبه.
ويُسبب هذا النوع من الشماتة، المنتشر في الميديا، خبلاً معرفياً ضخماً، ربما يصعب تلافيه مستقبلاً؛ لأنّنا سنكون مجبرين على الإجابة عن سؤال؛ إذا كان الله تعالى عاقب الصينيين على اضطهادهم للإيغور، فماذا عن المسلمين الذين أصابهم الفيروس في بعض الدول الإسلامية والعربية التي أعلنت ظهور حالات مصابة بالفيروس؟!
اقرأ أيضاً: "كورونا" و"بريكست"و"صفقة القرن" والهشاشة
وما بين السخرية والشماتة؛ ضاعت علينا، فرصة المشاركة الإنسانية في مصاب عالمي جلل، وإن حل العبث موضع الجد، والاستهزاء موضع الاحترام، فنحن أمام كارثة مجتمعية واقعة، وأجيال لا تدرك حقيقة ما تواجهه، ويسهل توجيهها عبر منصات التواصل الاجتماعي، لا أدري لماذا لم ينتبه الساخرون إلى أنّ إمكانياتنا المعملية كعرب، أقل من أن نشارك في مواجهة الفيروس؛ بالبحث عن مصل مضاد له، أو حتى في تقديم خبرات أطبائنا العرب ليساهموا في فريق طبي عالمي لدراسة الفيروس، ألم يكن الأولى بنا أن نكون جادين في التوعية بالفيروس عبر حملات بلغات متعددة، ببرامج وقاية أو بحملات توعية، أو بتصنيع الكمامات الطبية لتوزيعها على الطلاب مجاناً في المدارس؟
نحن أمام كارثة مجتمعية واقعة وأجيال لا تدرك حقيقة ما تواجهه ويسهل توجيهها عبر منصات التواصل الاجتماعي
من الخطورة بمكان أن تصبح السخرية والاستهزاء أسلوب حياة؛ لأنّنا نستهلك طاقتنا في الرد على الساخرين، أو نفقد حماسنا نحو المشاركة الفعالة التطوعية في التحديات التي تواجه الوطن؛ إذ تدفع السخرية والخوف من السخرية، البعض للانضمام إلى جيوش الساخرين المستهزئين.
ما المضحك في السخرية من المرضى أو ذويهم الذين يتألمون لإصابة أحبائهم؟! خاصة أنّ كثيراً من الدول العربية لديها مواطنون معرضون للإصابة؛ ففي مصر تمّ نقل أكثر من 300 مواطن من مدينة "ووهان" منذ أيام إلى مطار العلمين، بواسطة طائرة تابعة لوزارة الطيران المدني، حيث سيقيم العائدون في فندق تابع للقوات المسلحة في مدينة مرسى مطروح (440 كيلومتراً شمال غرب القاهرة على المتوسط)، لمدة أسبوعين بهدف التأكد من عدم إصابة أي منهم بالفيروس، وفق ما أعلنت وزارة الصحة المصرية، وفي الجزائر هناك 36 مواطناً أغلبهم من الطلبة، وأصيب في تونس 10 مواطنين، فضلاً عن بعض المواطنين الليبيين، كما سيوضع 167 مواطناً مغربياً، عادوا يوم الأحد الماضي، تحت مراقبة طبية لمدة 20 يوماً، وتمّ ترحيل 10 طلاب إلى المملكة العربية السعودية وعزلهم احترازياً لمدة أسبوعين، حتى يتم التأكد من سلامتهم وإجراء جميع الفحوصات المخبرية لهم للاطمئنان عليهم.