عندما شرع سيد قطب حرب الحضارات (8)

عندما شرع سيد قطب حرب الحضارات (8)


11/02/2020

ثار جدل بين الباحث الأمريكي في العلوم السياسية صامويل هنتغتون وبين المفكر المغربي المختص في علم المستقبليات مهدي منجرة حول من هو الأسبق في الحديث عن صراع الحضارات. بقطع النظر عن ذلك النقاش، فإنّ هناك شخصاً آخر كان أسبق في التبشير بحرب الحضارات هو بالتأكيد سيد قطب.
بعد انتهاء الحروب الصليبية، حدث أمر مهم تمثل في احتلال نابوليون مصر فعادت منذ ذلك التاريخ العلاقة المتوترة بين الشرق والغرب، وهيمنت عليها من جديد روح الصراع والعداء المتبادل رغم مظاهر الاستقرار والتعاون.

وهم السقوط القريب للحضارة الغربية لدى قطب جعل بعض الإسلاميين يعتقدون بأنّ انهيار الحضارات عملية بسيطة يمكن قياسها

الإسلاميون طرف في هذا الصراع المفتوح رغم كونهم ليسوا الوحيدين في هذا المجال؛ إذ تشترك معهم أطراف أيديولوجية عديدة مثل؛ القوميين وفصائل من اليسار الماركسي، غير أنّه لكل تيار منطلقاته وزاويته الخاصة المتأثرة بالعقيدة التي يستند إليها؛ فالعروبيون يستندون إلى الخلفية القومية التي كانت تدفعهم نحو ما يعتبرونه معركة وجود في الصراع الدائر مع الغرب. أما الشيوعيون العرب والفصائل التي انبثقت عنهم يميزون بين الغرب الرأسمالي الذي دعوا إلى مواجهته وبين الغرب الاشتراكي الذي اعتبروه صديقاً وحليفاً يجب دعمه والوقوف إلى جانبه. أما الإسلاميون فلا يزال موقفهم من الغرب غامضاً، يتأرجح بين العداء المطلق والانفتاح الحذر.

اقرأ أيضاً: سيد قطب: تأملات في مشروع ملغوم (1)
حاول سيد قطب أن يؤصل الصراع مع الغرب، وأن يضعه في سياق نظري عام من شأنه أن يساعد الإسلاميين على اتخاذ موقف نهائي من هذه الإشكالية المركزية والإستراتيجية. الصراع مع وضده صراع حتمي ومستمر إلى أن يتم حسمه لصالح الإسلام. هذا الصراع من وجهة نظره جزء لا يتجزأ من معركة الحضارة التي يجب أن يستعيد المسلمون من خلالها حقهم في استعادة المبادرة الحضارية وبناء عالم يتولون هم قيادته وفق أفكارهم وقناعتهم المستمدة من الإسلام. وهي قيادة لا تحتمل الشراكة مع أي حضارة أخرى.

اقرأ أيضاً: سيد قطب: الوجه المطمئن مقابل الوجه الآخر (2)
ينطلق قطب من مسلّمة تقول بأنّ الغرب يواجه أزمة شاملة وهيكلية. دليله في ذلك المشكلات التي تواجهها الحضارة الغربية. وللتدليل على ذلك قام باستعراض هذه المشكلات التي عاين بعضها مؤشراتها عند زيارته للولايات المتحدة الأمريكية، أو قرأ عنها في مؤلفات بعض المفكرين الغربيين. وخلص إلى أنّه وفق هذه المؤشرات أن هذه الحضارة ليست فقط مريضة، ولكن في طريقها إلى الموت. وإذ تتجه نحو نهايتها الحتمية فهي بصدد تدمير الإنسان والوجود البشري.

اقرأ أيضاً: سيد قطب: القفز نحو المواقع الخطرة (3)
قال قطب إنّ "قيادة الرجل الأبيض للبشرية قد أوشكت على الزوال، لا لأن الحضارة الغربية أفلست أو ضعفت مادياً من ناحية القوة الاقتصادية والعسكرية، ولكن لأنّ النظام الغربي قد انتهى دوره لأنّه لم يعد يملك رصيداً من (القيم) يسمح له القيادة".
من هذا المنظور يعتقد قطب أنّ الغرب سينهار حتماً بحجة أنّه أفلس قيمياً، ولم يعد له ما يقدمه للعالم. وبما أنّ المسلمين لهم قيم جاهزة تنتظر اللحظة المناسبة للرواج فإنّ ما تشهده الحضارة المهيمنة من انهيار متسارع سيكون عاملاً مساعداً لتتصدر الأمة الإسلامية المشهد، وتعمل على تعميم السيطرة الحضارية على العالم.
لم يكن سيد قطب أول من تحدث عن أزمة الحضارة السائدة. فمنذ ما لا يقل عن قرن من الزمن وهذا الموضوع مطروحاً للنقاش والجدل بين الفلاسفة والمؤرخين. إذ جازف العديد من هؤلاء – معظمهم غربيون – بالتبشير بقرب انهيار الحضارة الغربية وتكهنوا بموتها واندثارها.

اقرأ أيضاً: سيد قطب: الجاهلية نظرية في الخروج من التاريخ (4)
لا شك في أنّ المرحلة التاريخية الراهنة تشكو من أزمة قيمية مخيفة، وذلك على جميع الأصعدة الأخلاقية والسياسية والاقتصادية. كما أنّ التداول على قيادة الحضارة الإنسانية سنّة من سنن الله في خلقه. إذ لا يمكن لأي أمة أو شعب ادعاء احتكار القيادة الحضارية إلى يوم الدين، بمن في ذلك المسلمون الذين تصدروا المشهد الحضاري لمدة لا تقل عن 12 قرناً، ثم تراجعوا كغيرهم، وسقطوا سقوطاً مدوياً لأسباب موضوعية يطول شرحها.
لو بقي سيد قطب حياً لتكامل موقفه الذي بشّر به مع ما طرحه فوكو ياما الذي بشّر بنهاية التاريخ، ممهداً بذلك لدعوة هنتغتون القائمة على التنبؤ باشتعال فتيل حرب الحضارات.
تتمثل أهم الاعتراضات الجوهرية على موقف قطب من الحضارة المعاصرة والتبشير بنهايتها:

خلص سيد قطب إلى أنّ الحضارة الغربية ليست مريضة فقط، ولكن في طريقها إلى الموت

• وصف الحضارة القائمة بكونها "جاهلية"، وهو ما من شأنه إعادة العلاقة بين الحضارات إلى المجال الديني بمعناه الضيق، وبالتالي دفع الإنسانية من جديد نحو أجواء الحروب الدينية. فصاحب "المعالم" يستند في أطروحته إلى البعد العقائدي، الذي تنبثق منه منظومة القيم، والذي يجب توظيفه ليصبح المغذي الرئيسي للصراع الدائم ضد الغرب.
• اختزاله أزمة الحضارة في البعد الأخلاقي والقيمي، وهي مسألة فيها نظر. لا شك في أنّ للأخلاق دوراً أساسياً في حماية الشعوب من التحلل والاندثار، لكن الحضارات لا تستند فقط إلى قيمها الأخلاقية، وإنما توجد روافد أخرى تتدخل لتحقن الجسم الجماعي، وتحميه من الموت الفجائي. يعتبر تطور العلوم والصناعات المختلفة وفي مقدمتها الصناعة العسكرية والتكنولوجيات الحديثة رافداً مهماً لتحقيق التماسك الداخلي وضمان التفوق على الصعيد العالمي. كما أنّ ازدهار التجارة يشكل مدخلاً حيوياً آخر للتمديد في فترات الهيمنة والوصاية. يضاف إلى ذلك أنّ القول بأزمة القيم في الغرب لا يعني أنّ المجتمعات الغربية أصبحت بدون أخلاق وفقدت كلياً مرجعيتها القيمية. هذا انطباع سطحي عن شعوب لا تزال تتمتع بالحد الأدنى من التضامن بين مكوناتها المحلية والإقليمية. كما أنّ الحريات وحقوق الإنسان والديمقراطية ودور الدين لا تزال قائمة وفاعلة رغم ضعفها في بعض المجتمعات، وهو ما جعل المجتمعات المدنية الغربية تتمتع بالقوة والقدرة على المقاومة والحماية، في حين أنّ تلك الضوابط ضعيفة ومفككة داخل المجتمعات الإسلامية التي أراد سيد قطب ترشيحها لقيادة العالم بعد سقوط الغرب.  

اقرأ أيضاً: سيد قطب و"الظلال".. اختل المنهج فسقط البناء (5)
• التأمل في كتب سيد قطب الأخيرة يوقعك في وهم السقوط القريب للحضارة الغربية، وهو ما جعل الكثير من الإسلاميين يعتقدون بأنّ انهيار الحضارات عملية بسيطة يمكن قياسها، في حين أنّ التاريخ أثبت أنّ الدورة الحضارية الواحدة يمكن أن تدوم عدة قرون. على سبيل المثال كانت الجماعة الإسلامية في تونس تصدر مجلة تحت عنوان "المعرفة"، وكان من بين أركانها ركن تحت عنوان "فوق جرف هار" يتضمن مقالات منقولة عن صحف غربية تدور حول أزمات قائمة هنا وهناك. كان ذلك الركن يشبه العدّاد الذي يحصي الفترة الزمنية المتبقية من عمر الحضارة الغربية التي تم إدخالها في غرفة الإنعاش. لكن مرت الأعوام واحتدت الأزمات دون أن يؤدي ذلك إلى موت الحضارة، غير أنّه في المقابل أشاع الحيرة في صفوف الإسلاميين حيرة زائفة، وهيؤوا أنفسهم لوراثتها في وقت قريب!!.

اقرأ أيضاً: سيد قطب والصحابة: الانتقاء وفن تلميع التاريخ (6)
• استعرض قطب جوانب الضعف التي تعاني المجتمعات الغربية، واكتفى بالتوقف عند الأزمات القائمة، لكنه غفل أو غض الطرف عن ذكر عوامل القوة التي تكمن في هذه المجتمعات وتجعلها قادرة على الاستمرار والبقاء رغم استفحال الظواهر السلبية الخطيرة. فالحضارات يمكن أن تضعف، وتتراجع في بعض المجالات المهمة، لكن بعضها يتمتع بحوافز وآليات يمكن أن تساعدها على الصمود والتدارك والبقاء لفترات طويلة. هذا ما يلاحظ في الحضارة المعاصرة، فهي تظهر في كل مرة قدرتها على تجاوز أزماتها، والتغلب على عديد التحديات التي تواجهها، من خلال اكتشاف حلول جديدة، والتخفيف من حجم الخسائر، والتسريع في وتيرة التقدم المادي والتقني والاجتماعي، وهو ما جعل المسافة تزداد عمقاً واتساعاً بينها وبين من يتمنى موتها ويريد الوصول إليها أو حتى تجاوزها مثلما هو شأن المسلمين. فالأمة الإسلامية ليست حالياً في مرحلة قياس الفترة المتبقية لسقوط الحضارة بقدر ما هي مطالبة بوضع الشروط والآليات التي من شأنها أن تقلل من الفجوة القائمة بينها وبين الغرب الممسك بالمبادرة الحضارية.

وصف قطب الحضارة القائمة بكونها "جاهلية"، وهو ما من شأنه إعادة العلاقة بين الحضارات للمجال الديني بمعناه الضيق

• كان قطب واعياً بأنّ القيادة الجديدة التي ستخلف الغرب يجب أن تتمتع بقدر من الذكاء والقدرة على الريادة، لهذا السبب ذكر أنّه "لابد للقيادة الجديدة أن تملك إبقاء وتنمية الحضارة المادية التي وصلت إليها البشرية عن طريق العبقرية الأوروبية في الإبداع المادي". وهي مسألة على غاية من الأهمية. ولكن كيف يستطيع المسلمون الجدد التمتع بهذه المؤهلات العليا دون التوجه نحو المجتمعات الغربية، وتوجيه أبنائهم نحو الدراسة في أهم جامعاتها، والاتصال بكبار علمائها ومخترعيها، والتقاط الحبة دون الوقوع في شباك الصياد كما جاء على لسان الفيلسوف الكبير محمد إقبال؟ كيف يمكن أن يحصل ذلك دون إقامة شراكات، واختراق الأسواق الغربية لتمرير البضاعة الوطنية؟ لا يمكن تحقيق ذلك في أجواء يسودها التوتر وتخيم عليها الحرب العقائدية التي تضمنتها كتب سيد قطب الأخيرة.

اقرأ أيضاً: سيد قطب: محاولة إيقاف الزمن وتأجيل النهضة الفكرية (7)


آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية