الحملات الصليبية... قراءة جديدة بعيون غربية

الحملات الصليبية... قراءة جديدة بعيون غربية


23/09/2019

ترجمة: علي نوار


التاريخ: الأيام الأخيرة من شهر تموز (يوليو) من العام 1192. الحملة الصليبية الثالثة يبدو أنّها تورّطت في مأزق. لا يستطيع ملائكة الإسلام ولا جنود المسيحية حسم الحرب في فلسطين لصالحهم. يشنّ صلاح الدين الأيوبي، مستغلاً غياباً مؤقّتاً لريتشارد قلب الأسد، على ميناء يافا لكن الملك الإنجليزي يتلقّى التحذيرات ويعود بأقصى سرعة على متن السفينة التي يقفز عنها إلى الشاطئ ثائراً ويتمكّن من صد الهجوم الإسلامي. يكتب أحد الشهود على الأحداث "كان يلوّح بسيفه بضربات سريعة، فاتحاً الطريق بطعناته وسط حشود العدو الذي كان يهاجمه، كان يشقّ كل من يقابله نصفين".

يجرى تصوير الحملة الصليبية الأولى على أنّها عمل دفاعي لكن يجدر بنا أن نسأل أنفسنا هل كانت المسيحية في خطر حقّاً؟

هكذا وثّق البريطاني توماس أسبريدج في كتابه (الحروب الصليبية. رواية جديدة للحروب من أجل الأراضي المقدّسة)، المعارك التي اصطدم فيها العالم القديم طيلة قرنين من الزمان في الفترة بين 1095 و1291 وأثّرت بشكل عنيف على العلاقات بين الغرب والشرق ولا تزال تبعاتها تلقي بظلالها حتى يومنا هذا بل وتُستغلّ لتبرير الأيدولوجيات المنحرفة سواء الإرهاب الجهادي أو الشعبوية الشوفينية التي تُنذر بـ "صراع الحضارات". وقد نجح أسبريدج- وهو أستاذ متخصص في تاريخ العصور الوسطى بجامعة كوين ماري في لندن- عبر ألف صفحة في تقديم رواية حية وموضوعية في الوقت ذاته للحروب الصليبية، وبحيادية جديرة بالثناء، يتناول الروايتين؛ الإسلامية والمسيحية مستعيناً كذلك بعدد كبير من المصادر بعضها لم يظهر إلى النور حتى الآن.

اقرأ أيضاً: سياسي كندي: الصليب ليس رمزاً دينياً

غلاف كتاب (الحروب الصليبية. رواية جديدة للحروب من أجل الأراضي المقدّسة)

س. وضعتم هذا الكتاب قبل نحو عقد ولم يكن الأول الذي يتطرّق إلى الحروب الصليبية، ما الذي قد يضيفه الكتاب إذن؟
ج. كنت على وعي تام بأنّه كان يتعيّن عليّ كتابة هذه الرواية وفعل ذلك في مجلّد واحد. لديّ شغف بالحروب الصليبية منذ كان عمري 16 عاماً، حين درستها للمرة الأولى في المدرسة وفي هذه اللحظة أدركت أنّني أريد تكريس حياتي بالكامل لها. الجزء الأكثر من الوقت كان ذلك الذي استغرقه إيجاد البناء الملائم للكتاب بحيث أتمكّن بواسطته من تسليط الضوء على ملفّ كُتب عنه الكثير، مثلما ذكرتم. ما كنت على يقين منه هو أنّ الحملات الصليبية يجب رؤيتها من أكثر من منظور. وقد بحث عدد كبير من المؤرّخين هذه الحروب من المنظور الأوروبي لكنّني أردت عرض الرؤيتين، من وجهة نظر المسيحيين ومن ناحية المسلمين. وهذا بالضبط ما ينعكس من اللغة التي يكتب بها المؤرّخ. فإذا تحدّثت على سبيل المثال عن "السيطرة على القدس" خلال الحملة الصليبية الأولى بوصفها "انتصاراً" فإنّك تتّخذ بذلك الجانب المسيحي. عنون صديق لي كتابه حول الحروب الصليبية بـ(انتصار في الشرق)، وهو ما جعل الأمور أوضح حقيقة، ألا تظّن ذلك؟ لذا قرّرت تقسيم بنية الكتاب إلى خمسة أجزاء اتنقّل عبرها بين المنظور المسيحي والمنظور الإسلامي. قصدت من وراء ذلك عدم وقوف القارئ في مكان واحد.

س. لكن هل هذا ممكن؟ هل بوسع مؤرّخ بريطاني مثلكم أن يضع نفسه مكان صلاح الدين الأيوبي؟
ج. قد تكون الإجابة بالنفي. لا يستطيع المرء أن يكون موضوعياً بنسبة 100%، وانطلاقاً من هذه الحقيقة، توجد إجابتان. التسليم بوقوفك في مكان ما ولا يسعك فعل شيء حيال هذا الأمر، أو الخيار الثاني والذي اتخذته أنا: التعاطي مع الموضوع بوصفه تحدياً بحيث تجبر نفسك على النظر للأحداث بأكبر قدر ممكن من الموضوعية. الأهم بالنسبة لي كمؤرّخ كان التفكير ملياً فيما كان يعنيه أن تكون إنساناً في العصور الوسطى. أردت فهم كيف كان هؤلاء الناس يفكّرون. نعرف أنّه من الجانب الفسيولوجي كانت أمخاخنا شبيهة للغاية بأمخاخ هؤلاء الأشخاص الذين كانوا يعيشون في العصور الوسطى، لكن المخ يتعلّم أيضاً ويتطوّر بشكل مذهل بمرور الوقت. لذا فمن الوارد أنّ الأشخاص الذين عايشوا فترة العصور الوسطى كانوا مختلفين عنا ولن نقدر مطلقاً على فهمهم بشكل تام. وهذا بالتحديد ما دفعني للتحلّي بالحرص عند الاطلاع على المصادر وألّا استقي أي شيء بصورة قاطعة. لذا أطرح افتراضات ذاتية إلى حد بعيد.

 توماس أسبريدج

س. ما تقولونه عن المخ مثير حقيقة لأنّ جيوش الحملات الصليبية في الفترة بين عامي 1095 و1291 كانت تعبر قارة أوروبا كي تقاتل ضد المسلمين من أجل شريط أًطلق عليه "الأراضي المقدسة". حتى ذلك الوقت ظلّ الغربيون على أراضيهم يقتلون بعضهم البعض في هدوء. ما الذي حدث بعد ذلك؟ هل هناك دوافع اقتصادية أو اجتماعية أو سياسية أخرى خلافًا لتلك التي ينقّب وراءها المؤرّخون أم أنّ الأمر ببساطة كان شيوع حالة من الجنون الجماعي؟
ج. من وجهة النظر الحديثة يسهل رؤية الحملات الصليبية كجنون جماعي، وهذه هي الإجابة الأبسط. لكن هناك في الحقيقة ظواهر مشابهة حدثت في أزمنة أقرب، على غرار ما حدث في ألمانيا تحت قيادة الزعيم النازي السابق أدولف هتلر. كان رجال الدين خلال العصور الوسطى يعون جيداً أنّه يمكنهم تحفيز شيء من هذا القبيل بما يصبّ في صالحهم. لكن لا يمكننا في الوقت ذاته الاعتقاد بأنّ الناس في العصور الوسطى كانوا حمقى لدرجة أن يكتفي البابا بالضغط على زرّ كي يشهر الجميع أسلحتهم كما لو كانوا خرافاً. ورغم أنّ البابا أوربان كان أول من اكتشف طريقة إثارة حماس الناس، إلّا أنّه كانت له عدة محاولات سابقة باءت بالفشل. لكن لماذا بالتحديد حين ادّعى أوربان أنّ الحملات الصليبية هدفها تطهير الروح وتقديم مكافأة روحية تقبّلها الجميع؟ الواقع أنّ مفتاح ذلك كان تصويره للحملات الصليبية على أنّها نوع من الحجّ. وقد نجح هذا الأمر من قبل في روما أو سانتياجو. يجب علينا كمؤرّخين أن نذهب لما هو أبعد من الجنون الجماعي كي نستطيع فهم الظاهرة.

س. رغم الحرب الدائرة بلا انقطاع والتي تصوّر على أنّها صراع بين الحضارات، إلا أنّكم تتمسّكون بأن التواصل عن قرب وبشكل مستدام زمنياً بين المسيحيين والمسلمين فتح الباب أمام تعايش سلمي بين الديانتين. ألا تبدو هذه الفرضية تخيّل ليبرالي معاصر كان أولئك المقاتلين ليسخروا منها؟
ج. من المعروف أنّ الجمال يكمن في أعيننا ذاتها. وإذا كان هناك شيء أحاول شرحه لطلّابي فهو أنّ التاريخ يشبه الفسيفساء ولديّ فقط قطعاً معدودة منها. وبواسطة هذه القطع القليلة يمكنني تشكيل صورة وطرحها كما لو أنّها ما حدث، رغم أنّ مؤرّخاً آخر قد يتوصّل- وبنفس القطع- إلى صورة أخرى مغايرة للأحداث. أدرك تماماً أنّ ما أعرضه هو رؤيتي وأنّنا ننظر للماضي باعتباره انعكاساً لزماننا، وهذا ما يدفعني لاستخلاص دروس لزماننا. هذا شيء خطير بالطبع؛ لأنّ الحملات الصليبية من جانب تظهر أنّ البشرية قد تنزلق نحو العنف في أبشع صوره، لكن حين تلتقي ثقافات مختلفة وتصبح وجهاً لوجه ينشأ تحدي التعايش المشترك. والواقع أنّ هذين الأمرين؛ العنف والتعايش، يربطهما ميزان حسّاس للغاية. يتعايش الأشخاص معاً ويتاجرون فيما بينهم ويعقدون التحالفات. التحدي الذي أضعه أمام قرّائي هو أنّه لا وجود لأي مرحلة من التاريخ شهدت تعايشاً بين جارين اثنين في سلام تام. السلام الذي شهدناه في أوروبا منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية هو ظاهرة استثنائية لم تحدث من قبل قط.

س. صلاح الدين الأيوبي وريتشارد قلب الأسد، اللذان تواجها في الحملة الصليبية الثالثة، هما بطلا كتابكم. لكنّكم تثنيان على مميزاتهما العسكرية والدبلوماسية دونما إفراط في التمجيد.
ج. لا أنكر أنّ محور الكتاب هو صلاح الدين وريتشارد قلب الأسد. يرجع هذا لكمية المصادر المتوافرة حول الحملة الصليبية الثالثة وهو أمر يجعل أي مؤرّخ محظوظاً، رغم أنّ هذا أمر محبط لا سيما وأنّ الحملة الأولى لا توجد لها مصادر كثيرة وأغلبها غربية. في المقابل، توجد من الحملة الثالثة مصادر عديدة تصل حتى إلى كاتب صلاح الدين وموضع سرّه، ورسائل هي مذكّرات. يروق لي أحياناً التفكير في أنّني عثرت بين طيات هذه المصادر على شيء لم يسبق لأي مؤرّخ آخر التوصّل إليها، مثل حينما كان ريتشارد قلب الأسد على مسافة ستة أميال من القدس لكن الشكّ راوده حول ما إذا كان يتعيّن عليه مواصلة تقدّمه أم لا. وعلى الجانب الآخر يتساءل صلاح الدين حول ما إن كان قادراً حقاً على الدفاع عن المدينة. إنّها لحظة التوازن التي كان المصير يتحدّد فيها. إلا أنّه من الصعب في الواقع الوصول لفكرة صحيحة عن خصائص هاتين الشخصيتين، رغم أنّني سعيت وراء ذلك.

س. هل يمكن اعتبار الحملات الصليبية كاعتداء إمبريالي غربي، أم على العكس من ذلك، وأنّها عملية تحرير؟
ج. هذا أحد أهم الأسئلة المطروحة حول الحملات الصليبية وأشجّع طلبتي على النقاش في هذا الصدد. أود الإشارة إلى أنّ عدداً من الزملاء المؤرّخين لم يحتاطوا بما يكفي عند تناولهم هذا الملفّ خلال الأعوام المنصرمة. فقد صوّروا الحملة الصليبية الأولى على أنّها فعل دفاعي لكن يجدر بنا أن نسأل أنفسنا هل كانت المسيحية في خطر حقّاً. فعليًا ما حدث هو تأويل غير دقيق لما حدث حقًاً. تقول لنا المصادر الغربية بشكل جازم إنّ الحملات الصليبية الأولى خرجت بفكرة الدفاع عن الدين، لكن عند البحث في المصادر الإسلامية، اكتشفت كمؤرّخ أنّ أوروبا لم تكن تعاني أي تهديد حقيقي. كان موضع الخطر الوحيد هو شبه جزيرة إيبيريا، التي كانت وقتها في خضمّ ما تُعرف باسم (حروب الاسترداد). كان يجدر بالبابا أن يدعو للقتال هناك لكن هذا لم يحدث. من الخطير النظر للحملات الصليبية في الغرب بفخر مثلما نجد الآن على بعض المواقع الإلكترونية؛ لأنّ الأمر يُنظر له في الجانب الآخر ككارثة. ولدى كل طرف أدلّته.

س. كانت الحملات الصليبية تاريخياً وقوداً أيدولوجياً لسياسات هدّامة. فعلى سبيل المثال أطلق الطرف القومي في الحرب الأهلية الإسبانية مصطلح الحملة الصليبية على هذا النزاع. واليوم يستغلّ الإسلاميون الأصوليون المتشددون هذه الحملات كي يبرّروا اعتداءاتهم الإرهابية.
ج. لطالما أكّدت على أنّ الإلمام بقدر ضئيل من التاريخ هو أمر شديد الخطورة دائماً. يمكن بسهولة شديدة التلاعب بهذه الأجزاء الصغيرة. ينبغي التزام الحذر قبل ربط أحداث وقعت منذ ما يزيد عن 800 عام بالحاضر. لا أرى ثمة صلة من الأساس بالحملات الصليبية. التحدي الأبرز أمام أوروبا اليوم هو أن تسأل نفسها عن هويتها، وكيف تتفاعل هويتنا مع الثقافات الأخرى، خاصة في ملفات معقّدة مثل الهجرة. أصرّ على أنّ الحملات الصليبية منحتنا أموراً إيجابية وأخرى سلبية. ندرك أنّ أشخاصاً من ثقافات متباينة ربما يتقاتلون ويدخلون في نزاعات، لكنّنا نعرف أيضاً أنّهم قادرون على التعايش والتواجد جنباً إلى جنب.

 البريكست مأساة متكاملة

س. يدافع اليمين القومي والشعبوي اليوم عن صدام الحضارات والحملات الصليبية بالتزامن مع أزمة اللاجئين وتدفّق موجات الهجرة، وهو العامل الذي لعب دوراً كبيراً في الاستفتاء حول خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي (بريكست) واستغلّه، على سبيل المثال، رئيس الوزراء البريطاني الحالي بوريس جونسون الذي اعتقد أنّه نفسه ينحدر من أصول تركية..
ج. نعم هذا أمر صحيح، لكنّه لا يشعر بقدر كبير من الراحة في هذا الصدد.

س. كيف ترون كمؤرّخين إنجليز، مثلكم، جنون الـ(بريكست)؟
ج. كارثة، البريكست مأساة متكاملة. الغالبية العظمى من زملائي المؤرّخين متفّقون على ذلك. وأنّ الطريقة التي أُجري بها الاستفتاء بعد نقاشات فقيرة وغير كافية قطعاً كانت كارثية هي الأخرى. إنّه فشل تام من قبل الطبقة السياسية بالكامل في البلاد. لم يغمض لي جفن ليلة الاستفتاء بعد ظهور النتيجة. قلت لنفسي مرات عديدة إنّه لو كان أحدهم قد أخبرني قبل 10 أعوام بحدوث ذلك في بلادي لم أكن لأصدّقه مطلقاً. وأي شخص يؤكّد أن كل ما يحدث سيقودنا نحو مكان أفضل هو في حقيقة الأمر محتال ويتعرّض للكذب. نحن بصدد تهديدات جمّة في هذا القرن. لا يزال الأمل يراودني في انتهاء الأمور على نحو جيّد لكن الأمر يتعقّد بمرور الوقت.

س. من الفائز في الحملات الصليبية؟
ج. من الناحية المادية، يمكن القول بأنّ الإسلام هو الطرف المنتصر؛ لأنّهم استعادوا أراضيهم، رغم حقيقة أنّ الحرب دارت على أراضيهم ومناطق نفوذهم وتلعب الجغرافيا في الواقع دوراً كبيراً. لكن الأمر لا يقتصر فقط على هوية المنتصر بل على التغيّرات الجذرية التي جرت لدى الجانبين عقب انتهاء الحملات الصليبية. لم تكن حركة التجارة عبر البحر المتوسط لتصل إلى هذا الحدّ بدون الحملات الصليبية. حدثت طفرة هائلة من حيث التبادل الثقافي خاصة في شبه الجزيرة الإيبيرية، بيد أنّه ظهرت كذلك هوية عدائية سواء في الغرب أو الإسلام. يعتقد المؤرّخون المعاصرون أنّ الغرب ربح أكثر.. لكنّني أكرّر أنّ الأهم هو الأثر الذي تركه هذا الصدام وكيف غيّر العالم.


مقابلة مع المؤرخ البريطاني توماس أسبريدج يتحدث فيها حول الحروب الصليبية، أجراها الصحفي دانييل آرخونا ونشرت بصحيفة (الكونفدنثيال)
رابط الترجمة عن الإسبانية: https://bit.ly/2kyorcd



انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات

آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية