عقيل حبيب: الإرهاب يختبئ تحت الغطاء السميك للتطرف

عقيل حبيب: الإرهاب يختبئ تحت الغطاء السميك للتطرف


15/03/2021

أجرى الحوار: حاتم زكي

قال الباحث العراقي عقيل حبيب إنّ طبيعة الظاهرة الإرهابية في بلداننا العربية واسعة ولها جذورها المعقدة والممتدة تاريخياً والمتداخلة مع مناحي كثيرة، "لذا فهي من أعقد الظواهر الإرهابية في العالم"، مشيراً في حواره مع "حفريات" إلى أنّ كل الحركات الخلاصية وأغلب مفاهيمها ورؤاها السياسية والتنظيمية والحركية لها أصول نفسية.

البحث النفسي لا ينفي أبداً دور بقية العلوم الاجتماعية في دراسة الظاهرة الإرهابية

وأكد الباحث المتخصص في علم نفس الإرهاب والجماعات المتطرفة أنّ مقاتلي "داعش" وقعوا في فخ "التوهم النفسي" بإمكانية بعث الخلافة الرشيدة، موضحاً أنّهم ارتحلوا للقتال والموت "في سبيل فكرة غير واقعية تحت إلحاح الجهاز الإعلامي للتنظيم الذي نسج صورة مثالية لأبو بكر البغدادي عبر مجموعة من العلامات الرمزية والمخيالية التي أضفت عليه هالة من الحضور والجاذبية والقداسة".
ولفت حبيب إلى أنّ التطرف يشغل مساحة معرفية شاسعة لم تدرس حتى الآن بشكل وافٍ على عكس الإرهاب الذي جرى التركيز عليه في الآونة الأخيرة. ولافتاً إلى دور الاضطرابات النفسية في ظهور اندفاع أصحابها نحو التطرف أوضح أنّه "لو توفرت للباحثين فرصة معاينة وتفحّص ودراسة الكثير من قادة وقواعد الجماعات الإرهابية التي كانت تقود حركة الإرهاب خلال السبعينيات والثمانينيات والتسعينيات، لكنّا ربما قد خفّفنا من حدة صعود موجات الإرهاب الحالية".
وهنا نص الحوار:

تقصير دراسة الإرهاب نفسياً

 

 

بحكم مجال تخصصك في علم نفس الإرهاب والجماعات المتطرفة، كيف ترى دور علم النفس في تفسير صعود هذه الجماعات خاصة تنظيم داعش؟
قبل الخوض في هذه النقطة هناك ملاحظتان أجد أنّ من الجدير أن أبدأ بهما، (أولاً) إنّ الاسلام (والمسلم) ظل بمنأى ولفترات طويلة عن العلوم النفسية وخاصة التحليل النفسي باعتباره المدرسة الأوسع والأقدم. ودون أن نستطيع أن نبني معارفنا ونظرياتنا التي تعكس رؤيتنا تفاجأنا بظهور هذا الكائن الغريب المسمّى إرهاب، وقد كبر وصار قوياً.

يعتبر التطرف الديني الحقل الذي ينبت فيه الإرهاب فكل إرهابي هو متطرف بالضرورة وليس العكس

(ثانياً) إنّ تفحص تاريخ هذه العلاقة يكشف هشاشتها، فهي علاقة طارئة وبسيطة لم تتجاوز سنواتها الأولى لا كمّاً ولا نوعاً، هذا العلم (علم النفس) المقصي أصلاً من دائرة الاهتمام العربي والإسلامي كيف يلج ظاهرة معقدة كالإرهاب؟ لسنا وحدنا الذين نعاني نقص الدراسات في هذا المجال؛ فتاريخ هذه العلاقة في العالم كله ليس ببعيد، وقد لا يتجاوز الخمسة عقود، حينما كان علماء النفس من المتخصصين في علم النفس السياسي وعلم النفس الاجتماعي يعرجون مارّين بموضوع الارهاب وهم يقصدون دراسة مواضيعهم الأساسية كموضوع العنف والتسلطية والدوغماتية والتعصب والتمييز والتنميط والتطرف بأنواعه، وغيرها.
حينها بدأت تظهر في فضاء البحث العلمي مفاهيم من قبيل (الجماعات الإرهابية) و(الفرد الإرهابي) و(القتل لأسباب عقائدية). وشكلت الولايات المتحدة الأمريكية منطلقاً لمثل هذه الدراسات التي ظلت تسير بوتيرة بطيئة، حتى حصلت القفزة النوعية في تاريخ دراسة الإرهاب العام 2001. فبعد أحداث 11 سبتمبر شعرت جميع الدول تقريباً بأهمية دراسة هذه الظاهرة وبالتحديد من زاوية العلوم النفسية.

التطرف يلازم أي إنسان بغض النظر عن دينه أو مذهبه أو لونه
ومن خلال تفحص تاريخ الخطاب العلمي السيكولوجي الخاص بدراسة الإرهاب، اجتاحت هذا الميدان نظريات عدة ورؤى مختلفة، ولكن نستطيع إرجاعها أبستيمولوجيا (معرفياً) إلى براديغمين أو نموذجين معرفيين كان هناك صراع خفي بينهما؛ الأول نظر إلى الظاهرة الإرهابية نظرة باثولوجية مرضية، وبموجبه يجب البحث عن الظاهرة الإرهابية في الدليل الإحصائي التشخيصي للاضطرابات النفسية DSM الذي تصدره الجمعية الأمريكية للأطباء النفسيين.

اقرأ أيضاً: الأحزاب الدينية عزّزت الفوضى وشجعت التطرف في المجتمعات
وهنا يصبح الإرهابي شخصاً مختلّاً نفسياً وعقلياً؛ مصاباً بمجموعة من الاضطرابات والأمراض أشهرها اضطراب الشخصية السيكوباتية Psychopathy وهي شخصية معادية للمجتمع بالمطلق، وأصحابها لا يشعرون بأي مشاعر إنسانية إزاء عذاب ضحاياهم، بل بالعكس يشعرون بالتلذذ والشماتة.

قد تلعب البيئة الاجتماعية والثقافية دور المحول أو الدافع الذي يحول التطرف إلى إرهاب

ولو أتيح للمتخصصين إجراء الفحص والمعاينة على بعض المنتمين لتنظيمي القاعدة وداعش لكان من اليسير العثور على مثل هذه الحالات المعتلة، فلقد أظهرت بعض اللقطات والفيديوهات ابتسامة يمكن قراءة حجم التشفي والتلذذ فيها، حين كان هؤلاء المجرمون يقتلون ضحاياهم.
وأخيراً بخصوص هذا النموذج المعرفي المبني على النظرة المرضية نقول إنّ فترة سيادته كانت خلال سبعينيات القرن المنصرم، ومن أبرز ممثليه عالمياً -على سبيل المثال لا الحصر- كان كوبر وبيرسي، أما عربياً فمحمد إبرهيم الدسوقي (سيكولوجية التطرف، 1992).
أما البراديغم الثاني؛ فينظر إلى الإرهابي كشخص سوي ويعرف ما يريد، فهو يريد أن ينشر الرعب والذعر (وهذا يتفق وتعريف الإرهاب) بين الناس لأسباب تتعلق بما يؤمن به من معتقدات وأفكار، لا لمجرد الإيمان بذلك الرعب أو لمرض نفسي وعقلي يعاني منه، وليس لإشباع نزعة تدميرية غريزية في ذاته (هنا يمكن الإشارة إلى فرويد وغريزة الموت، وإريك فروم ومفهوم النزعة التدميرية)، وهذا النوع من الإرهاب له امتداداته المؤسسية في الاجتماعي والثقافي والديني.

 

 

إذن، هل يمكن بداية أن تخضع الظاهرة الإرهابية لدراسة مناهج علم النفس؟ وما هي أقرب مدرسة نفسية قادرة على دراسة الإرهاب في مجتمعنا العربي الاسلامي؟

أعتقد أنّ البداية الملائمة لدراسة الارهاب بشكل عام، ودراسته في منطقتنا العربية بشكل خاص، يجب أن لا تتقيد بتلك الحدود النظرية التي فرضت من قبل النموذجين المعرفيين اللذين تكلّمنا عنهما، وهذا لا يعني ترك البحث العلمي دون نموذج معرفي أو إطار نظري يؤطره بمجموعة من الرؤى ويمده بعدد من الأدوات والمفاهيم والمداخل العلمية، بل يعني الاشتغال على موضوعة الإرهاب بعيداً عن هذه الثنائية، أو أي ثنائيات أخرى، وكلنا يعرف مدى الضرر البحثي والثقافي (خاصة في مجال تأسيس المركزيات) الذي سببته الثنائيات في جميع ميادين البحث، وهذا ما بينته الدراسات الفلسفية؛ فتاريخ الفلسفة يبين أنّها الضحية الكبرى لطريقة التفكير الثنائي.

اقرأ أيضاً: المغرب: لماذا يلوم الشباب ضحايا التطرف شيوخَهم التائبين؟
بعد تجاوز هذه القيود المعرفية فقط لن يكون مهماً اختيار نوع المدرسة التي يتم الاستعانة بها لتفسير النتائج التي تم التوصل إليها، وبالتالي فإنّ الباحث المتخصص سوف يجد أنّ ثمة صورة علمية سيكولوجية شاملة قد بدأت تظهر أمامه على (شاشة) هذه المدرسة أو ذلك الاتجاه النظري الذي يستعين به سواء كان تحليلاً نفسياً أو سلوكياً أو معرفياً.

الكثير من مظاهر التطرف لا يمكن تجريمها لأنّها لا تقع ضمن حدود تهديد الأمن

أما عن الدرس النفسي العربي فلا يمكن التحدث فيه أمام هكذا مواضيع عميقة أبستيمولوجيا ومتطورة نظرياً، تحتاج إلى جهد علمي مؤسسي كبير وتدخّل حكومي وميزانية مادية، في حين نحن لا نملك كل ذلك، وما نزال في طور جمع المعلومات وتدقيق البيانات عن الإرهاب والإرهابيين، وحتى هذه العملية لا تقبل أن تكتمل لأسباب كثيرة، في المقابل إنّ الظاهرة الإرهابية في بلداننا العربية واسعة ولها جذورها الدينية والطائفية والاجتماعية والثقافية والرمزية الممتدة تاريخياً والمتداخلة مع مناحي كثيرة، لذا فهي من أعقد الظواهر الإرهابية في العالم، إذا ما قارنّاها بالإرهاب.
ومن خلال اشتغالي في هذا المجال وجدت أنّ البحث النفسي لا ينفي أبداً دور بقية العلوم الاجتماعية في دراسة الظاهرة الإرهابية، بل ضروري لتكامل الدرس النفسي، فهدف المداخل المتنوعة التي توفرها العلوم الإنسانية الوصول لأوضح تفسير لفهم الظواهر المعقدة مثل الظاهرة الإرهابية محل البحث.

اقرأ أيضاً: كيف نؤسس لبيئة تدعم الاعتدال وتنبذ التطرف؟
يمكن أن نتحدث عن مناهج بحث متنوعة؛ فمثلاً يكون لدينا ما يمكن أن أسميها: أركيولوجيا نفسية لدراسة الإرهاب، وهكذا أنا كمتخصص عربي يحاول دراسة الإرهاب أفكر بأنّ المنهج المناسب هو منهج نسقي يستبطن عدداً من الأنساق منها الاجتماعي والأنثربولوجي والثقافي واللساني والبلاغي داخله، لكي يتم الإحاطة بهذه الظاهرة المعقدة والمتشعبة والمركبة، التي تنتصب كتحدٍّ أمام مؤسساتنا ومراكزنا البحثية والاكاديمية.

علاقة التطرف والإرهاب

 

 

غالباً ما يصف الإعلام الجماعات الإرهابية بالتطرف الديني فهل لك أن تحدثنا عن الفارق بينهما من وجهة نظر نفسية؟
يعتبر التطرف الديني هو القاعدة والحقل الذي ينبت فيه الإرهاب؛ فكل إرهابي هو متطرف بالضرورة وليس العكس، وتكمن أهمية التطرف أنّه لم يوضع في مرمى النظر القانوني؛ فالكثير من مظاهر التطرف لا يمكن تجريمها؛ لأنّها لا تقع ضمن حدود تهديد الأمن، بل تحت بند الحريات الفردية وحرية الاعتقاد، وهنا يمكن أن يختبئ الإرهاب تحت هذا الغطاء السميك للتطرف. والتطرف يلازم أي إنسان بغض النظر عن دينه أو مذهبه أو لونه، وقانونياً يتحول التطرف إلى الإرهاب بمجرد لجوء صاحبه إلى ممارسة العنف المادي على غيره، وقد تلعب البيئة الاجتماعية والثقافية دور المحول أو الدافع الذي يحول التطرف إلى إرهاب، وقد ثبت لي كباحث من خلال الاطلاع على الدراسات والملاحظات أنّ للعقيدة الدينية دور المنشط للميول التطرفية، حيث يتخذ هؤلاء الأشخاص من العقيدة الإسلامية حاملاً فكرياً لتطرفهم وقد تؤدي بهم عقيدتهم إلى تبرير العنف وشرعنته.

اقرأ أيضاً: التطرف الذي يغذي العنصرية
يشغل التطرف مساحة معرفية شاسعة لم تدرس حتى الآن بشكل وافٍ على عكس الإرهاب الذي جرى التركيز عليه في الآونة الأخيرة، حيث تمت دراسته من وجهة نظر الاقتصاد والاجتماع والعلوم السياسية. ومن خلال دراستي للماجستير حول بعض أسباب الإرهاب، أخذت عينة تتكون من 102 إرهابي داعشي، وبعد أن طبقت عليهم مقياسين نفسيين (مقياس التشوهات المعرفية، ومقياس الدوغماتية) وجدت أرضية مشتركة واسعة بين التطرف الديني والإرهاب، مما دفعني لتخصيص أطروحة كاملة لدراسة التطرف الديني المرتفع أو العنيف.
ما هي أبرز معوقات دراسة الإرهاب والتطرف في الوطن العربي؟
يمارس صاحب القرار السياسي والقرار الأمني دور الحاجز الذي يمنع وصول الباحث إلى العينة المبحوثة؛ فلم يمنح أغلب القائمين على القرار في الحكومات العربية الثقة للباحث ليحصل على المعلومات المطلوبة عن الإرهاب، لذلك بقيت تلك الأبحاث قاصرة، هذا فضلاً عن ندرتها وعدم عمقها، فهي إلى الآن ما تزال تعمل في أطر نظرية غير واقعية.

اقرأ أيضاً: كيف كشفت مواجهة التطرف عيوب جبهة الاعتدال؟
لذا نجد الباحث بعيداً عن ممارسة أدواته البحثية فيلجأ إلى وسائل الإعلام والحوارات التلفزيونية التي تتم مع الإرهابيين والتي لا يُعوَّل عليها بالشكل المطلوب علمياً، كذلك يلجأ الى ما ينشره الإرهابيون أنفسهم على منصاتهم، وكلا هاتين الوسيلتين لهما أهدافهما وأيديولوجيتهما، مما يضطر الباحث إلى اللجوء لما ينشره الإرهابيون مثل الجهاز الإعلامي لداعش وإصداراته المتنوعة، وهي وسائل تعكس وجهة نظر الإرهابيين أنفسهم، وفي ذلك مفارقة كبيرة.

فخ "التوهم النفسي"

 


ذكرت أنّ العلوم النفسية في الوطن العربي لم تبلور بعد نسقاً علمياً يفكك الإرهاب، فهل لك أن تطلعنا كيف تتم مثل هذه العملية في دراسة المنابع الفكرية لهؤلاء المقاتلين؟
لو طبقنا واحدة من الأدوات البحثية الحديثة وهي مفهوم المخيال، على سبيل المثال، لدراسة مفهوم مركزي لدى داعش هو مفهوم "الخلافة"، الذي هو مفهوم تجاوزه الزمن إلى الدولة القومية وتجاوزه ثقافياً واجتماعياً ولم يبقَ له شيء في الواقع، ويتسبب تطبيقه بمزيد من العنف والحروب وسفك الدماء، هنا يثار سؤال كيف اقتنع مقاتلو داعش بمفهوم الخلافة هذا في عصرنا الحالي؟ ولماذا قاتلوا وماتوا دفاعاً عن أرض الخلافة كما يدعون؟ هل هم كائنات من عصر آخر؟ هل تعرضوا لعملية خداع أو ...؟

 

قانونياً يتحول التطرف إلى الإرهاب بمجرد لجوء صاحبه إلى ممارسة العنف المادي على غيره

من الممكن أن يكون هؤلاء المقاتلون قد وقعوا تحت تأثير إحدى آليات التشويه المعرفي أو واحدة من الوسائل الدفاعية (الميكانزمات)، قد وقعوا في فخ "التوهم النفسي"، المهم أنّ الجهاز الإعلامي لداعش استطاع أن يستدعي من المخيال العربي الإسلامي صورة الخلافة بشقّيها؛ الراشدة والعباسية، مضخماً من صورة الخليفة الصالح العادل ومؤكداً أنّ دولة الخلافة قد بُعثت من جديد وتجسدت في أبو بكر البغدادي، وقد لعب الجهاز الإعلامي لداعش تحت قيادة أبو محمد العدناني وأبو عبد الله المهاجر دوراً مهماً في هذا الشأن؛ أي في رسم صورة طوباوية مثالية عن الخلافة، دون النظر بما يحيط هذه الاستعارة الجزافية من توهّم وخيال وتخييل.

اقرأ أيضاً: أدبيات التطرف.. هل نواجهها كما يجب؟
لقد اشتغل الجهاز الإعلامي الداعشي على نسج صورة للخليفة أبو بكر البغدادي عبر مجموعة من العلامات الرمزية والمخيالية التي أضفت عليه هالة من الحضور والجاذبية والقداسة؛ بداية من ردائه الأسود وعمامته السوداء التي تنتمي سيميائياً إلى العصر العباسي الذي بلغت فيه الأيديولوجيا الإسلامية عصرها الإمبراطوري، المهيمن.

اقرأ أيضاً: هل مواجهة التطرف تعني الانحياز إلى المعتدلين؟
ولو دققنا بين هذه العلامات واللقب الذي اتخذه إبراهيم عواد البدري (البغدادي) نجد إحالات كثيرة على مخيال الخلافة هذا، منها ما يجري على مستوى الوعي، ومنها ما يحيل إلى اللاوعي الثقافي والديني لجمهور المسلمين.
من جهة أخرى، ثمة إحالة إلى الخلافة الراشدة التي تثير المزيد من الانفعال في المخيال الإسلامي، فقد استطاعت مشهدية صعود البغدادي على منبر الجامع النوري الكبير في الموصل وإعلانه الخلافة العام 2014 مقتطعاً عبارات من خطبة الخليفة الأول أبي بكر الصديق، رضي الله عنه، في محاكاة تحاول أن تعيد إلى الأذهان هذه الخلافة، لكن في لبوس آخروي أو خلاصي مهدوي؛ حيث صور أنّه الخليفة المنتظر في آخر الزمان الذي سيعيد الخلافة ويحقق للإسلام مجده الضائع، بناء على توظيف إعلامي لمجموعة من الروايات والنصوص الدينية، من أهمها قول منسوب للنبي عليه السلام: "تَكونُ النُّبوَّةُ فيكُم ما شاءَ اللَّهُ أن تَكونَ، ثمَّ يرفعُها اللَّهُ إذا شاءَ أن يرفعَها، ثمَّ تَكونُ خلافةٌ على منهاجِ النُّبوَّةِ، فيَكونُ ما شاءَ اللَّهُ أن يَكونَ، ثمَّ يرفعُها إذا شاءَ أن يرفعَها، ثمَّ يَكونُ مُلكًا عاضًّا، فيَكونُ ما شاءَ اللَّهُ أن يَكونَ، ثمَّ يرفعُها إذا شاءَ أن يرفعَها، ثمَّ تَكونُ خلافةٌ على مناهج نبوَّةٍ"، لذلك ترى في الرمادي والرقة والموصل شعارهم (خلافة على منهاج النبوة)، وهي عبارة  مقتطعة من نصها وسياقها، وقد لعب عليها الجهاز الإعلامي الداعشي طويلاً، حتى أصبحت ليس فقط شعاره (الرسمي) بل بتأثيرها أصبح إعلان الخلافة من قبل البغدادي في 2014 أيقونة من أيقونات عالم التنظيمات الجهادية.

 

 

برأيك كيف تلعب الأزمات النفسية دوراً في تطرف أصحابها والاندفاع ناحية الإرهاب؟
بدءاً أريد أن أقول، وربما في قولي شيء من المجازفة، إنّه لو توفرت للباحثين فرصة معاينة وتفحص ودراسة الكثير من قادة وقواعد الجماعات الإرهابية التي كانت تقود حركة الإرهاب خلال السبعينيات والثمانينيات والتسعينيات، لكنا ربما قد خففنا من حدة صعود موجات الإرهاب الحالية، فتنظيمات؛ كالقاعدة أو داعش هي امتداد - بما أنّه امتداد عقائدي وتنظيمي- نفسي لتنظيمات كالجهاد وجماعة شكري مصطفى والقطبيين والمجاهدين العرب الأفغان وجماعة أبو النور المقدسي وغيرها.

للعقيدة الدينية دور المنشط للميول التطرفية حين تُتخذ حاملاً فكرياً يبرر العنف ويشرعنه

من منظور نفسي نرى أنّ كل الحركات الخلاصية وأغلب مفاهيمها ورؤاها السياسية والتنظيمية والحركية لها أصول نفسية، وهي تلجأ إلى مجموعة من المفاهيم كـ "التخييل، والإيهام"،  وكتاب سيد قطب "معالم في الطريق" خير دليل، فقد صدر هذا الكتاب الذي يعد مانفيستو الحركات الإسلامية الجهادية لعقود من داخل السجن، وهو يحمل بصمات العملية النفسية لصاحبها من توهم وجنوح وكره وغضب، وانعكست هذه الأجواء النفسية كمفاهيم وأفكار من قبيل تكفير المجتمع وجاهليته وغيرها من المنظومة القطبية المختلة نفسياً، فكيف نثق في أفكار ومقولات تبلورت في السجن بحكم أنّها بيئة مضطربة، لشخص مضطرب؟!

اقرأ أيضاً: "الاعتدال والتطرف".. محاولة للفهم والمواجهة
وبنفس القياس أسس شكري مصطفى تنظيمه (التكفير والهجرة) حيث وقع تحت تأثير خلل نفسي كان يساهم في بلورة رؤاه ومقولاته، واعتقد أنّه الخليفة الموعود والمهدي المنتظر، كذلك يمكن أن نمسك نفس الخيط ممتداً في كتاب (الفريضة الغائبة) لعبد السلام فرج، وكتابات جهيمان العتيبي، وهكذا أيضاً توصل أبو مصعب السوري (مصطفى عبد القادر ست مريم) الذي عانى من السجن والمطاردة وشعر بخيبة أمل من التيار الجهادي نفسه بعد طردهم من أفغانستان، حيث لجأ السوري لعزاء نفسه وتعويضها بتخيل أنّهم يعيشون في آخر الزمان، وأنّ الخلافة التي لم تتحقق لا في أفغانستان ولا في اليمن -كما كان يحلم بن لادن ومعاونوه- سوف تتحقق عبر قيام مجموعة من المجاهدين بتبني مشروعه النظري الاستراتيجي، حيث لجأ السوري إلى السردية الأخروية في كتابه "الدعوة إلى مقاومة إسلامية عالمية"، والذي أعتقد أنّ عدداً كبيراً من قيادات داعش تأثرت به، حين أعلنت إقامة دولة الخلافة.

اقرأ أيضاً: هل يختلف اليمينيون عن الإسلامويين؟ وما علاقة التطرف بـ "الجوع الديني"؟
نجحت داعش بالاستعانة بالمواقع الإلكترونية في تأسيس منابرها الإعلامية، وجعلها منصات لإطلاق أيديولوجيتها وشعاراتها وبياناتها، وقامت بتحميل آلاف المقاطع الفيديوية والصور ذات الإخراج العالي الجودة، وربط كل ذلك بمخيال الخلافة ودولة الخلافة، حتى خلقت سردية جهادية آخروية متماسكة، متمركزة حول صورة الخليفة.

لم يمنح أغلب القائمين على القرار في الحكومات العربية الثقة للباحث ليحصل على المعلومات المطلوبة عن الإرهاب

ومن ضمن نفس هذه السردية قامت داعش بإصدار عدد من المجلات ذات المسميات التي تحيل إلى الآخروية الإسلامية مثل "دابق" و"رومة" و"شباب الخلافة"، والتي كسبت بها مزيداً من الاتباع بوقت قياسي جداً؛ حيث تستدعي مثل هذه العناوين في مخيلة المسلمين نبوءات النبي عن نهاية العالم وهزيمة المؤمنين لأعدائهم في آخر الزمان.
وهكذا رأينا الأسس النفسية المخيالية التي من خلالها استثمرت داعش بلاغة الصورة. لقد أخبرتنا هذه التجربة أنّه يمكن أن تنجح صورة واحدة في تشكيل وجدان جماعة كبيرة إذا ما استطاعت هذه البلاغة ضرب دفاعاتنا النفسية وقواعدنا المنطقية، وتصل إلى وعينا الجمعي وتدغدغ ما نام بها من صور عن ماضينا وعن ذاتنا وعن الآخر، عن خليفة رسول الله المجاهد، ومنفّذ شرع الله...الخ.
وعوداً على بدء؛ فإنّ عملية فهم ظاهرة متشعبة ومتداخلة كالإرهاب تتطلب بالمقابل نموذجاً نظرياً هو الآخر متكون من صهر فضاءات معرفية اجتماعية ودينية وقانونية وسياسية وأنثربولوجية ولغوية ولسانية واقتصادية.



انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات

آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية