خليل علي حيدر
تساءل الباحث د. عمر الشوبكي قبل سنين مع مفكرين آخرين: «هل يمكن بناء تيّار إسلامي ديمقراطي»؟، وأجاب أن ثمة الكثير من التحديات حين يتعلّق الأمر بمناقشة إمكانية دمج التيارات الإسلامية السلمية داخل عملية التطور الديمقراطي في عدد من البلدان العربية. وأضاف أن بعض هذه التحديات «ذو طبيعة نظرية يناقش بالأساس إمكانية تبني هذه التيارات للمبادئ الديمقراطية»، حيث يؤكد بعضهم استحالة تبني هذه الجماعات لمثل هذه المبادئ لأسباب تتعلّق ببنية خطابها الديني التي تجعلها عاجزة عن الانفتاح الكامل على قيم الديمقراطية والتعددية الحزبية. بينما يؤكد آخرون، يقول د. الشوبكي، «إنه لا توجد معوقات نظرية أو عقائدية تحول من دون اندماج التيارات الإسلامية السلمية في عملية التطور الديمقراطي، وأن الفيصل الحقيقي هو ديمقراطية البيئة الاجتماعية والسياسية المحيطة القادرة على دمج حركات الإسلام السياسي داخل عملية التطور الديمقراطي». «دورية الديمقراطية، مركز الأهرام، أكتوبر 2003».
وبهذا انقسم الباحثون بين «قراءة ثقافية ساكنة لظاهرة الإسلامي السياسي»، أي القراءة التي تعتمد على أدبيات الحركات والجماعة والنصوص المرجعية لديها، وبين قراءة اجتماعية وسياسية، «تنظر بشكل ديناميكي لتحولات الحركات الإسلامية»، وظهرت بين الموقفين كما هو معروف.. تيارات!
وأكد الباحث آنذاك على ضرورة التمييز بين «أسباب وجود التيار الإسلامي» وبين «دوافع انتشاره»، ودعا إلى فهم هذا التيار كـ «ظاهرة سياسية اجتماعية»، يمكن استيعابها ودمجها في قلب الحياة السياسية وفي داخل عملية التطور الديمقراطي. وطرح الباحث سؤالاً مهماً حول سبب بروز التيار: «هل جاء ظهور تيار الإسلام السياسي نتيجة أزمات اجتماعية أم نتيجة خصوصية الإرث الثقافي الإسلامي»؟
ولاحظ د. الشوبكي أن «الغالبية الساحقة من الكتابات التي اقتربت من الحركات الإسلامية عرفت خلطاً واضحاً بين فهم «عوامل الوجود»، وبين «أسباب الانتشار» أو التراجع».
وبالفعل، فإن ظهور حزب أو تيار ديني شيء، وأن ينتشر هذا الانتشار شيء آخر! ويمكن مقارنة ظهور وانتشار هذا التيار بمذاهب وتيارات دينية وسياسية أخرى اتسع انتشارها أو تقلص لأسباب. وقد اعتبر بعضهم أن «الإسلام السياسي» ظاهرة محض ثقافية بسبب خصوصية الثقافة العربية وطبيعة النص الديني الإسلامي وقبوله عدة تفسيرات، وفي المقابل اعتبرها آخرون مجرد انعكاس للأزمات الاقتصادية والاجتماعية، والتعثر الديمقراطي والسياسي.
حاول الماركسيون يقول الباحث، تفسير تنامي الظاهرة في ستينيات وسبعينيات القرن الماضي، ضمن «تفسيرات طبقية ضيقة، تمحور حول مقولات من نوع تردد «البرجوازية الصغيرة»، وعدم جذرية سياستها الاجتماعية، إضافة إلى مشكلة الفقر والأزمة الاقتصادية»، وقالوا إنها جميعها عوامل ساعدت على ازدهار الحركة الإسلامية. وركز "اليساريون" و"العلمانيون الليبراليون" معاً على نتائج ودور الأنظمة الشمولية وهزيمة 1967، فيما أشار آخرون في تحليلهم وتعليلهم، إلى الدولة وخطابها الرسمي الذي يشير إلى دور القوى الخارجية في انتشارها.
ويرى د. الشوبكي أن هذه التحليلات ناقصة. «وقد تساعد كل هذه التفسيرات على فهم أسباب انتشار التيار الإسلامي في مرحلة تاريخية ما، وأسباب تراجعه في مرحلة أخرى، لكنها في كل الأحوال ستظل عاجزة عن تفسير سبب تولي التيار الإسلامي بمفرده مهمة التعبير عن هذه الأزمات الطبقية و"النكبات الوطنية"، من دون غيره من القوى السياسية الأخرى. والأمر نفسه ينسحب على ظاهرة أخرى صاحبت بعض أجنحة الحركات الإسلامية، وهي العنف، فإذا كان هذا العنف تعبيراً عن أزمة ما - وهو بديهي - فلماذا لا نجد مثيلاً له في مجتمعاتنا وثقافات أخرى غير مجتمعاتنا العربية؟ حقاً، لماذا لا يزدهر هذا العنف، إن كان طبقياً أو انعكاساً لأي أزمة، في مجتمعات وثقافات أخرى؟ «فمجتمعات مثل أميركا اللاتينية، تشهد مثلاً أحزمة الفقر في عواصمها المختلفة عنفاً آخر غير الذي عرفته بلادنا على يد بعض جماعات العنف الديني، كما أن حركات المقاومة الثورية والعنيفة في بعض بلدان أميركا اللاتينية لا تأخذ هذا «الشكل الاستشهادي» الذي نراه في كثير من البلدان العربية كتلك الواقعة تحت الاحتلال مثل فلسطين».
وكان التفجير والعنف عام 2003 بارزاً في «الكفاح والجهاد الفلسطيني»، وقد عمّ لاحقاً، كما هو اليوم، كل العالم العربي، بل إن ما نرى من عنف وتفجير وإرهاب في دول مثل أفغانستان وباكستان، وفي أوروبا بمشاركة «الجيل الثاني والثالث» من أبناء المهاجرين المسلمين إلى تلك البلاد، أبشع في بعض الحالات مما نرى في العالم العربي. فكيف يمكن تفسير الظاهرة طبقياً ووطنياً وغير ذلك؟
ولماذا تنجح الأفكار الدينية الإرهابية والتكفيرية في اجتذاب المهندسين المسلمين والعرب، واستقطاب طلبة الكمبيوتر والكيمياء والطب؟ ولماذا يتساوى الذكور والإناث في تسليم مصيرهم إلى جماعات مثل «القاعدة» و«داعش»، من عرب وأتراك وأفغان وأفارقة وروس؟
اعتبر د. الشوبكي عام 2003، أن هذه الأشكال الخاصة للعنف تعبر عن «حالة ثقافية»، من دون القول إن العنف في ذاته يعكس حالة إسلامية أو مرتبطة بالإسلام والثقافة الإسلامية». ولكن لماذا ينتشر هذا الفهم العنيف لتعاليم الدين، وتحدث هذه الاستجابة الواسعة لدعاة التكفير والإرهاب وثقافة الإجبار والإكراه في مجتمعات العالم الإسلامي وحدها وبين والتجمعات الإسلامية في البلدان الغربية؟ ولماذا يجد خطباء التشدد آذاناً صاغية بين المهاجرين المسلمين الجدد إلى أوروبا، وكذلك بين أحفاد من هاجروا إليها منذ أجيال؟ ولماذا لا نجد بين الجاليات المسيحية والبوذية والهندوسية والوثنية الأفريقية ما يشبه جماعات العنف والتكفير الإسلامية في إنجلترا وألمانيا وفرنسا وإيطاليا وغيرها؟ نحن بحاجة ماسة إلى من يدرس «ثقافة العنف والتكفير» هذه، أسباب ظهورها وعوامل انتشارها، كما يميز بينهما الباحث د. عمر الشوبكي. هذه الثقافة التي لا يناقشها بيننا إلا القليل من «المفكرين الانتحاريين»، ممن تطاردهم الدول وجماعات الإرهاب معاً! وسنرى في مقال قادم تحليل الباحث لتنوع الحركات الإسلامية.
عن "الاتحاد"